اشتَرَتْها بــ4 دولارات وبيعت بـ200 أَلف

الرسام وايث في صورة فوتوغرافية (1920)

هنري زغيب*

المؤْمنون يسمُّونها “العناية الإِلهية”، والعَلمانيون يسمُّونها “المصادفة القدَرية”. وفي الحالتين هي حادثة مُفْرحة جرت لسيِّدة كانت ترمي من شراء اللوحة إِلى اقتناء إِطارها الجميل، فإِذا بها تُغَيِّر إِطار حياتها كلِّها نحو السعادة. 

كيف ذلك؟ وماذا جرى؟

محل عتيق لأَغراض عتيقة

تنتشر في الولايات المتحدة مخازن تختص ببيع الأَغراض القديمة التي تخلَّى عنها أَصحابُها لعدم حاجتهم إِليها، أَو للتخلُّص منها بعد اقتنائهم إِياها، فتباع بأَسعار زهيدة جدًّا.

هكذا دخلَت لوسي ذات يوم محلًّا لبيع الأَغراض القديمة في مانشستر (مدينة أَميركية كبرى على ضفة نهر ميريماك جنوبيّ ولاية نيو هامشير). كانت تبحث عن إِطار جميل للوحةٍ لديها ذات إِطار عتيق. رأَت لوحة في زاوية المحل، لم تكترث للرسم الزيتي فيها بل أَعجبها إِطارُها. دفعت ثمنها 4 دولارات وخرجَت غير مدرِكة أَنها تحمل ثروة فنية كبرى ستغيِّر كل حياتها من البَلادة إِلى السَعادة.

الرسام وايث بريشته (1940) محاولًا تقليد الفوتوغرافيا

ما هي؟ ومن هو؟

هي لوحة أَصلية للرسام الأَميركي نِيْوِل كونفرس وايث Newell Convers Wyeth (1882-1945) الشهير كذلك برسم أَغلفة الكتُب، بدليل أَنه وضع نحو 3000 لوحة زيتية و112 غلافًا لكتُب نثرية وشعرية، معظمُها لمنشورات سْكْرايبْنِر العريقة (تأَسست في نيويورك سنة 1846)، وهي التي شهرت اسمه كرسام ومصمم أَغلفة. وأَشهر غلاف صمَّمه لتلك الدار هو لرواية “جزيرة الكنز” للكاتب السكوتلندي روبرت لويس ستيفنْسن (1850-1894). وكان وايث رسامًا واقعيًّا زمن بدأَت الفوتوغرافيا توسّع مكانها لدى الجمهور، فكان لا بدَّ للرسام من أَن يجاري واقعية اللوحة مع واقعية الصورة الفوتوغرافية. من هنا قولُه سنة 1908: “الرسم الزيتي وتصميم الغلاف فنَّان مختلفان لا يجوز الخلط بينهما”.

ذات يوم من 2017

لوحتُه موضوع هذا المقال، ضاعت 84 سنة تائهةً من يد إِلى يد ومن محل إِلى آخر حتى انتهت مركونة في زاوية مهملة من ذاك المحل العتيق بين فوضى لوحات عتيقة وأُطر عتيقة. اشترتها لوسي ذات يوم من 2017 لأَنها أَحبَّت إِطارها، ظنًّا منها أَنها حتمًا نسخة مزوَّرة إِذ اللَوحة الأَصلية التي لا يمكن أَن تكون في عجقة هذه الزاوية.

علَّقَت لوسي تلك اللوحة في غرفة نومها بضعة أَشهر، ثم نقلَتْها إِلى خزانة في قبو البيت تحوي عددًا من الأَغراض العتيقة وصوَرًا فوتوغرافية من سنواتها المدرسية. وذات يوم من آب/أغسطس الماضي، فيما هي تبحث عن غرض عتيق لها، لاحظَت على مقلَب تلك اللوحة ما لم تكن لاحظَتْهُ من قبل: ورقة بيضاء عليها ما يشبه التوقيع. فتقَت لها فكرةُ أَن تصوِّر اللوحة ومقْلَبها وتضع الصورتين على صفحة لــ”فايسبوك” عنوانها “لوحات منسية على جدران”.

وما هي حتى لفتَت الصورتان السيدة لورين لويس، الخبيرة في شؤُون اللوحات الفنية وتجارتها، فاتصلت بلُوسي وطلبت منها أَن توافيها وزوجها إِلى مكان معيَّن كي تتأَكَّد من أَن اللوحة أَصلية للرسام وايث التي ما زالت ضائعة منذ 84 سنة.

حالًا غلَّفَت لوسي اللوحة بقماشة كبيرة ووضعَتْها، بحرصٍ هذه المرة، في السيارة التي قادها زوجها إِلى حيث اتفقت معها السيدة لُويس: موقف عام للباص على نحو 90 دقيقة من منزلهما.

هلِن هانت جاكسون مؤَلِّفة رواية “رامونا”

اكتشاف الكنز

حالما أَخذَت السيدة لُويس اللوحة بين يديها، وجدَت فيها بعض التشقُّقات والبقع التي تبدو طبيعية بعد 84 سنة على ولادة اللوحة، وأَفادتها الورقة البيضاء على مقلب اللوحة أَنها فعلًا هي: اللوحة الأَصلية بتوقيع وايث.

حين علم بالأَمر مديرُ مخزن الأَغراض العتيقة في مانشستر، ندِمَ على أَنه لم يكُن مدير المخزن سنة 2017، حين لوسي اشترت اللوحة، وإِلَّا ربما كان تنبَّه إِلى أَهميتها.

بعد اكتشاف أَهميتها بفضل السيدة لُويس، تبيَّن أَنها إِحدى أَربع لوحات غلافية وضعَها رايث سنة 1939 لطبعة جديدة يومها من رواية “رامونا” الْكانت الكاتبة هِلِن هانت جاكسون (1830-1885) وضعتْها سنة 1884. وفي اللوحة يبدو الموقف متأَزِّمًا بين رومانا ووالدتها الفظَّة سنيورَا غونزاكا مورينو.

عرضَت لوسي اللوحة إِلى “مؤَسسة بونهامز سْكينِر للمزادات العلنية”، كي تباع في المزاد العلني، وهو ما جرى في 19 أَيلول/سبتمبر الماضي فبيعت اللوحة بـ200 أَلف دولار.

من 4 إِلى 200 أَلف دولار

هكذا، من دفْع 4 دولارات ثمنها، إِلى قبْض 200 أَلف دولار، وُجدت لعالَم الرسم لوحة رائعة (“رامونا”) كانت تائهة طيلة 84 سنة، وتغيَّرَت كُليًّا حياة لوسي وزوجها، فدفعا جميع فواتيرهما المتأَخرة، وبرمجا زيارة أَحد أَولادهما في أَلمانيا.

ولكي تحفظ لوسي أَثرًا للذكرى من تلك اللوحة، اشترت (إِنترنتيًّا من شركة “أَمازون”) الطبعة الأُولى (1939) من رواية “رامونا” (التي كان وايث رسم اللوحة خصيصًا لغلافها)، وخلعَت عنها الغلاف كي تحفظ صورته في إِطار يذكِّرها دائمًا بأَنها كانت يومًا تبحث عن إِطار فوجدَت كنْزًا أَغلى من أَيِّ إِطار.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى