مع استمرارِ الكثير من الدول في الاعتماد على مصادر الطاقة الملوّثة مثل الفحم، يتصدّر الغاز الطبيعي المسال المشهد باعتباره وقودًا انتقاليًا نحو مستقبل بيئي أكثر نقاءً واستدامة. غير أنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل ستطيل الاستثمارات الضخمة في قطاع الغاز‘ خصوصًا في قطر، أمد هذه المرحلة الانتقاليّة؟
عبد الفتاح حامد علي*
تعتزمُ قطر مضاعفة سعتها الإنتاجية من الغاز الطبيعي المسال من 77 مليون طنّ سنويًا إلى 142 مليون طنّ بحلول العام 2030، في خطوةٍ قد تبدو للوهلة الأولى مُتناقِضة مع الاتجاه العالمي السائد، في ظلّ المخاوف من التغيّر المناخي وتزايُد الدعوات إلى تقليصِ الاعتماد على الوقود الأحفوري. لكن في الواقع، يُمكِنُ لزيادةِ صادرات الغاز أن تساعد الاقتصادات الكبرى المعتمدة على الفحم على خفض انبعاثاتها في المدى القريب، ريثما يشتدُّ عودُ مصادر الطاقة المتجدّدة والتقنيات النظيفة الأخرى. مع ذلك، تُثار تساؤلات حول ما إذا كانت هذه الخطوة خيارًا استراتيجيًا حكيمًا لهذه الدولة الخليجية، أمّ رهانًا عالي المخاطر قد يُقوّضُ أهدافَ خَفضِ الانبعاثات على المستويَين العالمي والمحلّي.
لطالما شكّلَ قطاعُ الغاز الطبيعي المُسال في قطر ركيزةً أساسيّة في مسار الانتقال من الفحم إلى الغاز. وبحسب تقديرات بعض الخبراء، ساهم القطاع بين العامَين 2005 و2020 في تجنيب العالم نحو 600 مليون طنّ من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون، كانت لتُطلق في الجوّ لو استُخدِمَ الفحم بدلًا من الغاز.
في خلال هذه الفترة، لجأت دولٌ تُسَجِّلُ نموًّا متسارعًا في الاستيراد، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، إضافةً إلى اقتصاداتٍ ناشئة في جنوب شرق آسيا، إلى الغاز الطبيعي المُسال بهدفِ الحدّ من التلوّث وإبطاء وتيرة التغيّر المناخي. وبفضلِ انخفاض كثافة الغاز الطبيعي المُسال الكربونية التي لا تتجاوز انبعاثاته نصف الانبعاثات الناجمة عن محطات الفحم، ساهم الغاز المُسال في خفضِ إجمالي الغازات المُسَبِّبة للاحتباس الحراري عالميًّا، بينما مكّن الدول المستوردة من الحفاظ على وتيرة نموٍّ اقتصادي قويّ.
تكمن هذه الديناميّة في صلب الرؤية التي تطرحها الدوحة، إذ ترى أنّ زيادة إنتاج الغاز الطبيعي المسال في حقل الشمال العملاق قد تُسهم في تسريع وتيرة التخلّي عن الفحم في الأسواق التي لا تزال تُعوّل عليه بكثافة، لا سيّما في آسيا، فضلًا عن دعم جهود دول أوروبا الغربية في التخلّي التدريجي عن الفحم.
ويكتسبُ التحوّلُ من الفحم إلى الغاز، إلى جانب بناء محطات جديدة تعمل بالغاز، زخمًا متزايدًا في آسيا، باعتباره خطوة انتقالية نحو خفض انبعاثات الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري. إذ يكفي تحويل 20 في المئة فقط من محطّات الكهرباء العاملة بالفحم في القارّة إلى الغاز من أجلِ تقليصِ انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون بنحو 680 مليون طنّ سنويًا. وقد دفع هذا التوجّه صنّاع السياسات في عدد من الدول الآسيوية، لا سيّما تلك التي تعهّدت بتصفير الكربون أو تحقيق الحياد الكربوني مثل اليابان وكوريا الجنوبية، لدراسة تحويل جُزءٍ من وحداتها العاملة بالفحم إلى الغاز، في إطار سعيها إلى تحقيق أهداف خفض الانبعاثات.
حتى في دولٍ مثل الصين والهند، حيث لا يزال الاعتماد على الفحم في تزايد، يمكن لتوليد الكهرباء باستخدام الغاز أن يؤدّي دورًا مُساندًا في ظلّ الضغوط البيئية المحلّية والالتزامات المناخية الدولية، بحثًا عن بدائل أقلّ تلويثًا. فعلى سبيل المثال، تتوقّع شركة البترول الوطنية الصينية، المملوكة للدولة، أن تتراجع مساهمة الفحم في مزيج الطاقة الصيني إلى نحو 8 في المئة فقط بحلول العام 2060، بعدما كانت تُقدّر بنحو 44 في المئة مُتوقَّعة في العام 2030. في المقابل، من المتوقّع أن ترتفع حصة الغاز الطبيعي إلى 12 في المئة من إجمالي الطاقة في الصين بحلول نهاية هذا العقد، ليشكّل أحد الجسور الأساسية نحو التحوُّل في الطاقة.
أمّا الهند، رابع أكبر مستورد للغاز الطبيعي المسال في العالم، فتهدفُ إلى رفع حصّة الغاز في مزيج طاقتها من نحو 6 في المئة حاليًا إلى 15 في المئة بحلول العام 2030. وفي هذه الأثناء، قد تُساهم سياسات الطاقة المتجدّدة الأخرى المعتمدة في أنحاء المنطقة، إذا طُبّقت بفعاليّة، في خفض الاعتماد على الفحم لتوليد الكهرباء بنحو الربع.
الرهان رغم تخمة السوق
على الرُغمِ من وجاهة المنطق الاقتصادي الذي يدعم التحوّل من الفحم إلى الغاز، تأتي توسّعات قطر في حقل الشمال في وقتٍ يُحذّرُ محلّلون من اقتراب موجةِ فائضٍ وشيك في سوق الغاز الطبيعي المُسال.
فبحسب التقديرات، قد تؤدّي المشاريع الجديدة في الولايات المتّحدة وروسيا وكندا وأفريقيا إلى زيادة الطاقة الإنتاجية العالمية للغاز المسال بنسبة لا تقلّ عن 40 في المئة بحلول نهاية العقد. وتشير توقّعات إلى أنّ حجم هذا الفائض قد يتراوح بين 6 و13 في المئة بحلول العام 2030، ما قد يؤدّي إلى تراجع الأسعار ويَحُدُّ من إقبال المشترين على توقيع عقود التوريد طويلة الأجل التي تعتمد عليها قطر تقليديًا.
لماذا المخاطرة إذن؟ في عالمٍ أصبحَ فيه خفض الانبعاثات أولويّة ملحّة حيثما أمكن، تُعَدُّ قدرةُ قطر على المنافسة من حيث الكلفة والانبعاثات ورقةً رابحة بيدها. فتكاليف الإنتاج المنخفضة تتيح لها الحفاظ على الربحية حتى في ظلّ تراجع الأسعار، فيما يوفّر موقعها الجغرافي المركزي مرونةً في إعادة توجيه الشحنات في أيّ لحظة نحو الأسواق الأكثر ربحية، ما يحدّ من آثار تقلّبات الأسعار.
وعلاوةً على ذلك، طوّرت قطر إستراتجيّة فعّالة لربط المشترين بمشاريعها من خلال منحهم حصصًا في المُلكِية، ما يضمن استدامة الطلب على غازها الطبيعي المسال. وقد امتدّ هذا النموذج ليشمل مراحل التوسعة الأخيرة، حيث باتت كبرى الشركات الدولية وشركات الطاقة تمتلك حصصًا في هذا المشروع.
بالتالي، يُتيحُ هذا التوسّع لقطر اقتناصَ حصّةٍ أكبر من السوق العالمية. وتقوم رؤيتها الاستراتيجية على الأفضلية التي تتمتّع بها من حيث الكلفة وسمعتها الراسخة ونموذجها المرن في التصدير، ما يمنحها قدرةً أكبر على تحمّل فترات فائض المعروض أو تراجع الأسعار، مُقارنةً بمنافسين يواجهون أعباءَ إنتاجٍ مرتفعة. وإذا استقرّ الطلب العالمي أو عاد إلى الارتفاع مع نهاية العقد، قد تتمكّن الدوحة من إبرامِ جولةٍ جديدة من العقود طويلة الأجل. ولا يزال واردًا أن تنظر الدول الساعية إلى التخلّي عن الفحم إلى الغاز الطبيعي المسال، لا بوصفه خصمًا لمصادر الطاقة المتجدّدة، بل شريكًا لا غنى عنه لضمان استقرار إمدادات كهربائية ثابتة ويدعم استقرار الشبكة، ويسهم في خفض انبعاثات الكربون فيى المديَين القريب والمتوسط.
المحاذير المناخية
من حيثُ المَبدَإِ، تبدو المنافع المناخية للغاز الطبيعي المسال واضحة حين يحلُّ محلَّ الفحم، إلّا أنّ تحقيق هذه المعادلة يعتمدُ إلى حدٍّ كبير على ضبط تسرُّبات الميثان والانبعاثات الناتجة عن كامل دورة حياة الغاز. وإذا أقدمت المنشآت في المراحل الأولى من الإنتاج على إطلاق الغاز في الهواء أو حرقه بكمياتٍ كبيرة، فإنَّ الميزة المناخية للغاز ستتضاءل. تُدرِكُ الدوحة هذا التحدّي، إذ التزمت شركة قطر للطاقة بوقف الحرق الروتيني للغاز وبتحديث البنية التحتية لرصد الانبعاثات المُتسرّبة وتطبيق تقنيات التقاط الكربون واستخدامه وتخزينه (CCUS). وبحسب التصريحات الرسمية، تسعى الشركة إلى خفض كثافة الكربون في منشآت الغاز الطبيعي المسال بنسبة 35 في المئة، وتقليصها في منشآت مراحل الإنتاج الأولى بما لا يقل عن 25 في المئة بحلول العام 2035، مع استهدافِ خَفضِ كثافةِ الميثان إلى 0,2 في المئة بحلول العام 2025. وفي هذا الإطار، تُعَدُّ منشأة رأس لفان لالتقاط الكربون واستخدامه وتخزينه الأكبر من نوعها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بسعة حالية تتراوح بين 2,1 و2,2 مليوني طنّ من ثاني أوكسيد الكربون سنويًا. وتُخطّطُ قطر لرفع هذه السعة إلى ما بين 7 و9 ملايين طنّ سنويًا بحلول العام 2030، على أن تتجاوزَ 11 مليون طنّ سنويًا بحلول العام 2035.
إلّا أنَّ الانتقادات الأوسع تتمحوَرُ حول مسألة الالتزام طويل الأمد. فكلُّ محطّة غاز طبيعي مُسال أو خطِّ أنابيب يُشيَّد اليوم قد يُبطئ وتيرةَ التحوّل نحو مصادر الطاقة الأقلّ انبعاثًا للكربون. ويعبّر نشطاءٌ بيئيون عن بالغ قلقهم من أنّ عقود الغاز طويلة الأجل قد تُزاحِم مصادر الطاقة المتجدّدة، لا سيّما في الدول منخفضة الدخل التي قد تجد صعوبة في تمويل مشاريع الغاز الجديدة إلى جانب مشاريع طاقة الرياح أو الطاقة الشمسية الضخمة. أمّا التحدّي الذي يواجه قطر، فهو تحقيق توازُن دقيق بين توسيع إنتاج الغاز ليحلّ محلّ الفحم، من دون أن يؤدّي ذلك، عن غير قصد، إلى تأخيرِ الاستثمار في البنية التحتية الخضراء. وتؤكّد الدوحة أنّ الغاز يوفّر استقرارًا لشبكات الكهرباء في الدول حيث لا تزال مصادر الطاقة المتجدّدة عاجزة عن تلبية الطلب في أوقات الذروة. ومن هذا المنطلق، يصبح الغاز الطبيعي المُسال حلًا مؤقّتًا يمنح الوقت اللازم للطاقة الشمسية وطاقة الرياح كي تتوسّع وتُلبّي الاحتياجات.
إلتزامات قطر المناخية
تهدف قطر إلى خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة بنسبة 25 في المئة بحلول عام 2030، مقارنةً بما كانت لتبلغه لو استمرّت في السياسات الحالية بدون تغيير. غير أنّ المنتقدين يرون أنّ هذا الهدف لا يُمثّل سقفًا مطلقًا للانبعاثات، في ظلّ عدم التزام الدولة حتى الآن بهدف الحياد الكربوني الذي بات توجُّهًا سائدًا على المستوى العالمي. وتثير هذه الفجوة تساؤلات جوهرية: كيف يمكن لدولة تسعى إلى مضاعفة إنتاجها من الغاز أن توفّق، بشكل موثوق، بين هذه الطموحات والجهود العالمية الحثيثة لحصر الاحترار العالمي بين 1,5 ودرجتين مئويتين؟
يمكن القول إنّ تعزيز صادرات الغاز الطبيعي المُسال قد يؤدّي إلى ارتفاع مستوى الانبعاثات إلى حدّ ما، إلّا أنّ الدوحة تسعى، في المقابل، إلى الحدّ من الانبعاثات المحلّية عبر الاستثمار في الطاقة الشمسية وتوسيع استخدام المركبات الكهربائية وتحسين كفاءة القطاع الصناعي. ومع ذلك، يعتبر أولئك الذين يطالبون أن يتبنّى كبار منتجي الطاقة خطّةً واضحة لتحقيق الحياد الكربوني، تردّد الدوحة على أنّه إشارة إلى سعيها لتحقيق توازن دقيق بين الحفاظ على موقعها الريادي في سوق الغاز الطبيعي المسال، والسعي في الوقت ذاته إلى مواكبة اقتصاد عالميّ مستقبليّ خالٍ من الكربون.
نعمة أم نقمة لمستقبل مستدام؟
تُسلّط توسعة حقل الشمال في قطر الضوءَ على التوتر القائم في قلب النقاش العالمي حول مستقبل الطاقة. فمن جهة، يحتاج العالم إلى خفضٍ سريع وجذري للانبعاثات لتفادي كارثة مناخية. ومن جهةٍ أخرى، لا تزال دولٌ كثيرة تعتمد اعتمادًا كبيرًا على الفحم وتحتاج إلى خطوةٍ انتقالية، بخاصة إذا كانت مصادر الطاقة المتجدّدة وحدها غير قادرة على تلبية الطلب المتزايد في الأمد القريب. في هذا السياق، يساهم الغاز الطبيعي المسال القطري في سَدِّ هذه الفجوة، إذ يُقلّصُ الانبعاثات بشكلٍ ملحوظ عند استخدامه بديلًا من الفحم، ويُعزّز في الوقت نفسه عجلة النموّ الاقتصادي في الأسواق الناشئة. وبفضل كلفة الإنتاج المنخفضة والتدابير البيئية التي تعتمدها قطر، تأتي هذه التوسعة في توقيتٍ مثالي لتسريع وتيرة التخلّي عن الفحم والمساهمة في خفض الانبعاثات الكربونية عالميًا في هذا العقد الحاسم.
ومع ذلك، يبقى نجاح استراتيجية الدوحة مرهونًا بالدقة في التنفيذ. فلكي يحافظ الغاز الطبيعي المسال على مكانته كخيارٍ أقلّ ضررًا مناخيًا، لا بدّ من تطبيقٍ صارمٍ لإجراءات الحدّ من تسرّب الميثان، والتخلّي عن الحرق الروتيني للغاز. وعلى الصعيد الداخلي، فإنّ تبنّي هدفٍ أكثر طموحًا ومطلقًا لخفض الانبعاثات، إلى جانب وضع خارطة طريق واضحة لتحقيق الحياد الكربوني، من شأنه أن يبدّد الشكوك بشأن التزام قطر بالتحوّل الطويل الأمد في مجال الطاقة. وفي الوقت نفسه، ينبغي على قطر وسائر منتجي الغاز الطبيعي المسال أن يضبطوا خططهم لتطوير البنية التحتية للغاز بما يضمن عدم عرقلة التوسّع في مشاريع الطاقة المتجدّدة.
في نهاية المطاف، يتوقّف نجاح رؤية قطر في قطاع الغاز الطبيعي المسال على قدرته الفعليّة في أن يشكّلَ خطوةً انتقالية نحو مستقبل منخفض الكربون، يساهم في الجهد العالمي للابتعاد تدريجًا عن الفحم، من دون التقيّد بوقودٍ أحفوري من نوعٍ آخر. وفي الوقت الراهن على الأقلّ، يبدو رهانُ الدوحة محسوبًا بعناية، ويمنحها موقعًا مؤثّرًا في رسم ملامح مشهد الطاقة العالمي مع الاقتراب من العام 2030.
- عبد الفتاح حامد علي هو زميل زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. تخرّج أخيرًا من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر، حاملًا شهادة الماجستير في السياسات العامة. تشتمل مواضيع بحثه على التنمية الاقتصادية، والسياسات العامة، والتحوّلات في الطاقة، والاستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.