عندما أظلَمَ النهار

رشيد درباس*

“نَقسُمُ باللهِ العظيم … أن نبقى مُوَحَّدين”
جبران تويني

في ذكرى استشهادِ جبران تويني، قال متروبوليت بيروت المطران الياس عودة: “إنه شهيدُ ثقافتين مُتناحِرتين، ثقافةُ إنسانٍ مُحِبّ لوطنه، وثقافةُ مُجرِمٍ أرادَ إسكاتَ كلّ صوتٍ جريء وقلمٍ حُرّ”؛ وأضاف: “لكن الشيطان أغوى نفوسَ أتباعه “فأظلمَ النهار”، وغابت شمسُ الحرية والديموقراطية”. هذه الكلمات تُلخّصُ “النهارَ” اللبناني العريق، فمنذ جبران المؤسّس الذي أنشأ مع رعيله، بالموهبة والجهود الفردية، صحافةً لبنانية يُطالعها اللبنانيون كل يوم، لها مصداقيتها وجدارة كتّابها، ولها الشهادة الحق بأنَّ الدولة اللبنانية ما أحرزت موقعها في مصاف الدول التي تسودها الحرية وتسعى في مراقي الديموقراطية، إلّا بفضلِ المطبوعات الأسبوعية واليومية فيها، التي كانت مَعلمًا راقيًا من مَعالمِ مُجتَمَعٍ آخذٍ بسياقِ التطوّر.

وتُعيدُنا الذكرى إلى ذلك اليوم الذي وقفَ فيه سيادة المطران ليؤاسي واسطة العقد التويني، الأستاذ غسان والد الشهيد  الذي فقد أولاده وزوجته ولم يفقد جأشه بل فاجأ العالم بقوله فوق الجثمان المُسَجَّى: “إنَّ قلبه لا يحمل الحقد، وإنَّ على اللبنانيين أن يَتَّحِدوا،” فكأنه كان يعود بنا إلى جبران الأول، و”نَبِيِّه “، وموعظته: “أحِبّوا بعضكم بعضًا، ولكن لا تُقَيِّدوا المحبة بالقيود. اتفقوا معًا، ولكن لا يقترب أحدكم من الآخر كثيرًا، لأنَّ عَمُودَيَّ الهيكل يقفان مُنفَصِلَين”.
قد تكونُ أوجهُ شَبَهٍ بين” النبي” و”هكذا تَكَلَّم زدرشت” للفيلسوف الألماني نيتشه.  لكن كتاب جبران الذي ما زال ملايين الناس يتداولونه، فيه من الرحيق اللبناني وشميم الأرز وقداسة وادي قاديشا، ما يَطغَى على اللغة التي ألّفه بها، أو هكذا بدا لي. فأعمدةُ الصحافة اللبنانية تباعدت وتباينت، فشكّلت هيكلًا وطيدًا  كان محطَّ الأنظار العربية كلها، لم يُضاهه إلّا الهيكل الصحافي المصري الذي كانت لجرجي زيدان وآل تقلا وأنطون باشا الجميل وروز اليوسف ويعقوب صروف وفرح أنطون وشبلي شميل، أفضالٌ عليه وبصماتٌ لا تُنسى.
ومن شُرفَةِ النبي الإنكليزي اللبناني الأصل، الذي رأى في التنوّعِ وِحدة، وفي الاختلافِ ائتلافًا، أَنظُرُ إلى السياسة اللبنانية فأجدها مُرتَهنة لمن انفصلت أعماله عن إيمانه، وعقيدته عن مهنته؛  كما لو أنَّ من تسلّلوا إلى عباءة “النبي” وتَكَنَّوا به، إن هم إلّا “إبليس” توفيق الحكيم القائل: “إنني أعرفُ كيف أمرُّ بأناملي مَرًّا رفيقًا على أوتارِ قلوبِ الناس، فيذهلون، وأُغنّي بصوتي غناءً شجيًّا فيطربون…”. ولقد فات هؤلاء أن ملمسهم صار خشنًا وغناءهم نشازًا، وكلامهم شِقاقًا ونِزاعًا واستدعاءً يائسًا لحربٍ أهلية لن تكون.
واستطرادًا أدبيًّا، إذا  صحَّ التعبير، أذكرُ أنني  قرأتُ في أحدِ كُتُبِ محمد حسين هيكل أنه عندما بدأ بنشر رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ ، على حلقات في “الأهرام” الأسبوعي، أثارت احتجاجُ بعض مشايخ الأزهر؛ فاستدعاه الرئيس     جمال عبد الناصر لسؤاله عن الرواية، وإخطاره بأنه شَكّلَ  لجنةً لدراستها وبيان مدى تباينها مع قواعد الشريعة، لتقرير جواز نشرها أو منعه؛ مُضيفًا أنَّ الرئيس طلبَ إليه أن يبدأ نشرها يوميًا لا أُسبوعيًا، من باب الاحتياط، ريثما تفرغ اللجنة من فحصها.  فلم  يصدر  القرار بعدم جواز النشر، إلّا وكانت الحلقات انتهت، فتلقفها المرحوم الدكتور سهيل إدريس وأصدرها عن دار الآداب في بيروت.
بعد حوالي ثلاثين عامًا من ظهور الرواية، أفتى الشيخ الأصولي عمر عبد الرحمن بقتلِ المؤلّف الذي تعرّضَ للطعن في رقبته عام 1994، بعد يومٍ من ذكرى حصوله على جائزة نوبل للآداب. فقد أخذ الشيخ على الأديب العالمي أنه جعلَ من الأنبياء” أولاد حارته“، مُخترِقًا قداستهم بالتعامل معهم كأشخاصٍ عاديين من أبطال رواياته. لكن محفوظ ذاته يقول إن قصة الأنبياء هي الإطار الفني، أما القصد فنقد الثورة و”النظام الاجتماعي الذي كان قائمًا”.
والعقدة الدرامية تكمن في أن الجبلاوي الرجل  الفائق الثراء، الساكن قصرًا في سفح جبل المقطم، قرر أن يولي إدارة الوقف إلى ابنه أدهم المولود له من أمٍ جارية، وسلّمه وصيته آمرًا إياه بكتمانها. فتمرّدَ على القرار ابنُه البكر إدريس الذي أمه من سلالةٍ شريفة. وإذ طرده أبوه من القصر، آلى على نفسه أن يَخدَعَ أدهم ويُوَسوِس له بأن يكشفَ الوصية، فلما استجابَ الأخيرُ  للوَسوَسة وعصى أمرَ والده، كما فعل (آكل التفاحة)، طُرِدَ أيضًا من جنّة ذاك القصر.
من قبل محفوظ كَتَبَ أديبُ ألمانيا وشاعرها العظيم غوته عن فاوست الذي يبيع نفسه للشيطان مقابل أن يمنحه الشباب.
ربما أَفَضْتُ في استشهادي بروائع تحكي عن صراع النبي مع إبليس. ولعلَّني استنجدتُ بذاكرتي للارتفاع فوق وحول التحاليل السياسية التي لا يُعيرُها أهلُ الحَلِّ والعقد في لبناننا أيَّ اهتمام. فالأبالسة لا يأبهون إلّا “للوقف” واستثماره: يحتكرون إدارة الكهرباء لأنها تنتجُ مالًا وعتمة، وَيُعَرِّضون بالجيش لأنه يحرسُ أمننا ولا يحفظ لهم طاعة، ويستحسنون الفراغ، ويستدعون مقولات التجزئة  والفدرلة، وهم منتشرون في كلِّ زاوية من زوايا الحياة السياسية في دولةٍ مُعَرَّضة  للغرَق، كما قالت السيدة “كولونا” وزيرة خارجية فرنسا، غائبةً تمامًا عمّا يجري في الجنوب، لا رؤية لها ولا خطة تجاه ما يجري، ولو من قبيل الاحتياط والترقّب ودرء الضرر.
عندما يذهبُ الكاتبُ في الأمور السياسية، إلى المطلقات وضرب الأمثلة، وسرد الروايات، تكون العقدة قد عصت المنشار. وبالفعل، نحنُ نحاولُ عبثًا تبيان الأبيض من الأسود، والخير من الشر، والنبي من إبليس، في زمنٍ يُعلِنُ فيه إبليس نبُوَّته من بعد ما أوقع “ببني أدهم” السائرين وراء شهواتهم إلى أن وجدوا أنفسهم مطرودين إلى أرض مقفرة، يقتل فيها “قابيلهم” “هابيلهم،” من دون أدنى شعور بالأخوّة، أو تحلٍّ ببُعدِ النظر.
إنَّ الحربَ التي تشنّها إسرائيل على الفلسطينيين وفلسطين التاريخية، هي فصلٌ من روايةٍ لم تَكتَمِل. لأنَّ الصهيونية المُتَمَسِّحة بالتوراة تقوم على فكرة “شعب الله المُختار”، وهي فكرة لاصقة النسب بالممارسة النازية “النخبوية”، التي زعمت حق العنصر الآري باستعباد أو استغلال “المجال الحيوي” المُحيط. هذه الفكرة تَوَغّلت فيها إسرائيل، وراحت في الوقت عينه تسعى إلى “التطبيع” بالتوازي مع محاولة تفريغ الأرض الفلسطينية من أهلها، لولا أنَّ السابعَ من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أحدثَ زلزالًا في الاسترخاء الإسرائيلي والاستنقاع العربي، وأيقظَ القضية الفلسطينية من نومٍ افتراضي، ووضعها على منصّة الوجدان العالمي، واهتمام الدول، فثبت بالملموس أنها لم تسقط بالتقادم و لم يُطفِىء مرورُ الزمن حممها البركانية التي تفور من جيلٍ إلى جيل، وأنَّ الذاكرة الفلسطينية محفورة في ضمائر الفلسطينيين منذ تكوُّنهم أَجِنَّةً في الأرحام، وأنَّ الحربَ المدمّرة لن تستطيعَ أن تُغَيِّرَ من الأمر شيئًا، فأهلُ غزّة باقون في أرضهم العارية، مُتشبثّون بركامها، مستنبتون من باطنها مقاومة مذهلة، تفاوتت ردود الفعل العربية عليها إيجابًا، لا سيما القرار المصري الذي أحبط فكرة التهجير، والموقف المُماثل  للمملكة الأردنية الهاشمية، مع التنويه  بالبيان السعودي وقوافل المساعدات، وكذلك الدور القطري. أما لبنان فتميَّزَ بموقفٍ شعبيٍّ مُوَحَّدٍ مع اختلافات بَيِّنَةٍ في المقاربات، أخشى أن تتحوَّلَ إلى مفاصل رخوة  تسكنها جراثيم السياسة، في حين أنَّ قادةَ إسرائيل لم يتوقّفوا عن التهديد بتدمير لبنان وإعادته إلى العصر الحجري دون تفريقٍ بين مُمانع وغير مُمانع، وهذا يقتضي، في الحدّ الأدنى من الأمور، أن يلتقي اللبنانيون، بقواهم الفاعلة والمختلفة على البحث عن وسيلةٍ ما لِصَدِّ ما انتواه العدو. لكن الواقع، مع الأسف، يُخالفُ المطلوب، إذ تسفر “المناوشات” اليومية، عن مزيدٍ من الشهداء والتخريب والتهجير، ضمن “قواعد” لا تُشَكّلُ صمّامَ أمانٍ على الإطلاق، لأنَّ النية الإسرائيلية، تنطوي على توسيع نطاق عدوانها في مرحلةٍ مقبلة، وخصوصًا عندما يتبيَّن لها أنَّ حربها في غزة لن تسفرَ عن تحقيق الأهداف المُعلَنة، فتحاول أن تجعل من لبنان محل تعويضٍ بديل لمأزقها مع الفلسطينيين. وتحت هذا العنوان تدخل عملية الاغتيال بالأمس في الضاحية الجنوبية، حيث لم تقتصر نتائجها على استشهاد القائد الفلسطيني ورفاقه، بل تعدّته إلى إحداث البلبلة في عقر العاصمة.
لا شكَّ أنَّ اسرائيل ستُجابَه في لبنان، بما لا يقل عن الجبهة الفلسطينية؛ لكن الآلة الجوية العدوة قادرة على أن تفعلَ فينا ما فعلته في غزة، والفارق يكمن في وحدة اللبنانيين، ولو بصفةِ المُعتَدى عليهم، لجَبهِ العدوان بكلِّ ما هو مُتاح، وتَدارُك نتائجه، كما كان يحدث في ظروفٍ سابقة. ولعلَّ علينا، من باب الارتياب المشروع، أن نأخذَ بعين التوجّس انسحاب القوة البحرية الأميركية من البحر المتوسط، وربط الأمر بمحادثات سرّية في سلطنة عُمان يجري تسريب الأخبار عنها، ما قد يدل على وجود خريطة جديدة للمنطقة لا ندري عن خطوطها شيئًا.
أخطرُ ما يتهدّدُ الوضع السياسي اللبناني أنَّ كلَّ فريقٍ ينسبُ للآخر الأبلسة، ويُعِدُّ نفسه من الملائكة. لكننا لو ابتغينا الإنصاف، لاعترفنا بأنَّ أجواقَ الشياطين والملائكة عندنا، مُتداخلة تداخُلًا ملتبسًا لا انفصامَ فيه، وأنَّ إسرائيل التي تعرفُ ذلك لن تُمَيِّزَ بين “المُرَفْرِفِين” و “المُوَسْوِسين”، لأن غرضها الأساس، هو تدمير “الوقف اللبناني”، الذي نتصارع عبثًا على الاستئثار ببقاياه، كما في رواية نجيب محفوظ، فيما هي تسعى لإلغاء الصيغة التي تُناقض وجودها وتنقضه.
علينا، إذا نسينا قَسَمَ جبران تويني، أن نصغي مُجَدّدًا إلى نصائح الجبلاوي صاحب الوقف في أولاد حارتنا أو نُعيدُ قراءة رواية الإخوة كارامازوف.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى