“الأسد الصاعد”: هل يُمكِنُ اجتثاثُ الثورةِ من الدولة؟

رُغمَ وضوحِ الاستراتيجية الإسرائيلية في استهداف “الدولة الأمنية” وليس “الدولة الوطنية” في حربها ضد الجمهورية الإسلامية، فإنَّ الفصلَ بينَ الاثنين في السياق الإيراني يُمثّلُ تحدّيًا بُنيَوِيًا عميقًا.

أذرع إيران في المنطقة: احتمالاتُ دخولها على الخطّ من عدمه لم تُحسَم بعد.

ملاك جعفر عباس*

فجرُ الثالث عشر من حزيران (يونيو) 2025، عَبَرَ سلاحُ الجوِّ الإسرائيلي بمقاتلاته ومُسَيَّراته الأجواءَ إلى إيران. نفّذَ سلسلةً من الاغتيالات الدقيقة لرأس هرم “الحرس الثوري الإسلامي” والجيش ونخبة العلماء النوويين، قصفَ قواعد صاروخية وجوية ومنشآتٍ نووية، فيما كان قادةُ إيران يغطّون في نومٍ عميق، اعتقدَ كثيرون أنَّ النظامَ انتهى.

تستفيقُ إيران بعد ثماني عشرة ساعة فتُمطِرُ إسرائيل بوابلٍ من الصواريخ يُسبّبُ دمارًا لم تشهده إسرائيل قط، لتبدأ واحدةٌ من أخطر الحروب في تاريخ الشرق الأوسط، معروفةٌ بدايتها، ولكن من غير المعروف أينَ وكيفَ ومتى ستنتهي.

إنَّ أهدافَ العملية المُعلَنة إسرائيليًا هي القضاء على التهديد النووي والصواريخ الباليستية، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لم يَستَبعِد في حديثٍ مع قناة “فوكس نيوز” الأميركية أن يكونَ “تغييرُ النظام نتيجةً للحرب لأنه نظامٌ ضعيف”. وقد حثَّ نتنياهو في خطابه ليل الجمعة الماضي الشعب الإيراني على مواجهة النظام: “حان الوقت للشعب الإيراني ان يَتَّحِدَ حولَ عَلَمِهِ وإرثِهِ التاريخي، بالدفاع عن حريتكم من النظام الشرير والقمعي”. ولم يستغرب كثيرون حديث نتنياهو حيث أنَّ اسم “الأسد الصاعد” الذي أطلقته إسرائيل على العملية برمزيّتيه التوراتية والفارسية وطبيعة الأهداف التي طالها القصف اعطى مؤشرات لكثيرين على أنَّ الهدفَ الحقيقي لهذه العملية قد يكون فعليًا النظام الإيراني.

وقد زاد من تلك القناعة التعويم الكبير لرضا بهلوي نجل الشاه الذي حَمَّلَ مرشد الثورة علي خامنئي مسؤولية ما آلت اليه الأوضاع في إيران، داعيًا الشعب الإيراني إلى استرجاع بلاده وقوات الأمن إلى الانشقاقِ عن النظام. صحيحٌ أنَّ بهلوي لم يطرح عودة الملكية في حال سقوط النظام، إلّا أنه قال إنه يُريدُ أن يستعمل اسمه لدَعمِ حراك يفضي الى ديموقراطية علمانية في إيران. ويعتقد جمعٌ غير بسيط من الإعلام الغربي بأحقّية بهلوي في حكم إيران ليس فقط لأنه كان وليًّا للعهد عندما خُلِعَ والده من الحكم، بل أيضًا لأنه الوجه الأبرز من معارضي النظام في الخارج ، ولأنه قد يفتح الباب أمامَ عودة إيران إلى المجتمع الدولي والاستثمارات الأجنبية ورفع العقوبات، إلّا أنَّ بهلوي ليس أحمد الشرع، فالرجل ليست لديه قوة عسكرية على الأرض، وليس لديه وجودٌ في الدوائر السياسية والمدنية والدينية، وبالتالي لن تكونَ له القدرة على الحفاظ على وحدة البلاد، أو بالحد الأدنى، الحفاظ على السلم الأهلي. وقد يكونُ بعضُ الدوائر في واشنطن وتل أبيب وغيرهما يُفكّرُ فعليًّا ببهلوي كخيارٍ حقيقي لإيران الجديدة، إلّا أنَّ دروس أفغانستان والعراق وسوريا ربما تكون أنضجت دوائر أخرى ترى أنَّ تغييرَ الأنظمة العقائدية بالتدخُّلِ العسكري المباشر رياضةٌ عفا عليها الزمن، وربما من الأفضل إعادة تدوير النظام الحالي بما يتناسب مع المتطلبات الإقليمية الجديدة.

الهدف الأعمق للهجوم الإسرائيلي

لذا تبدو الحملة العسكرية الإسرائيلية مُمَنهَجة وغير عشوائية في لائحة أهدافها لناحية اصطياد رموز الحرس الثوري العسكرية والأمنية ورموز البرنامج النووي والصواريخ الباليستية من دون المساس برموز الدولة المتمثّلة بقادتها السياسيين ومؤسّساتها السيادية وجيشها وحتى بجذورها الدينية في قم. فالضربات الجوية الدقيقة والتصريحات الرسمية والمحدّدات الميدانية تشيرُ إلى أنَّ تل أبيب لا تسعى إلى إسقاط “الدولة الإيرانية”، بل إلى تفكيكِ البنية الإيديولوجية والأمنية التي تُمَكّنُ النظامَ من فَرضِِ سلوكه التوسُّعي —أي الحرس الثوري الإسلامي وبرنامجه النووي— مع تَركِ الهياكل الإدارية للدولة قائمة. الهدفُ الأعمق هو إعادة تشكيلِ طبيعة النظام، لا انهياره. فقد شملت الأهداف قواعد جوية للحرس الثوري في همدان وتبريز ومشهد، وهي مراكز تشغيل للمسيّرات والصواريخ ومقرات القيادة والسيطرة للحرس، خصوصًا في غرب إيران وداخل طهران، ومنشآت تصنيع وتجميع للطائرات المسيّرة والذخائر الدقيقة، ومركز القيادة السيبرانية للحرس الثوري، الذي أُبلغَ عن تدميره جُزئيًا بضربة إلكترونية دقيقة. وفي حال استمرَّ هذا النمط من الاستهداف ولم يتوسّع ليشمل مؤسّسات مدنية أو سياسية على نطاقٍ أوسع، تكونُ إسرائيل حقّقت هدفَ شلِّ قدرة الحرس الثوري على إدارة التمدُّد الإقليمي لإيران وحرمته من أدوات الردع المتقدّمة.

ورُغم استهدافِ مواقع نووية استراتيجية، فإنَّ أنماطَ الضربات توحي بأنَّ الهدفَ هو التعطيل المؤقت، ورفع التكلفة السياسية والعسكرية، لا الإبادة التامة للبنية النووية. ففي نطنز، أُصيبت المنشآت السطحية فقط، مع استحالة تدمير المنشأة الأساسية المُحَصَّنة تحت الأرض في غياب القدرة على شنِّ هجومٍ أرضي كما حصل في عملية مصياف السورية في الثامن من أيلول (سبتمبر) 2024 والتي دمرت فيها قوة من وحدة “شالداغ” الإسرائيلية مصنعًا مخبّأً في الجبال بعد اقتحامه في عملية استغرقت اكثر من ثلاث ساعات على الأرض. أما في فوردو، فقد تركّزت الضربات على مداخل الأنفاق، وليس على تفجير المجمع بأكمله. فيما طالت الضربات عددًا من العلماء المُرتَبطين بتطوير البرنامج النووي، تكرارًا لتكتيك تصفية العالم النووي محسن فخري زاده في العام 2020. إنَّ سرائيل تضربُ البرنامج النووي الإيراني وهي تُدرِكُ أنَّ ضرباتها يجب ان تتوقّفَ عند حدودٍ مُعَيَّنة لا تشعل موجة تعبئة وطنية داخليًا أو تؤدّي إلى انهيارٍ شامل غير محسوب.

الفصل بين “الدولة الأمنية” و”الدولة الوطنية”

رُغمَ وضوحِ الاستراتيجية الإسرائيلية في استهداف “الدولة الأمنية” وليس “الدولة الوطنية”، فإنَّ الفصلَ بينَ الاثنين في السياق الإيراني يُمثّلُ تحدّيًا بُنيَوِيًا عميقًا. فصحيحٌ أنَّ إيران عاشت في ثُنائية الدولة والثورة لأربعة عقود، إلّا أنَّ الحدودَ الفاصلة بينهما تآكلت مع مرورِ الوقت لصالح الثانية. فالحرسُ الثوري لم يَعُد مُجرَّدَ ذراعٍ عسكرية أو أمنية، بل تطوّرَ منذ نهاية الحرب الإيرانية-العراقية إلى فاعلٍ اقتصاديٍّ مُهَيمِن يسيطر، عبر مجموعة خاتم الأنبياء وشركات “واجهة”، على مشاريع البنى التحتية، والطاقة، والاتصالات، والموانئ وغيرها من المؤسّسات التجارية والصناعية. وهو شريكٌ في القرار السياسي حيث يتمتّعُ بنفوذٍ على مؤسسات صنع القرار، لا سيما مجلس الأمن القومي، ويديرُ عمليًا السياسة الخارجية في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن. ويُعتَبَرُ الحرسُ راعي النظام الإيديولوجي من خلالِ احتكارِ سردية الثورة ويُشكّلُ الرافعة الأساسية للمرشد الأعلى علي الخامنئي والدرع الواقي له من أيِّ تحدٍّ داخلي أو انقسامٍ نخبوي. وبالتالي، فإنَّ أيَّ محاولةٍ لعَزلِ الحرس الثوري عن الدولة الإيرانية لا تعني فقط تفكيكَ جهازٍ أمنيٍّ وعسكري، بل نزعَ العمود الفقري لهيكل الحكم الحالي. وهذا ما يجعل الاستراتيجية الإسرائيلية أكثر تعقيدًا: كيف تضرب بدون أن تهدم؟ كيف تُضعِفُ النظامَ بدون خلقِ فراغٍ يحوّله إلى كيانٍ عدمي أو فوضوي؟

ففي خطابٍ رسمي بعد انطلاق الغارات، قال نتنياهو إن إسرائيل ليست في حربٍ مع الشعب الإيراني، ولا تسعى إلى إسقاطِ دولته، إنما تُقاتلُ لتفكيك البنية التي تستخدمُ الإرهابَ والسلاح النووي لتهديد إسرائيل والمنطقة. وربما يكون نتنياهو قد تعلّمَ من دروس الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق ومن التجربة السورية الوليدة أنَّ إعادة بناء الدول عبءٌ ليست إسرائيل في وارد تحمّله. ويتشابه هذا النهجُ إلى حدٍّ كبيرٍ بذاك الذي اتبعته في حربها على “حزب الله” حيث ركّزت الأهدافَ على البنية العسكرية واللوجستية والعُمق العقائدي لكسر التأييد الشعبي، مع الامتناع عن ضرب الوزارات أو المؤسّسات الخدمية مباشرة. وتخشى إسرائيل أن يؤدّي انهيارُ النظام إلى فراغٍ سياسي تستغلّهُ تشكيلاتٌ عسكرية مُتَطرّفة تدفع البلاد إلى سيناريو شبيهٍ بالعراق بعد 2003. كما إنَّ غيابَ البديل الحقيقي يُضعِفُ المُراهنة على إمكانية الانتقال الى حالة سياسية صديقة بيُسرٍ وسلاسة، ومن هنا ضعف الرهان على شخصياتٍ كرضا بهلوي. وقد يولّد سقوط النظام أزمةَ نزوحٍ كبرى وفوضى في الإقليم ستنعكسُ بشكلٍ مباشر على الدول المجاورة لإيران وأوّلها دول الخليج التي تسعى إسرائيل جاهدةً إلى كسبِ ودّها وضمِّ أكبر عددٍ منها إلى المسار الابراهيمي، كما قد يشعلُ حربَ سَيطَرةٍ على “التَركة” الإيرانية بين دولِ الطوق التي بدأت تُعايِنُ أقاليم وجماعات عرقية يمكنُ أن تنضمَّ إليها في إعادةِ رَسمٍ شاملة للمنطقة قد لا تتوقّف عند حدود ايران. لذا تسعى إسرائيل من خلال أدواتها العسكرية والسياسية والإعلامية إلى تعميقِ الانقسامات بين الحرس الثوري الإسلامي والمؤسّسة التقليدية وبين النخب الاقتصادية والشباب، بما قد يُفضي إلى إعادةِ تشكيلٍ تدريجية لطبيعة النظام من دونِ تهديدِ الكيان.

رفضت إيران بدايةً التخلّي عن أذرعها ووكلائها وعُملائها، وبعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 وما تلاه من إبادة في غزة وهزيمة في لبنان والعراق، أدركت أنَّ استثمارها الضخم فيهم لم يَعُد مُجديًا. جلست إلى طاولة المفاوضات رافضةً المَسّ ببرنامج الصواريخ الباليستية الذي يبدو أنها تفقده شيئًا فشيئًا إن من خلال رمي المخزون على إسرائيل من دونِ قدرةٍ على تعويضه، أو من خلال الاستهداف الإسرائيلي المباشر له. وضعت لا كبيرة على التخصيب في لحظةٍ حاسمة من التفاوض، وعمل وزير الخارجية عباس عراقجي عكس مقولته الشهيرة “مَن يبيع الثلج تحت الشمس عليه أن ينجز الصفقة بسرعة” فماطلَ لتأتي الضربة الإسرائيلية على غفلة من الجميع، فتُعيدُ البرنامج سنوات ثمينة إلى الوراء، فهل تُقدِمُ إيران طَوعًا وتحتَ وابلِ الضربات على تفكيكِ الحرس الثوري والبرنامج النووي حمايةً لبقاءِ الدولة أم تُقرّرُ الاستمرارَ في المعركة حتى النهاية؟

من المُبكِرِ الحديث عن نتائج هذه الحرب التي تكثر فيها المنعطفات المخفية. فاحتمالاتُ دخول “الأذرع، والعملاء على الخطّ من عدمه لم تُحسَم بعد. كما لم تُحسَم مسألة التدخُّل الأميركي المباشر فيما تبدو إيران قادرة حتى الآن على إلحاق خسائر ليست بسيطة في العمق الإسرائيلي وبشكلٍ لم يَرَهُ الإسرائيليون من قبل. وصحيحٌ أنَّ إسرائيل لم تَعُد تلك الدولة التي لا تتحمّلُ الحربَ الطويلة وأنَّ الإسرائيليين اعتادوا على النزول إلى الملاجئ، إلّا أنَّ فكرةَ حرب استنزاف بين دولتين لا تتشاركان حدودًا برّية تُرتّبُ تكاليفَ عسكرية واقتصادية باهظة على الطَرَفَين، وقد تُعيدُ رَسمَ الأولويات وخفض التوقّعات بشكلٍ يفتحُ مسارَ الحلِّ الديبلوماسي.

Exit mobile version