مُذَكّرات محمد فايق مُهَندِسُ الإعلام الناصري (5): هل فَقَدَ عبدُ الناصر ثِقَتَهُ بعَدَمِ الانحياز؟

غلاف كتاب مذكرات محمد فايق “مسيرة تحرر”

سليمان الفرزلي*

لافِتٌ للنظر أنَّ محمد فايق في كتاب مذكراته لم يُعطِ حَيِّزًا ملحوظًا للحديث عن حركة عدم الانحياز التي انطلقت من مؤتمر باندونغ في إندونيسيا (24 نيسان/إبريل 1955)، حيث كان ذلك المؤتمر أول منصَّة لانطلاق نجوميَّة الزعيم المصري جمال عبد الناصر على الصعيد العالمي. هذا مع العلم أن فايق، بقرارٍ من رئيس الجمهورية، أصبح مسؤولًا عن الشؤون الآسيوية إضافةً الى مسؤوليته عن الشؤون الإفريقية. كما نقل ما قاله له عبد الناصر عند تكليفه بهذه المهمة يحرفيته، وهو: ” اللي عملته في إفريقيا نريد نعمله في آسيا”، وذلك في سياق حديث طويل عن أهميَّة آسيا، من حيث مواجهتها التحدّي الحضاري نفسه الذي تواجهه إفريقيا من جانب الغرب.
لكن محمد فايق في هذا السياق رَكَّزَ على نقطتين: الأولى، توثيق العلاقة بين عبد الناصر والزعيم الصيني شو إن لاي، وما أدَّت إليه من حصول مصر على أسلحةٍ جديدة من المنظومة السوفياتية. وفي مؤتمر باندونغ، كما تُشيرُ مصادر أخرى (غير مذكرات محمد فايق)، كان شو إن لاي هو الذي اقترَحَ أن يكونَ عبد الناصر رئيس لجنة الصياغة للبيان النهائي لمؤتمر باندونغ.
أما النقطة الثانية، وربما الأهم من المنظور العربي، على الرُغمِ من أنَّ محمد فايق لم يتوسّع بها في النص، بل شرحها في حاشيةٍ من خمسة أسطر في أسفل الصفحة 105، فهي نجاح عبد الناصر في إبعاد إسرائيل عن المؤتمر، مع أنها كانت مدعوة إليه بصفتها دولة آسيوية. ويقول محمد فايق في شرح هذه النقطة في الحاشية رقم 13: “عند التحضير للمؤتمر الإفريقي–الآسيوي، الذي عُقد في باندونغ في العام 1955، دُعِيَت إسرائيل بوصفها دولة آسيوية، فاعترضَ الرئيس عبد الناصر بوصفها دولة توسّعية تحتل أراضٍ ليست لها، وطردت مليون فلسطيني من ديارهم، وترفض عودتهم على الرُغم من قرارات الأمم المتحدة، وطلب منظمّو المؤتمر من إسرائيل أن تُعلن استعدادها لعودة اللاجئين الذين أُبعدوا عن ديارهم كي تحضر المؤتمر (وقد تم ذلك بإيحاءٍ من عبد الناصر). ورفضت إسرائيل إعطاء هذا الإعلان أو التصريح، وعلى هذا الأساس سُحبت الدعوة التي كانت وُجِّهت إليها”.
وأودُّ في هذا السياق أن أعرض واقعة جرت في لندن عام 1977، عندما انتقلت مجلة “الدستور” اللبنانية، لصاحبها ورئيس تحريرها علي بلوط، الى العاصمة البريطانية وأُنيطَت بي نيابة رئاسة التحرير. في ذلك الوقت كان يكتب في المجلة بعض الصحافيين المصريين وأبرزهم محمود السعدني (كان السعدني يومئذ يكتب مسلسلَا بعنوان “حمار من الشرق”). في تلك الأثناء زارنا في مكاتب المجلة السيد عبد المجيد فريد، الذي عمل لفترة في مكتب الرئيس جمال عبد الناصر، حاملًا معه ملفًّا يتضمّنُ محاضر وملاحظات قال إنه جمعها خلال عمله في مكتب الرئيس المصري. وقد جاء بذلك الملف بغية نشره في “الدستور” بالاتفاق مع صاحب المجلة الذي أعطاني الملف وطلب مني أن أقرأه، وأن أُقَسِّمه من أجل تسهيل نشره على حلقات. وهذا ما تمَّ فعلًا تحت عنوان “أوراق عبد الناصر”.
كانت تلك الأوراق التي حملها عبد المجيد فريد إلى لندن، قَيِّمة ومُفيدة، لكنها بالنسبة إليّ لم تكن في جُزءٍ كبيرٍ منها تحملُ جديدًا، إلّاَ ربما في التفاصيل. لكن محضرًا فيها يعود إلى الفترة الأخيرة من حياة عبد النصر لفتني لأنه يُستَشَفُّ منه عبارة نقد تدلُّ على شيء من الندم على الانخراط في حركة عدم الانحياز، بل لفكرة عدم الانحياز أصلًا. وقوام تلك الفكرة التي لم يُركّز الزعيم المصري عليها كثيرًا، فجاءت بشكلِ عبارةٍ عابرة، أنه من غير الممكن الحياد بين الإمبريالية وبين حركة الشعوب الساعية الى التحرّر، بمعنى أنَّ الحيادَ بين الظُلمِ والعدل هو في واقعِ الأمرِ انحيازٌ إلى الظلم.
وقد لفتتني الفكرة عطفًا على أحاديثي السابقة في بيروت منتصف الستينيات من القرن الماضي مع خوان لاشين، الزعيم العمالي البوليفي (من أصل لبناني من منطقة جزين)، حول “التردّد الثوري”، وهو ما كتبتُ عنه مليًّا في كتاب سيرتي الذاتية “علامات الدرب” (الفصل التاسع من القسم الثالث، الصفحات 413–432)، وقد سألته في سياق تلك الأحاديث، عن رأيه في الثورة المصرية، فقال لي إنَّ طريقها مسدودٌ لأنها تُشبه الثورة المكسيكية، من حيث تردُّدها وعدم قدرتها، أو رغبتها، على الحسم. ووجدتُ هذه الفكرة العابرة في أوراق عبد الناصر متوافقة تمامًا مع فكرة خوان لاشين عن الثوريين المُتردّدين الذين يُقدّمون خدمة مجانية للإمبريالية من حيث يتصوّرون أنَّ التردّدَ موقفٌ إيجابي.
وفي أواخر العام الفائت صدر في بريطانيا وأميركا كتاب جديد بالإنكليزية عن سيرة عبد الناصر للمؤلف البريطاني المقيم في لبنان أليكس رويل، بعنوان “نحنُ جنودك”، قال فيه إنَّ عبد الناصر عاد من باندونغ رجلًا آخر، تحوًّل إلى أيقونة في آسيا وإفريقيا، وإلى بطلٍ في مصر والعالم العربي. حتى علاقته مع زملائه في الثورة تغيّرت بعد باندونغ، وبعد استقباله في القاهرة استقبال المُنتَصِر لدى عودته من المؤتمر. فلم يعد أحدٌ منهم يناديه باسمه الشخصي كالسابق، بل صار اسمه “الريس” أو “سيادة الرئيس”. وإذا دخلَ عليهم في القاعة فلم يعد مألوفًا، أو مسموحًا، أن يبقى أحدهم جالسًا في مقعده جري العادة، فصاروا إذا دخل يقفون احترامًا وإجلالًا. من اليوم الأول بعد عودته من باندونغ، نشأت تقاليد جديدة في التعامل معه، وأخذت الأمور منحى أكثر جدّية من ذي قبل.
وقد أثبت كتاب رويل الجديد (له كتاب سابق في العام 2017 عن “شعر الخمر للشاعر العباسي أبي نواس”)، أنه على الرُغمِ من صدور عشرات الكتب عن عبد الناصر، هناك دائمًا شعورٌ لدى الباحثين بأنَّ الموضوعَ ما زال بحاجةٍ إلى كتابٍ جديد.
فهناكَ نقطةٌ ما زالت جديرة بالبحث، وهي حقيقة العلاقة بين جمال عبد الناصر وخليفته أنور السادات. فقد كان السادات أشبه بالمُبعَد، أو المنفي، لفترةٍ طويلة. لكن عندما شعر عبد الناصر بوطأة اشتداد مرضه، وأيقنَ أنه لن يستطيع تحمّل ما هو مطلوب من مصر بموجب مبادرة روجرز الأميركية، التي كان أعلن قبوله بها، أعاد تأهيل السادات، وعيَّنه نائبًا للرئيس، وأخذ يأنس اليه فيزوره كل يوم تقريبًا في منزله زيارة صديق. أو باختصار، عبد الناصر هو الذي اختار خليفته في حياته. أو ربما اختاره ليسير على النهج الذي اتخذه السادات، ولا يستطيع هو أن يتّخذه. ولمستُ من بعض الزملاء المصريين خلال الزيارَتَين اللتين قمتُ بهما الى مصر، بعد زيارتي إلى سيناء المُحرَّرة في العام 1974، زيارة في العام 1983، وأخيرة في العام 1998، أنهم يميلون إلى هذا التصوّر.
وهذا يستدعي الحاجة إلى كتابٍ جديد عن عبد الناصر يضعه باحث مجرّد من الهوى.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى