مَخاطِرُ نَزعَةِ الانتصارِ في الشرق الأوسط: إيران، إسرائيل، وأشباحُ التاريخ

يَستَغرِقُ التاريخُ وقتًا ليَصِلَ إلى غايته، وليس قبل أن يسلك مساراتٍ خاطئة وزائفة. لن تعكسَ السنوات المقبلة خططًا مدروسة ووصفاتٍ سياسيةً صارمة، بل ستُشكّلها الغريزة والعاطفة، مُستَلهِمةً من تَوقٍ عميقٍ للإنصاف والانتقام التاريخي. هذا ليس عالمًا بناه الأميركيون أو بُنِيَ من أجلهم.

الرئيس دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو: نزعة الانتصار تعمي أبصارهما.

حسين آغا وروبرت مالي*

يبدو للكثيرين خارج الشرق الأوسط أنَّ الحربَ الأميركية والإسرائيلية مع إيران تسيرُ بخُطى ثابتة: جيوشُ الحليفين الهائلة وأجهزة استخباراتهما موحّدة في مواجهة خصمهما، على أهبّةِ الاستعداد للانتصار، على أعتابِ نصرٍ حاسم لا جدال فيه. يُنظَرُ إلى المعركة ونتيجتها المُتَوَقَّعة من منظورِ سوابق مألوفة: ألمانيا هتلر مهزومة، مستسلمة، مستعدّة للرضوخ لمطالب المُنتَصِر؛ واليابان تتبعها وتحذو حذوها. عندما يتحدّث مؤيدو هذه الحرب عن استسلامِ أحد الجانبين وعن كونِ الآخر على الجانب الصحيح من التاريخ، فإنهم يعتمدون على مفاهيم واضحة للتقدُّم والنهاية. فالتاريخ، بالنسبة إليهم، يتقدّمُ في خطٍّ مستقيم، مُتَّجِهًا بسرعة نحو برِّ الأمان، ومن الأفضل للمرء أن يختارَ الجانبَ الصحيح أو أن يُترَكَ على الهامش وعلى غيرِ هُدى.

بالنسبة إلى مَن يعرفون الشرق الأوسط، تبدو هذه الأفكار غير منطقية. إنها مجرّدُ هراء.

للمنطقة سوابقها المفضّلة. ففي أوائل سبعينيات القرن الفائت، أدّى سحق الأردن للمقاتلين الفلسطينيين إلى ظهورِ منظّمة أيلول الأسود ومذبحة ميونيخ الأولمبية للرياضيين الإسرائيليين. غزت إسرائيل جنوب لبنان في العام 1982 وأجبرت منظمة التحرير الفلسطينية على النفي إلى تونس. وكانت النتيجة: صعود “حزب الله” النشط، ومع مرور الوقت، حركة الفلسطينيين المنفيين بالقرب من إسرائيل، في غزة والضفة الغربية. في ثمانينيات القرن الماضي، ساعد دعم واشنطن للمجاهدين الأفغان على طرد القوات السوفياتية. كما أدّى إلى صعود حركة طالبان وجيلٍ من الجماعات الجهادية، بما في ذلك تنظيم “القاعدة”، والتي كان الأميركيون بمثابة الأشرار الرئيسيين بالنسبة إليها. بعد انتصار واشنطن في حرب الخليج في العامين 1990 و1991، جعل أسامة بن لادن وأتباعه الولايات المتحدة هدفهما الرئيس. بعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، غزت إدارة جورج بوش (الإبن) أفغانستان، وهزمت طالبان، ثم أطاحت نظام صدام حسين في العراق. بعد عشرين عامًا، عادت طالبان إلى السلطة. في العراق، ظهرَ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) من بين الأنقاض، ولعبت الميليشيات الموالية لإيران دورًا مُهَيمنًا في البلاد.

عندما اندلعت الثورات في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العامين 2010 و2011، احتضنَ الغربيون “الربيع العربي”، واحتفوا بالناشطين الليبراليين، وأشادوا بانتشار الديموقراطية. لكن سرعان ما حلّ الظلام؛ وأصبحت المظاهرات السلمية والقِيَم النبيلة التي ألهمتها ذكرياتٍ بعيدة. وفي النهاية، أفسح نظام الرئيس المصري المخلوع، حسني مبارك، المجالَ أمامَ مُستبدٍّ أكثر وحشية. وأدّى الإطاحة بالحكومة اليمنية إلى نشوءِ هيمنة الحوثيين؛ وأدّى سقوط معمر القذافي في ليبيا إلى حالةٍ من الفوضى وعدم الاستقرار والعنف. لقد رحل بشار الأسد، لكنَّ مصيرَ سوريا لم يُحسَم بعد. فالتاريخ لا يتحرّكُ للأمام. إنه ينزلقُ جانبًا ويهبطُ في أكثر الأماكن غير المُتَوَقَّعة.

قد تَنتصِرُ إسرائيل في حربها ضد إيران، كما قد تنتصرُ في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي لبنان، وفي سوريا. قد تبرُزُ مُنتصرةً كقوة إقليمية مُهَيمنة بلا منازع. ستبدو إيران نمرًا من ورق؛ وشركاؤها من غير الدول مهزومون أو مُنكمِشون ضعفاء؛ وبرنامجها النووي في حالة من الفوضى؛ وجيشها مجرّد ظلٍّ لما كان عليه سابقًا. قد لا تتحقّق أحلامُ إسرائيل بتغيير النظام، لكنَّ الفوضى قد تسود. لكلِّ مَن رأى إيران عملاقًا، وأخافه ردعها، وشلّته تهديداتها، هذه أيام الحساب.

قد يستمرُّ هذا لبعض الوقت. قد يطولُ الفارقُ الزمني بين النتيجة المباشرة وما يحدث نتيجةً لتلك النتيجة: قد يستمرُّ “إنجازُ المهمّة” لأيام، أسابيع، أشهر، بل سنوات. ماذا بعد؟ من المُغري قراءةُ الأحداثِ الآنية على أنها الأكثر صلة. هذا صحيحٌ فقط حتى المرحلة التالية. القصّة لا تنتهي. القوّة تستدعي قوّةً مُضادة. النجاحُ يُولّدُ ردودَ فعلٍ تُنتِجُ نقيضه. كلّما اقتربت إسرائيل من النصر الكامل، اقتربت من حالةٍ من عدمِ اليقين التام، من مخاطر ناجمة عن الإذلال المكبوت والاستياء والغضب. هذا النوعُ من النصر ليس مكانًا آمنًا.

بالنسبة إلى الإسرائيليين، كان إغراءُ التحرُّك لا يُقاوَم. انتظَروا عقودًا فرصةً للقضاء على أعدائهم، سواءً كانوا قريبين أو بعيدين، حقيقيين أو مُتَخَيَّلين. ومع زوال جميع القيود، يعتقدون أنهم مُقيَّدون فقط بما يستطيعون فعله – وهم قادرون على فعل الكثير. لكن على الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن تكونَ أكثر وَعيًا. لم ينسَ اليهود تعلّقهم بالأرض المقدسة بعد ألفي عام من النفي. الفلسطينيون واللبنانيون والإيرانيون -أولئك الذين ما زالوا يتذكّرون معركة كربلاء في القرن السابع، والتي أدّت إلى استشهاد الحسين، حفيد النبي محمد- لن تغيبَ عنهم أهوالُ غزة، وقصفُ مدنهم، والمجازر، والعار، وقتل قادتهم، وازدواجية الغرب، ونفاقه، وانهياره الأخلاقي. مع هذه الذكريات العميقة والآفاق البعيدة، فإنَّ الكثيرَ مما يُنظَرُ إليه على أنه حاسمٌ اليوم لن يكونَ ذا أهمية تُذكَرُ في المستقبل.

قد لا تكونُ المخاطر المُنتَظَرة من النوع المألوف. فقد تستلزم إعادة هيكلة “محور المقاومة” الإيراني، على نحوٍ لا يقلُّ شمولية عن المحور الذي فرضته إسرائيل بالقوة. على مرِّ السنين، وفي ظلِّ شعورها بالقوة، بنت إيران ترسانتها التقليدية، مُعتقدةً أنها قادرةٌ على ردعِ إسرائيل وتحدّيها في ساحةٍ لطالما تمتّعت الدولة اليهودية بالهَيمَنة عليها. أقام “حزب الله”، وعلى خطاه، حماس، دُوَيلتَين في لبنان وغزة، كلتاهما بمسؤوليات مدنية ثقيلة وجيوش شبه نظامية. اعتبرت الجمهورية الإسلامية مع هاتين الدُوَيلتَين هذه الإنجازات مؤشرات إلى قوتها، متجاهلةً مدى ضعفها الذي جعلته هذه الإنجازات هشًّا، وكيفَ أنَّ الضعفَ نابعٌ من قوّةٍ ظاهرة.

هناكَ سببٌ يدفعها في البداية إلى تبنّي أساليب حرب العصابات الأكثر مرونة ومراوغة. لقد ارتكزت قوّتها على عدم التكافؤ. وعندما انحرفت إلى محاولة مجاراة عدوها، ضلّت الطريق وفقدت السيطرة. انكشف أمرها. في الأيام والسنوات المقبلة، قد تشعُرُ بأنها مضطرّة للعودة إلى تكتيكاتٍ قديمة. قد لا يطولُ الأمرُ قبل أن يلجأ المزيدُ من الفلسطينيين واللبنانيين والإيرانيين وغيرهم ممن تحرّكهم قضيتهم -يائسين، بعدما قُضي على أصدقائهم أو أقاربهم، مُتلهّفين للانتقام، لا يملكون سوى الظلام- إلى أشكالٍ غير تقليدية من الحرب، أحيانًا مُخطَّطٌ لها جيدًا، وأحيانًا أخرى مُرتَجلة، وهي نُسَخُ اليومِ الأكثر فتكًا وتطوّرًا تكنولوجيًا من طائرات وحافلات الأمس المُختَطفة، وعمليات احتجاز الرهائن، والهجمات الانتحارية. شيءٌ جديد، مختلف، أكثر تدميرًا، وفي الوقت نفسه عودة إلى الماضي. قد تُشير الإنجازات الإسرائيلية في مجال الاستخبارات التقنية، والهجمات الإلكترونية، وتفجيرات أجهزة النداء واللاسلكي، والقتل الدقيق، والمجازر الجماعية للمدنيين، وغيرها، إلى أساليب سيستخدمها الجميع من دون استثناء. والدلائل واضحة بالفعل.

يستغرقُ التاريخ وقتًا ليَصلَ إلى غايته، وليس قبل أن يسلكَ مساراتٍ خاطئة وزائفة. لن تعكسَ السنوات المقبلة خططًا مدروسة ووصفاتٍ سياسيةً صارمة، بل ستُشكّلها الغريزة والعاطفة، مُستلهمةً من تَوقٍ عميقٍ للإنصاف والانتقام التاريخي. هذا ليس عالمًا بناه الأميركيون أو بُنِيَ من أجلهم. سيكونون في البحر.

Exit mobile version