السَلبِيَّةُ السَوداء

رشيد درباس*

إِذا هَبَّت رِياحُكَ فَاِغتَنِمْها
فَعُقْبى كُلُّ خافِقَةٍ سُكونُ
الإمام علي

قبل أن تُكْسَرَ عقدة الفراغ الرئاسي، وَيُنْتَخَب العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية، كانت تُديرُ السلطةَ حكومةٌ مُعلَّقة في الفضاء، يغيبُ وزراؤها عن مجالسها فيضعون النصاب  في مهبِّ المجهول، لكنهم يمسكون جيدًا بأزمة وزاراتهم. وكان العدو الإسرائيلي يضرب في كلِّ مكان، لا سيما في الجنوب والضاحية والبقاع، ويرصد عناصر المقاومة وقياداتها في أبعد الأبعاد وأعمق الأعماق، في حين كانت العملة الوطنية تنهار والمصارف المقفلة تلقي القبض على ودائع الناس بمختلف طبقاتهم.

وفي الإقليم، أخذت إسرائيل الضوءَ القاتل من الولايات المتحدة، ومارست، وما تزال، عمليةَ إبادةٍ وترحيلٍ تُذكِّرُ بأعمال النازيين. كان النظامُ السوري السابق يعيشُ في غرفة العناية الإيرانية غير الفائقة، ويكابد الإهمال الروسي الذي تركه عرضةً للقصف الإسرائيلي. لكنه، رُغمَ حالته هذه، شكّلَ على مدى عقود عاملَ شللٍ للدولة وتهديدًا متماديًا لمَن يعترضُ عليه، وحاجزًا دون لبنان والانفتاح على العالم والأشقاء العرب.

في برهةٍ زمنية قصيرة جدًّا، وقعت تطوّرات لم تكن بالحسبان: خروجٌ من الفراغ، تشكيلُ حكومةٍ بلا ثُلاثية ذهبية أو مقدّسة، تراجُعُ تأثيرِ “الممانعة” على العمل الحكومي، خطابُ قسمٍ يتضمّن ركائزَ جوهرية، بيانٌ وزاري عملي خالٍ من الوعود الخرافية، انحسارُ النفوذ الإيراني، سقوطُ نظام الأسد، وانطلاقةٌ كبرى في اتجاه استعادة علاقات لبنان الدولية والعربية، بدليل ما قوبلت به زيارات رئيسَي الجمهورية والحكومة للدول الشقيقة من ترحابٍ وإيجابية، فكانت أولى البوادر رَفعَ حظرِ زيارة لبنان عن المواطنين الإماراتيين، مع الأمل بمزيدٍ من الانفراجات المُماثلة.

ولعلَّ أهمَّ التطوّرات قاطبة ذلك الانفتاح العربي والدولي على سوريا، وبدء عمليات إسقاط العقوبات ورفع الحظر، وتحصين النظام السوري الجديد بحمايةٍ معنوية وسياسية  بما أتاح لنا أن ننفضَ عن وجداننا خشيتنا المزمنة منه، وأن نبدأ في فتح إمكانات التخلُّص من منظومة التهريب ومصانع الكبتاغون، وهذا يفتح احتمالات إيجابية كبرى أهمها الفُرَص الاقتصادية غير مسبوقة والتي من شأنها إعادة التوازن للاقتصاد  اللبناني.

أما الازدحام السوري في لبنان، فما زالت مسألته تدور بين فوضى المعالجة وشطط اقتراحات المفوضية العامة لشؤون اللاجئين ((U.N.H.C.R والتوجُّس من التوطين، وإن كانت أزمته الآن تخرج موضوعيًّا من عنق الزجاجة إلى انفتاح مُتاح على حلولٍ متعددة، أولها أنَّ فكرةَ اللجوء بالمفهوم الدولي لم تَعُد قائمة على الإطلاق، فالنظامُ  الذي هَجَّرَ أهله، أصبح بائدًا، فيما النظامُ الجديد لا يلاحقهم ولا يدعوهم إلى التجنيد الإجباري. بالمقابل، تستطيع  الحكومة الآن وبدون أية قيود أن تضعَ سياستها الوطنية تجاه هذا الموضوع، وتذهبُ إلى الدول الشقيقة والمنظمات المعنية، باقتراحاتٍ ملموسة قابلة للتنفيذ. فحَقُّ لبنان على العرب، أن يُؤازروه، ليكونوا شركاءه في علاج جراح اللحم العربي الذي تكدّسَ على أرضنا، وهنًا على وهن. وبدهي، أنَّ المنظمة الدولية لا تستطيع أن تفرض علينا شروطها، بعدما كنّا في الماضي نجد المعادلات المقبولة في ظلِّ تمسُّكنا بسيادة الدولة على أرضها. إنَّ تحريرَ الدولة السورية من العقوبات الدولية والعربية، يؤهّلُ البرَّ السوري ليكون أوسع مساحة للإعمار وفُرَص العمل، وهذا بحدِّ ذاته عنصر يجذب اللاجئيين إلى العودة، ويُحفّز للبنانيين على الإسهام في إعادة بناء سوريا، لهذا أقول بكلِّ ثقة إنَّ الدولة اللبنانية قد خرجت فعليًّا من الخرائب، ولكن البوم لا يزال يلاحقها بأصداء النعيب.

من أخبار ابن الرومي، أنه كان يقطع شارعًا فوَجَدَ أمامه كومة تمر، فأخذه الوسواس إلى إضافة حرف (لا)، فأصبحت (لا تمر)، فعاد على أعقابه. وكثيرون يقولون لنا: “لن يمرَّ لبنان”، متسلِّحين بمطارحات، ومحاججات، مستخفّين بما أُنجِزَ وينجَز، مُشكِّكين بالقدرات والنيات، داعين في النهاية إلى الاستسلام والقعود في المنطقة الفاصلة بين اليأس والانتحار.

ورُغمَ ذلك، ثمة مؤشرات تدعو للتفاؤل، منها الاتفاق بين الدولة اللبنانية ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وما تضمّنَ من جدولٍ زمني لإخلاء المخيمات الفلسطينية من السلاح. لكن، ومع الأسف، ورُغمَ هذا التقدُّم المبدئي المهم، يحتلُّ سطح الحوار السياسي، ترويجٌ مُحبطٌ لمقولةِ أنَّ عباس عاجزٌ عن فرض الحل، وأنَّ فصائل أخرى تتمرّد على ذلك الاتفاق، فكأني بأصحاب هذا المذهب يستمرِئون إدامة بقاء المنظمات المسلحة، ويستخرجون تعقيدات لكلِّ حلٍّ ويقفلون النوافذ أمام كل شعاع.

لم تأخذني رغبة التفاؤل، ولا أنا خارج عن الموضوعية والواقعية، لكنني أرى بعَينٍ واسعة، أنَّ الدولة اللبنانية التي استعادت مؤسساتها الدستورية في ظلِّ تطور ظروف موضوعية أهمها أنَّ لبنان لم يعد مُحاصَرًا بين الممانعة وإسرائيل، بل هو حرُّ الحركة في شرقه وغربه وشماله، متسلّح بقرار الشرعية الفلسطينية تطهيرَ المخيمات من مفرقعاتها وبنادقها ومدافعها. لقد انفتح العرب على رئيسنا وحكومتنا، وأصبحت مشاريع الإصلاح على جدول التنفيذ، وهذه مسائل متضافرة تدعوني للاعتقاد بأنَّ دولة لبنان تخرج تدريجًا من وطأة سنواتها الطويلة العجاف، فأصبح من حقها أن تبحثَ عن السنوات السمان، في ظلِّ وحدةٍ وطنية حقيقية تكون بديلًا من متاريس الشعارات مثل قوة لبنان بضعفه او قوته بمقاومته لأنَّ الدولة المتعافية تقوم على قواعد الحداثة والإصلاح  والانتماء الوطني.

من حقّنا في النهاية أن نُطالبَ القوى السياسية والمراكز الإعلامية، بانتهاجِ الإيجابية ولو كانت حذرة، بدلًا من الاستنقاع في السلبية السوداء، والولوغ في المحاولات الفاشلة لذرِّ الفرقة بين كلٍّ من رئيسَي الجمهورية والحكومة اللذين يُنفِّذان سياسة الدولة، كلٌّ من موقعه تحت سقف الدستور والقوانين.

Exit mobile version