“الظلمُ مُؤذِنٌ بخَرابِ العُمران”!

الدكتور فيكتور الزمتر*

طَوَت الإحتجاجاتُ، التي اندلعت في كاليفورنيا ضدَّ سياسة الإدارة الأميركية في ما يخصُّ الهجرة، أُسبوعَها الأوَّل، مُولِّدةً كُرة ثلجٍ من التظاهرات تدحرجت، أقلُّه لتاريخه، إلى مُدُنٍ عدة في خمس ولاياتٍ أميركيةٍ.

وسرعان ما كشفت هذه الإحتجاجات عن قلوبٍ عامرةٍ بالحقد والتأهُّب للإنتقام، بين الجمهوريين والديموقراطيين، فجَّرَها إرسالُ الرئيس دونالد ترامب قوّاتٍ من الحرس الوطني الفيدرالي ووحدات من مشاة البحرية لضبط الوضع، بعد اتهام حاكم الولاية وسلطاتها المحلية بالتخاذُل، ما عدَّه الديموقراطيون تجاوزًا للصلاحيات الدستورية، الفاصلة بين صلاحيات السلطة الفيدرالية وصلاحيات سلطة الولاية المحلية.

وزادَ في الطين بَلّة، فرادة ولاية كاليفورنيا، لجهة كونها أكبر الولايات الأميركية من حيث عدد السكان، وثالث أكبر الولايات من حيث المساحة بعد ألاسكا وتكساس، ولاعتبار اقتصادها أكبر اقتصادات الولايات الأميركية الأُخرى، والذي يتراوحُ مركزُه بين الرابع والخامس في العالم (في العام 2024، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولاية حوالي 4.1  تريليونات دولار أميركي). تُضافُ إلى ذلك، هويَّتُها الديموقراطية وطموحُ حاكمها الشاب، “غَفِن نيُوسُم” (Gavin Newsom)، ليكون المرشح الرئاسي الديموقراطي المُنافس للمرشح الجمهوري، في العام 2028.

وفي حين اتَّهَمَ الحاكمُ نيُوسُم الرئيسَ ترامب بالإعتداء على الديموقراطية، انتقد الرئيسُ الأميركي أداءَ حاكم ولاية كاليفورنيا، مُلمِّحًا إلى أنَّه سيكون سعيدًا إذا ما جرى اعتقاله.

تأتي هذه الإحتجاجاتُ تتويجًا لحالة احتقانٍ، تعيشُها الولايات المُتحدة، مُنذ سنواتٍ، حيث يختلطُ فيها حابلُ السياسة الداخلية بنابل الصلاحيات الدستورية. ولَئِن اتسقَ هذا الإحتقانُ مع نظام الحكم الأميركي، القائم على سيبة الثُنائية الحزبية، بين الجمهوريين المُحافظين والديموقراطيين الليبراليين، فقد يكونُ لوصولُ رئيسٍ من خارج التقليد السياسي، ومن قماشة الرئيس دونالد ترامب، تحديداً، عاملاً مساعداً في زيادة الإحتقان وجعله أكثر قابليةَ للإنفجار.

غنيٌّ عن البيان، أنَّ الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، قد تسلَّمَ حكم البلاد، من دون تسليم سلفه، الرئيس الحالي ترامب، بهزيمته، مع ما رافقَ ذلك، يوم 6 كانون الثاني (يناير) 2020، من مشهديةٍ غير مسبوقةٍ في حرم الكابيتول، مبنى الكونغرس الأميركي. وقد أَخرجت تلكَ المشهديةُ التنافُسَ الحزبي عن نطاقه السياسي. وزادَت في الإحتقان الحملاتُ الإعلاميةُ الشرسةُ وعشراتُ الدعاوى القضائية ضدَّ ترامب، بقدر ما رافقَ معركةَ كسر العضم الرئاسيةَ الأخيرة، من حملات التشهير الشخصي والأخلاقي، التي لم “تُوفِّر سترًا مُغطّى”، ما تركَ ذيولًا بطعم الحقد والعداء.

ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تمَّ إصدارُ العديد من المراسيم الرئاسية التنفيذية، نقضت سياسةَ الرئيس السابق بايدن، وأُطيحَ بغالبية مفاتيح إدارته السابقة، في شتى مرافق الدولة، واستُبدِلوا بقياداتٍ موثوقةٍ ومُقرَّبةٍ، على قاعدة الولاء الشخصي للرئيس الجديد. وقد شابَ عمليةَ التغيير طابعُ الإنتقام، بالرُّغم من التقليد الأميركي، الذي يقضي بتغيير غالبية المسؤولين الكبار، لدى انتخاب رئيسٍ جديدٍ.

في هذه الأجواء الداخلية المشحونة، كان بديهيًا أنْ يتناوبَ الجمهوريون والديموقراطيون على إلصاق التُهَمُ بحقِّ بعضهم البعض، وأن يخرجَ تضاربُ الرُؤى السياسية إلى العلن، تحت ستار الدفاع عن المصالح الوطنية العليا.

فعلى العموم، يُعرَفُ عن الجمهوريين تمثيلَهم للأُصولية اليمينية المُحافظة، وسياستٍهم الإنغلاقية (التمييز العنصري، بناء سور مع المكسيك، رفض الإجهاض، حرمةُ العائلة، الإنسانُ ذكرٌ أو أُنثى، رفضُ المُهاجرين … – رُغم أُصول الشعب الأميركي المهاجرة ..) بينما يدَّعي الديموقراطيون انفتاحَهم على الآخر، ورعايتهم للأقليات العرقية والدينية، والتسامح مع حرية المرأة بالإجهاض…

أمّا على الصعيد السياسي الخارجي، فلَطالما تطابقَ الموقف إلى حدٍ بعيدٍ، لدى الطرفين، كالموقف المُوحَّد من آحادية الزعامة الأميركية الدولية، وتعزيز النفوذ الأميركي في العالم، عبر الأحلاف السياسية والعسكرية، بوجه روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية واليسار الدولي … إلى جانب الموقف الأميركي الثابت من تايوان وإسرائيل، ظالمةً كانت أو مظلومةً. بينما تتفاوتُ مُقارباتُ الجمهوريين والديموقراطيين، في ما يخصُّ الشأنَ الداخلي، لجهة تحسين مستوى عيش المواطن الأميركي، بدونِ أنْ تبلغَ تلك المُقاربات حدودَ الخلاف الجوهري.

إلّا أنَّ موضوعًا قديمًا جديدًا، يتَّصلُ بالمَوروث التربوي والأخلاقي، دخلَ على خطّ السجال الداخلي الحاد، من زاوية حقوق المُعتقد وليبرالية التفكير وحرية التصرُّف، سعيًا لفرض ما يُسمّى بالقِيَم الغربية، التي لا ترى غضاضةً في شيوع الإلحاد والمثلية الجنسية وتشجيع الناشئة على اختيار جنسها.

وعليه، يُخاطرُ الأميركيون بوحدتهم الوطنية، وبالتالي، بمصير كيانهم السياسي، بسبب انقسامهم العميق حول هذه الموروثات والأفكار الجدلية، لما تحملُه من بذور الشقاق والفراق، نتيجة اتِّصالها بصميم التربية والأخلاق، المُنبثقة عن الإيمان.

أثناءَ الحديث عن مؤشَّرات هذه الإضطرابات، يحلو للبعض أنْ يقفزَ إلى الإستنتاج، بأنَّ تضافُرَ التحرُّك الإجتماعي المطلبي مع الغليان السياسي الداخلي، في بيئةٍ من التنوُّع العرقي والديني والمذهبي، إنَّما يُظهرُ عوارضَ الوهن والترهُّل في البُنية السياسية للنظام الأميركي. وقد يكونُ في ذلك بعضُ الحقيقة، تماشيًا مع مسار الممالك والأُمبراطوريات في صعودها وأُفولها.

ووضعًا للأُمور في نصابها، ما تزالُ الولايات المُتحدة تتربَّعُ على عرش الزعامة الدولية، سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا. وبالتالي، قد يكونُ من السذاجة التوقُّعُ أن تُؤدِّي تلك الإحتجاجاتُ المطلبيةُ والمُماحكاتُ الداخليةُ، المحدودةُ في الزمان والمكان، إلى انفلات الأُمور من عُقالها. هذا، لا يعني أنَّ الولاياتَ المُتحدةَ تتسيَّدُ المشهدَ العالمي من دون مُنافسٍ، كما كانت من قبل، بسبب انبعاث أُممٍ نفضت عن كاهلها غبار الفقر (الصين والهند) والحرب (ألمانيا واليابان) والتفكُّك (الإتحاد الروسي)، فضلًا عن قيام مُنظَّماتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ، كالأتحاد الأوروبي ومجموعة دول “بريكس” (BRICS).

على كلّ حالٍ، الكلامُ على نشوء الممالك وأُفولها ليس أُمنياتٍ وأضغاثَ أحلامٍ، بل وقائع تضيقُ بها مُتونُ التاريخ. بالأمس القريب، أدَّت “الحرب العُظمى” (1914-1918) إلى تفكَّك السلطنة العُثمانيةُ، وزوال حُكم القياصرة لصالح الثورة البلشڤية. كما أفضت الحربُ العالمية الثانية (1939-1945) إلى ضُمور النفوذين الإنكليزي والفرنسي، وحلول النفوذ الأميركي مكانهما. كما شهدَ مطلعُ تسعينيات القرن الفائت (26 كانون الأول/ديسمبر 1991) تفكُّكَ الإتحاد السوڤياتي وقيام الإتحاد الروسي مكانه.

والحديثُ على قيام الممالك وزوالها، لا يكتملُ بدون الغَرْفِ من مُعين أفكار الفيلسوف والمؤرِّخ وعالِم الإجتماع، العلامة ابن خلدون (1332-1406)، صاحب “المقدّمة” الشهيرة، عن “العُمران”، أي المُجتمع الإنساني، القائم على دور الإنسان في البناء والإنتاج، حفاظًا على الجنس البشري واستقراره. فصاحبُ “المُقدّمة”، يضعُ عُمرًا للدُوَل، كأعمار البشر، ويرسمُ لها مسارًا، تُعرِّجُ فيه أجيالُها على ثلاثة أطوارٍ: الجيلُ الباني والجيلُ المُقلِّد والجيلُ الهادم. وقد أولى زوال الممالك والدول اهتمامًا كبيرًا، ردَّ مُسبِّباتَه إلى تضافُر ضُعف السلطة مع استشراء الفساد والركون إلى القناعة وضُمور الطموح واستغلال السلطة والتبذير والإنصراف إلى حياة الدعة والترف، مُفردًا للظُلم في سلوك الدُوَل موقعًا مفصليًا في زوالها، مِصداقًا لشعار الحكم الرشيد، “العدلُ أساسُ المُلك”.

خُلاصة القول، إنَّ الدُوَلَ التي لا تُقيمُ وزنًا للقِيَم والأخلاق، حيال داخلها ومحيطها، آيلةٌ إلى السقوط، وإنْ طالَ زمانُها.

لقد قالَ ابنُ خلدون: “الظلمُ مُؤْذِنٌ بخرابِ العُمران”، فلاقاهُ أميرُ الشعر، أحمد شوقي، بمِعادلةٍ تؤكِّدُ ارتباط بقاء الاُمَّة ببقاء أخلاقها، إذ قالَ:

إنَّما الأُممُ الأخلاقُ ما بقيت      فإنْ هُم ذهبت أخلاقُهم ذهبوا.

Exit mobile version