لم يَكُن الدولار دائمًا عملة الاحتياطي العالمي. في القرن التاسع عشر، كان الجنيه الإسترليني هو الذي يتمتّع بهذه المكانة، ولكن بعد حربين عالميتين وعقودٍ من التراجع السياسي والاقتصادي، شاهدت لندن تراجع مكانة عملتها العالمية. لم يكن هناك ما هو حتمي في تراجع الجنيه أو صعود الدولار، تمامًا كما لا يوجد ما هو حتمي في احتمال انهيار الدولار اليوم.
إدوارد فيشمان، غوتام جاين، وريتشارد نيفيو*
ظلّ الدولار الأميركي العملة المُهَيمِنة في التجارة والتمويل العالميين لأكثر من سبعة عقود. وخلال تلك الفترة، لم يُشكّل أيُّ شيءٍ تهديدًا حقيقيًا لمكانته. تعمل الأنظمة الاقتصادية العالمية بجمودٍ كبير. تُفضّل الجهات الفاعلة الرئيسة، من الحكومات إلى البنوك إلى الشركات متعددة الجنسيات، آلياتٍ مُجَرَّبة ومُختَبَرة لإدارة التجارة والتمويل. كثيرًا ما تُعلِنُ عناوينُ الصحف المُثيرة للانفعال أن الدولَ تبحثُ عن بدائل للدولار، أو أنَّ تحالفًا جديدًا يُحاول إنشاءَ عملة مُنافسة، أو أنَّ الأزمة السياسية الأخيرة في واشنطن ستُنهي أخيرًا مكانة الدولار كاحتياطي. ولكن على مرّ عقودٍ من النمو الاقتصادي المُتغيِّر حول العالم، وفترات الاضطرابات في الأسواق العالمية، والتساؤلات حول مستقبل السياسة الاقتصادية الأميركية، ظلت هيمنة الدولار راسخة.
حتى الآن. أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في الثاني من نيسان (أبريل)، عن فَرضِ رسومٍ جمركية جديدة باهظة على جميع شركاء الولايات المتحدة التجاريين تقريبًا. وتُعَدُّ خططه، التي أدّت إلى هبوطٍ حاد في أسواق الأسهم الأميركية والعالمية، أحدثَ مثالٍ على نهجه الثابت في الحوكمة: تسليح القوة الاقتصادية الأميركية. فرضَ ترامب رسومًا جمركية على البضائع الواردة من كندا والمكسيك ردًّا على مجموعةٍ من المشاكل المزعومة، وأعادَ تنشيطَ حملة الضغط القصوى ضد إيران التي بدأت في ولايته الأولى. وإلى جانب هجمات ترامب على سيادة القانون، تُشكّل محاولاته الخرقاء وغير المدروسة لتسليح المزايا الاقتصادية لواشنطن أكبر تهديدٍ حتى الآن لمكانة الدولار كعملةٍ احتياطية.
إذا تحقّقَ هذا التهديد، فستكونُ الولايات المتحدة والعالم في وضعٍ أسوَإٍ. فبدون الدولار لتسهيل التجارة والتدفّقات المالية، سيتباطأ النمو وسيزداد فقر الناس في كلٍّ مكان. ولن تُحقّقَ عزلةُ الولايات المتحدة انتعاشَ الصناعة الذي تزعم إدارة ترامب أنها تسعى إليه، إذ سترتفع أسعار المواد الخام المُستَورَدة وتجفُّ أسواق رأس المال. وستكونُ النتيجة الحقيقية لتراجع الدولار زوال القوة الاقتصادية ذاتها التي يحاول ترامب ممارستها.
عملةٌ مُشتَرَكة
على الرُغمِ من أنَّ الدولار تجاوز الجنيه الإسترليني البريطاني في منتصف عشرينيات القرن الماضي كعملةٍ مُفضّلة في احتياطيات النقد الأجنبي العالمية، إلّا أنَّ مكانته كعملة احتياطية عالمية لم تترسّخ إلّا في مؤتمر “بريتون وودز” قرب نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد أسفر هذا المؤتمر عن مؤسّساتٍ جديدة، هي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ونظامٍ جديد يربط العملات بالدولار الأميركي، الذي كان قابلًا للتحويل إلى الذهب بسعرٍ ثابت. لقد وضعت المؤسّسات وربط الدولار استقرار العملة في صميم الاقتصاد العالمي. ومنذ ذلك الحين، حافظ الدولار على مكانته المُهَيمِنة خلال اضطراباتٍ متعدّدة، ونجا حتى من الاضطرابات التي أعقبت قرار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في العام 1971 بإزالة وإلغاء سعر صرف الدولار مقابل الذهب الثابت.
تعتمد مكانة الدولار على خصائص عدة يجب أن تتمتّع بها أيُّ عملة إذا كانت تأمل في تشكيل حصة الأسد من احتياطيات النقد الأجنبي لمعظم الدول. على المستوى الأساسي، يجب أن تكون هذه العملة سائلة -أي سهلة البيع والشراء- ويجب أن يوافق معظم الأفراد والبنوك والشركات على استخدامها في معاملاتهم. لطالما كان الدولار مُهيمنًا على كلا الجبهتين. لأكثر من ثلاثة عقود، كانت نسبة ما بين 85 و90 في المئة من المعاملات بين العملات في أسواق الصرف الأجنبي تتضمّن الدولار. على نظام الرسائل المالية المعروف باسم “سويفت” (SWIFT)، والذي تستخدمه البنوك الدولية لتبادل عشرات التريليونات من الدولارات يوميًا، تتمُّ حوالي 50% من المعاملات بالدولار، إرتفاعًا من حوالي 35% قبل عقدٍ من الزمان.
لا يكفي أن تكونَ عملة الاحتياطي العالمية سائلة ومتداولة على نطاق واسع فحسب، بل يجب أن تكون أيضًا وحدة حساب مشتركة للسلع المتداولة عالميًا. تُقوّم مبيعات السلع، من النفط إلى المعادن إلى المحاصيل، بالدولار في جميع أنحاء العالم تقريبًا. يستخدم حوالي 54% من فواتير التجارة العالمية مبالغ بالدولار، على الرغم من أن الولايات المتحدة لا تُمثّل سوى حوالي 10% من التجارة العالمية.
الشرطُ الأخير لنجاح عملة احتياطية هو أن يعتبرها الأفراد والشركات والبنوك المركزية مخزنًا موثوقًا للقيمة. ولتحقيق ذلك، يحتاج البلد الأصلي للعملة إلى أسواقٍ مالية كبيرة ومفتوحة مع فرص استثمارية جذابة يحكمها القانون بشكل متوقَّع. كما يساعد التضخم المنخفض والمستقر، حتى يعرف حاملو العملة أنَّ قيمة أصولهم لن تتبخّر بين عشية وضحاها. تُعد سوق الأسهم الأميركية الأكبر في العالم، بقيمة إجمالية تبلغ 63 تريليون دولار بنهاية العام 2024، وهو ما يُعادل ما يقرب من نصف القيمة الإجمالية لأسهم العالم، حتى بعد التراجع الحاد الذي شهده السوق هذا العام. الاقتصاد الأميركي مفتوح للاستثمار الأجنبي: هناك قيود قليلة على جلب رأس المال إلى البلاد وخارجها. يُنظر إلى الاحتياطي الفيدرالي على نطاق واسع على أنه مستقل وموثوق. وتحظى المحاكم والهيئات التنظيمية الأميركية بالثقة في جميع أنحاء العالم لحل النزاعات التجارية، وإدارة الاقتصاد بشكل يمكن التنبؤ به، ومنع الفساد الكبير.
ومما يساعد أيضًا أنَّ سوق سندات الحكومة الأميركية هي الأكبر في العالم، حيث تبلغ قيمتها حوالي 28 تريليون دولار، أي أكثر من ربع السوق العالمية للديون الحكومية. كما إنَّ سندات الحكومة الأميركية (التي تسمى عادةً سندات الخزانة) هي أكثر أشكال الديون الحكومية سيولة، حيث يبلغ متوسط المعاملات اليومية حوالي 900 مليار دولار. إنَّ سهولة الشراء والبيع هذه تمنح البنوك المركزية الاطمئنان إلى أنَّ سندات الخزانة هي مكانٌ آمن لإيداع النقد. وبالنظر إلى هذه العوامل مجتمعة -السيولة والاستخدام الواسع والأمان- فليس من المستغرب أن يشكل الدولار غالبية الاحتياطيات الدولية، وقد فعل ذلك لعقود.
فريدٌ من نوعه
تتمثل الميزة الكبرى الأخرى للدولار كعملةٍ احتياطية عالمية في عدم وجود منافسين حقيقيين. يلوحُ الرنمينبي الصيني في الأفق، لكن الصين تفتقر إلى أسواقٍ مالية مفتوحة وسيولة، وهي إحدى أهم متطلبات عملة الاحتياطي. لا يُتداوَلُ الرنمينبي بحرّية في بورصات العملات الأجنبية. وتُقيّدُ الحكومة الصينية التدفُّقَ الحرّ لرأس المال من خلالِ إجراءاتٍ مثل الضوابط على الاستثمارات الواردة والصادرة والقيود على التحويلات المصرفية الدولية. يواجه الأجانب عقباتٍ تنظيمية عند الاستثمار في الأسواق المالية الصينية، بما في ذلك سوق السندات المحلية، التي تفتقر أيضًا إلى السيولة والعمق اللازمَين لأسواق الدَين الرائدة عالميًا. وقد حاولت الصين الترويج لمنافسها المحلي لنظام “سويفت”، وهو نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك (CIPS)، لا سيما منذ أن أدت العقوبات إلى استبعاد بعض أكبر البنوك الروسية من “سويفت” في العام 2022. ولكن حتى الآن، لم يجذب نظام “CIPS” سوى 0.2% من حجم معاملات “سويفت”.
أقربُ مُنافسٍ للدولار هو اليورو، الذي يفي بالعديد من شروط استخدامه كعملةٍ احتياطية عالمية. تتمتّعُ منطقة اليورو بأسواق رأس مال مفتوحة وسائلة، واليورو هو ثاني أكثر العملات تداوُلًا في العالم وثاني أكثر العملات الاحتياطية شيوعًا. ومع ذلك، لا تتضمّن منطقة اليورو اتحادًا ماليًا، وكانت ألمانيا، أكبر دولة في الكتلة، حتى وقتٍ سابق من هذا العام، مُتَرَدّدة في إصدار كميات كبيرة من الديون الحكومية. لقد أدّى عدم وجود سياسة مالية مُوَحَّدة لمنطقة اليورو إلى أزمة الديون الأوروبية 2010-2012، والتي تسبَبت بدورها في انخفاضٍ حاد في أحجام تداول اليورو في أسواق الصرف الأجنبي، ومعاملات “سويفت” المُقوَّمة باليورو، وحصة اليورو في احتياطيات البنوك المركزية. وقد تفاقمت عيوب تصميم منطقة اليورو بسبب حقيقة أنَّ الأسهمَ الأميركية قد حققت عائدًا يقارب خمسة أضعاف نظيراتها الأوروبية على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، مما دفع موزعي الأصول إلى تركيز الاستثمارات في الولايات المتحدة. ولجعل الأمور أسوأ بالنسبة إلى اليورو، فإنَّ التهديد الجيوسياسي الذي تشكله الإمبريالية الروسية على أوروبا أعطى البنوك المركزية سببًا آخر لتجنّب العملة الأوروبية المُوَحَّدة.
لم تُفلح جهود الترويج لعملاتٍ احتياطية ناشئة أخرى حتى الآن. لقد طرحت مجموعة دول “بريكس”، وهي نادٍ يضمُّ اقتصادات رئيسة غير غربية، عملةً جديدة مُحتَملة تُنافس الدولار. في المدى القريب، على الأقل، لن تُشكّلَ هذه العملة الجديدة، التي يُفتَرَضُ أن تدعمها سلّة عملات من الدول المشاركة، أيَّ تهديدٍ لهيمنة الدولار. ليس فقط أنه لا توجد خطة لإنشاء اتحاد نقدي أو مالي مشترك داخل مجموعة “بريكس”، بل إنَّ الدول المعنية تختلف اختلافًا كبيرًا في أولوياتها المحلية والدولية. إنَّ عملةً تُنشِئها مجموعةٌ أكثر تجزئة بكثير من منطقة اليورو لا تُمثّلُ فرصةً حقيقية لأن تُصبح الخيار الأمثل للأعمال التجارية العالمية، خصوصًا وأنَّ مجموعة “بريكس” لم تُوَضِّح بعد كيفية عملها.
كما إنَّ البدائل الأكثر بريقًا، مثل البيتكوين والذهب، لم تُحقق نجاحًا يُذكر. تفتقرُ العملات المشفّرة إلى العديد من الخصائص اللازمة للعمل كعملاتٍ احتياطية، بما في ذلك السيولة واستقرار الأسعار والدعم الحكومي أو أي مصدر واضح آخر للقيمة. أما الذهب فقد استُخدِمَ كعملةٍ لآلاف السنين، وشكّلَ أساسًا للعديد من الأنظمة النقدية حتى وقتٍ قريب نسبيًا، لكن نقاط ضعفه باتت واضحة الآن. أوّلًا، لا تستطيع الحكومات التحكُّم في العرض، لذا فإنَّ الاعتمادَ على الذهب يُقيّدُ قدرتها على الاستجابة للأزمات الاقتصادية.
هذه المرة مختلفة
على الرُغم من قوة الدولار، إلّا أنَّ عودة ترامب إلى السلطة قد شكّلت تهديدًا حقيقيًا لمكانته لأول مرة منذ أجيال. ونظرًا لنقص البدائل الجاهزة، من غير المرجّح أن يكونَ الضررُ قاتلًا على الفور، لكن خطر التراجع النهائي، ووتيرة التراجع المحتملة، قد ازدادا. على أقل تقدير، ستؤدي إجراءات ترامب إلى تآكل العوامل الداعمة لهيمنة الدولار.
في الأسابيع الأولى على توليه منصبه، انتهج ترامب سياساتٍ أدّت إلى ارتفاع قيمة الدولار، لكن منذ ذلك الحين، تراجع الدولار مقابل العملات الأخرى. في البداية، ارتفع الدولار مع ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية على خلفية سياسات ترامب التضخّمية، بما في ذلك التعريفات الجمركية والترحيل والتخفيضات الضريبية المقترحة. إلّا أنَّ هذه السياسات نفسها، وما أحدثته من حالة من عدم اليقين الاقتصادي، تُلقي بثقلها الآن على الدولار، حيث تتوقّع الأسواق أن تُلحق ضررًا بالغًا بالنمو الأميركي، لا سيما بعد إعلان ترامب عن تعريفاته العالمية الصارمة وواسعة النطاق. إنَّ اضطرابات سلسلة التوريد الناجمة عن الحرب التجارية، ونقص العمالة الناجم عن عمليات الترحيل، وعدم اليقين السياسي العام، تؤثّر سلبًا في ثقة الشركات والمستهلكين، مما يؤدي إلى انخفاض الإنفاق، وتباطؤ النمو، وانخفاض أسعار الفائدة. ونتيجةً لسياسات ترامب إلى حد كبير، تفوَّقت الأسهم الأوروبية على مؤشر الأسهم الأميركي الرائد بنحو 20% خلال الربع الأول من العام 2025، وهو أكبر هامش ربح منذ أكثر من ثلاثة عقود.
النظرُ إلى ما وراء الأفق القريب، فإنَّ مخاطر سياسات ترامب أكبر. بدايةً، ستُلحق الرسوم الجمركية العالمية الهائلة التي فرضها ترامب، بالإضافة إلى زعزعة استقرار الاقتصاد الأميركي، ضررًا لا رجعة فيه بمصداقية الولايات المتحدة كشريكٍ تجاري. وهذا بدوره سيُقوّض الحاجة إلى الدولار واستخدامه. سيُعاني حلفاء الولايات المتحدة من الضرر الأكبر، إذ سيواجه العديد منهم معدلات تعريفات جمركية أعلى من تلك التي يواجهها خصوم الولايات المتحدة. على سبيل المثال، تخضع إسرائيل واليابان والاتحاد الأوروبي جميعًا لمعدلات تعريفات أعلى من تلك التي تُفرض على إيران أو روسيا. وقد أظهر الاقتصاديون أنَّ الدول أكثر ميلًا للاحتفاظ باحتياطيات من العملات من شركائها الجيوسياسيين. وبتنفير أقرب حلفاء الولايات المتحدة، يُبعد ترامب الدول التي كانت الأكثر استعدادًا للاعتماد على التجارة المُيَسَّرة بالدولار. إنَّ قرار ترامب بالانقلاب على أوكرانيا في صراعها مع روسيا، وتشكيكه العلني في التزام “الناتو” بالدفاع المشترك بموجب المادة الخامسة، يُفاقم المخاوف بشأن استعداد الولايات المتحدة للوفاء بوعودها. في حين تبحث البلدان عن طرق للحدِّ من تعرّضها لأهواء ترامب، فمن غير المرجح أن تعمل بسرعة على تقليص اعتمادها على الدولار، ولكن مع مرور الوقت، فإن العلاقات التجارية المتنامية مع الصين وغيرها من الاقتصادات الكبرى قد تعطي الشركات حافزًا لاستبدال الدولار في بعض المعاملات.
ستُوفّر العقوبات سببًا آخر للبحث عن بدائل أخرى. تشيرُ حملة الضغط الأقصى التي شنّتها الإدارة الأميركية على إيران، والإجراءات الصارمة التي اتخذتها ضد فنزويلا، إلى أنَّ الاستخدام الواسع النطاق للعقوبات قد يتصاعد أكثر في ولاية ترامب الثانية. ومع خضوع المزيد من الدول للعقوبات الأميركية، ستتحفّزُ هذه الدول على اتباع نهج روسيا بعد العام 2018، وتقليل اعتمادها على الدولار في التجارة عبر الحدود واحتياطيات العملات. وحتى لو لم تتخلَّ هذه الدول عن الدولار كليًا أو تستبدله ببديل مهيمن وحيد، فقد تبدو أنظمة دفع أخرى مثل نظام “CIPS” أكثر جاذبية. تُعدّ الصين أكبر شريك تجاري لنحو ثلثي دول العالم؛ وإذا أصبح نظام “CIPS” هو السبيل الوحيد للتعامل التجاري مع الشركات الصينية، فسيكون لدى المؤسسات المالية في تلك الدول حافزٌ قوي للانضمام. فبدلًا من إعادة تشكيل أنماط تجارتها لتتلاءم مع التفضيلات الأميركية، ستُعيدُ الدول تشكيل بنيتها التحتية المالية للحفاظ على تدفّق التجارة.
لعلّ الخطرَ الأكبر على هيمنة الدولار يأتي من تهديدات ترامب لسيادة القانون، والتي ستُزعزع أساس مكانة الدولار. لا يقتصر الخطر على احتمال تسبب الإدارة في أزمة دستورية بتحدّيها للمحاكم، بل يمتد إلى ترسيخ نظام حكم أكثر فسادًا وشخصانية في ظل رئيس يميل إلى عقد الصفقات مع أصدقائه ومعاقبة أعدائه. إنَّ سيادة القانون، أو بالأحرى غيابها، هي عائقٌ خطير أمام اعتماد الرنمينبي الصيني: فالشركات تُفضّل اللجوء إلى المحاكم الأميركية بدلًا من المحاكم الصينية في أي يوم من أيام الأسبوع. وإذا ما تآكلت هذه الميزة الأميركية، فقد تكون النتائج كارثية.
يُشكّل دَينُ الحكومة الأميركية، الذي توقع مكتب الميزانية في الكونغرس ارتفاعه من 100% من الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يقارب 150% بحلول العام 2050، خطرًا إضافيًا. فإذا خفّض الكونغرس الضرائب أكثر بدون كبح الإنفاق (بغضِّ النظر عن الحِيَلِ المالية المُستخدمة في هذه العملية)، فإنَّ الدَينَ الناتج سيعني أنَّ حصّةً أكبر من الإيرادات الحكومية ستُخَصَّص لسداد الفوائد بدلًا من أولويات الإنفاق الأخرى، مما يُلحق الضرر بالنمو الاقتصادي طويل الأجل وجاذبية الأصول الأميركية. وقد طرح بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية أفكارًا، غالبًا تحت عنوان “اتفاقية مارا لاغو” المقترحة، من شأنها أن تُفاقم هذه المشكلة بشكلٍ كبير. وتشمل هذه الأفكار إجبار المستثمرين الأجانب على مبادلة حيازاتهم من سندات الحكومة الأميركية بسندات بفائدة صفرية لأجل مئة عام، مما سيضرُّ بمصداقية الولايات المتحدة كمقترض، وبالتالي، بمكانة الدولار. إنَّ إجبار الدول على تحمّل خسارة في حيازاتها من السندات الأميركية سيُخيف المشترين المستقبليين، وإذا كانت المبادلة غير طوعية، فقد تُصنّفها وكالات التصنيف الائتماني على أنها تخلُّفٌ عن السداد.
أخيرًا، إذا ضعف الاقتصاد، كما يتوقع العديد من بنوك وول ستريت الآن، فقد يجد ترامب نفسه في مسارٍ تصادمي مع الاحتياطي الفيدرالي، كما حدث في ولايته الأولى. وقد أشار الاحتياطي الفيدرالي إلى أنه سيحتاج إلى مزيدٍ من الوضوح بشأن التأثير التضخّمي لرسوم ترامب الجمركية قبل خفض أسعار الفائدة أكثر، في حين يطالب ترامب بالفعل بسياسة نقدية أكثر مرونة لتحفيز الاقتصاد المتباطئ، وهو ضغطٌ من المرجح أن يزداد. إذا نجح ضغط ترامب، فسيضرُّ باستقلال الاحتياطي الفيدرالي ومصداقيته، مما سيضرُّ بدوره بمكانة الدولار العالمية، حيث ستبدأ الدول الخوف من أنَّ السياسة، وليس الاقتصاد، هي التي توجّه السياسة النقدية الأميركية. يُرسي الاحتياطي الفيدرالي النظام القائم على الدولار بأكمله، وبمجرّد تسييسه لسببٍ ما، سيكون من الأسهل تسييس عملياته لسبب آخر. على سبيل المثال، ستخشى البنوك المركزية في بلدان مثل كندا واليابان وأوروبا، عن حق، من أنَّ الاحتياطي الفيدرالي المُسيّس قد يقطع، في أوقات الأزمات، قدرته الثمينة على اقتراض الدولارات من خلال خطوط المبادلة في محاولة للحصول على تنازلات.
حتى لو لم تُطِح هذه التهديدات الدولار تمامًا، فإنَّ أيَّ تراجُعٍ في مكانته ستكونُ له عواقب وخيمة على الولايات المتحدة والعالم. يوفر وضع الدولار كاحتياطي فوائد هائلة للولايات المتحدة، بما في ذلك انخفاض أسعار الفائدة على الديون الحكومية والقدرة على فرض عقوبات صارمة. كما تجد دول أخرى العمل في الاقتصاد العالمي أسهل مع عملة سهلة التحويل وعالية السيولة وموثوقة تستخدمها معظم الجهات الفاعلة. ستكون نتيجة تراجع الدولار ارتفاع التكاليف، وتجارة أكثر تعقيدًا، وانخفاض مستويات المعيشة – على الأقل حتى تظهر عملة أخرى لتحل محله.
لم يكن الدولار دائمًا عملة الاحتياطي العالمي أو العملة المفضلة للتجارة الدولية. في القرن التاسع عشر، كان الجنيه الإسترليني هو الذي يتمتع بهذه المكانة، وكان المموِّلون البريطانيون يشعرون بالأمان في ظله. كانت المملكة المتحدة تتمتع بأسواق رأس مال عميقة وسائلة، وكانت الإمبراطورية البريطانية أكبر اقتصاد في العالم واللاعب الرئيس في التجارة العالمية. ومع ذلك، بعد حربين عالميتين وعقود من التراجع السياسي والاقتصادي، شاهدت لندن تراجع مكانة الجنيه الإسترليني العالمية. لم يكن هناك ما هو حتمي في تراجع الجنيه الإسترليني أو صعود الدولار، تمامًا كما لا يوجد ما هو حتمي في احتمال انهيار الدولار اليوم. فالخيارات، وليس القدر، هي التي تُحدد العملات الاحتياطية؛ فإذا ما خُلع الدولار أخيرًا عن عرشه، فسيكون ذلك كارثة من صنع إدارة ترامب نفسها.
- إدوارد فيشمان هو باحث أول في مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا. وهو مؤلف كتاب “نقاط الاختناق: القوة الأميركية في عصر الحرب الاقتصادية”.
- غوتام جاين هو باحث أول في مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا.
- ريتشارد نيفيو هو باحث أول في مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا، وزميل مساعد في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. شغل مناصب مختلفة في مجلس الأمن القومي الأميركي ووزارة الخارجية الأميركية.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا نع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.