هل يَبدأُ تَصويبُ بوصلةِ المسيحيين في لقاءِ الفاتيكان؟

الرئيس ميشال سليمان*

في خضمِّ الإضطراباتِ على الساحةِ الإقليمية والبحثِ الجاري عن تفاهماتٍ دوليّة لتقاسُمِ النفوذ وحماية مصالح اللاعبين الأمَمِيّين، يتخبّط لبنان في أزماتٍ مُتدَحرِجة أدّت إلى انهيارِ اقتصاده وإلى فَشَلِ إدارتِه السياسيّة.

في ظلّ هذا الانهيار العائد بمعظمه إلى فقدانِ سيادةِ الدولة على أراضيها وكذلك على شؤونها السياسية والحياتية، تطغى على المواطنين حالة قلقٍ على الهويّة والمصير ويمضي الجميع في البحث عن حلولٍ للحفاظ على هذه الهويّة والتعدّدية، تتراوح من الحياد الناشط التي زُرعت أساساته في إعلان بعبدا 2012 إلى المُطالبة بعقدِ مؤتمرٍ دولي للاتفاق على هذا الحياد، وفقًا لمبادرة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الإنقاذية. هذا الاهتمام الدولي المطلوب شهد بداياته في العامين 2012 و2013 من خلال تبنّي الأمم المتّحدة إعلان بعبدا كوثيقةٍ رسمية، كما ومن خلال إطلاقِ المجموعة الدولية لدعم لبنان في نيويورك التي بُنيت على هذا الاعلان، وذلك تحت رعاية الامم المتحدة وبمشاركة الدول الخمس زائد ألمانيا وإيطاليا والبنك الدولي والجامعة العربية والإتحاد الاوروبي. أمّا في الداخل، وبحجّة حماية حقوق المسيحيين والمحافظة على التعدّدية، فتتزاحم المشاريع السياسيّة والاقتصاديّة وبدلاً من اللامركزية الادارية تطرح الفيدرالية التي من شأنها أن تزيد من عزلة المسيحيين وتُلغي دورهم في بقاء لبنان وطن رسالة، كما يدعو بعض أنصار “المسيحية المشرقية” إلى تحالف الأقلّيات ما يدفع بالمسيحيين الى الابتعاد عن قضايا أوطانهم القومية، أو الانخراط في محاور المُمانعة وصراعاتها المدمّرة، أو اللجوء مُستقبلاً إلى الحماية العسكرية الأجنبية، أو إلى التماهي مع الأنظمة غير العادلة والمُتسلّطة الامر الذي يَسْتَبْطِنُ مشروع عداوة مع الشعوب، بخاصّة العربية منها، ويتناقض مع روح الدين المسيحي الرافض لأيِّ قهرٍ وظلامية وظلم.

إنّ مستقبل المسيحيين يكون حتمًا في تعزيز منطق الاعتدال والانفتاح، وفي اعتمادِ نهجِ الحوار مع مُحيطهم، وفي كلّ جهدٍ يهدف إلى بناء الدولة العادلة والحاضنة، التي تحترم حقوق الانسان والحرّيات الأساسية بما في ذلك حرّية العبادة وممارسة الشعائر الدينية، التي تسمح بمشاركة كافَة مكوّنات المجتمع الحضارية في الحياة السياسية وفي إدارة الشأن العام بغضّ النظر عن أحجامها العددية بل استناداً الى ما تُمثّله وترمز إليه من تنوّعٍ مُثرٍ للذات العربية في أبعادها الفكرية والثقافية والعلمية.

إنّ مشروع المسيحيين في الشرق، وفي لبنان بالذات، هو مشروعُ كلّ مواطن، إلى أيِّ طائفةٍ أو مذهبٍ انتمى، يتوقُ إلى الحرّية والعدالة والسلام.

حقوقُ المسيحيين في لبنان من حقوقِ جميع اللبنانيين، تُستَعادُ باستعادةِ قوّة الدولة وسيادتها، وبتحييد لبنان. وتُستعاد باستعادةِ ثقة المجتمع الدولي والمواطنين والمستثمرين، من أجانب ولبنانيين مُقيمين ومُنتشرين، بحكومةٍ تلتزمُ بتعهّداتها وتُطبّق الدستور وتحترم مواعيد الاستحقاقات. تُستعادُ هذه الحقوق باستقلالية القضاء وعدالة القاضي، بتجرّدِ المسؤول وشفافيته وبحصرِ السلاِح بيدِ الدولة، بتكافؤ الفُرَص واعتمادِ آليةٍ مُوَحَّدة للتعيينات. تُستعادُ بالإنماء المُتوازِن وبمعدّلِ نموٍّ اقتصادي معقول وبقانون انتخابي يعتمد على النسبية بعيدًا من جوهر “القانون الأرثوذكسي” الطائفي الذي يصلح لتمثيل العائلات الروحية في مجلس الشيوخ. تُستعادُ حقوق المسيحيين باستعادة الديبلوماسية المتوازنة، بالحرّية وبإبقاء لبنان ملاذاً للمُضطّهَدين، بالحوار والروح السمحة. تُستعادُ حقوق المسيحيين ونُحافظ عليها بالتزام وثيقة “الإخوّة الإنسانية”، بالحرص على حقوق المُسلمين قبل كل شيء وحقوق جميع اللبنانيين، باستكمال تطبيق الدستور وليس بالتفاهمات الثنائية وتقاسُم المغانم.

حقوق المسيحيين لا تُستعاد إذا حمَلَت كلّ طائفة ميزانًا بيدها، كي تضع وزيراً قبالة وزيرٍ وحاجباً قبالة حاجبٍ فتقود لبنان إلى حدود الحلول المستحيلة. لا تُستعادُ ” إذا أكثرنا من موازنة العدالة إذ تنقلبُ ظُلماً لأنها تُبعِدنا عن مكسب الطائفية الوحيد الذي تعلّمناه عبر الأجيال وهو التسامح والتعايش”، كما قال ميشال شيحا.

الفُرصة متاحة اليوم لرسم المسار الصحيح عبر دعوة البابا فرنسيس رؤساء الطوائف المسيحية الذين تنتشر رعاياهم في لبنان، وفي مقدّمهم بطريرك إنطاكية وسائر المشرق الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، الى لقاءِ ” تفكيرٍ وصلاة من أجل لبنان” في الفاتيكان في أول تموز (يوليو). هذه الدعوة هي مناسبة لتصويب بوصلة المسيحيين في لبنان ” باتّجاه الحوار والانفتاح والمصالحة ” التي ذكرها الحبر الاعظم بابا الأخوّة الإنسانية في كتابٍ تلقّيته من قداسته في 21 ايار (مايو) 2021، جواباً عن رسالتي له أثناء زيارته إلى العراق، مع الأمل أن يؤسّسَ تصويب البوصلة المسيحية لتصويب البوصلة اللبنانية بشكل عام باتّجاهِ دولةِ العدالة والمُواطَنة والمؤسّسات وصاحبة السيادة الكاملة غير المنقوصة.

  • ميشال سليمان، الرئيس السابق للجمهورية اللبنانية.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره في صحيفة “النهار” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى