لُفافات الصُحُف حيوانات من ورق

الأَرنب بكامل تعابيره

هنري زغيب*

كان جدُّها صاحبَ مصنع للورق، وكانت تزوره أَحيانًا وتُراقب كيف يطحن الورق ثم يُخْرجه في أَشكال وأحجام مختلفة. وكانت أَحيانًا تتسلى بخلق أَشكال بسيطة صغيرة من نُتَف الورق المهمَل. وكبرَت وتخصَّصت في الرسم الكُتبي، وعملَت مع جمعية مدنية غير حكومية، أَرسلَتْها إِلى رحلة عمل في أَفريقيا. وصدَف هناك أَن رأَت وحيدَ قرن ضخمًا يُطاردُه صيادُون ليقتلوه طمعًا بالعاج في أَنيابه.

من هنا بدأَت قصتُها مع الورق.

الطائر الورقي المتفلِّت من القفص

بدءًا من وحيد القرن

أَحسَّت بحنانٍ تجاه وحيد القرن التاعس، وأَردت أَن تعوِّضَ له ظُلْم الإنسان، فصنعَت من قصاصات لفائف الورق الرقيقة تمثالًا له. ومنه أَحسَّت أَنَّ هذه هوايةٌ ستجعلها مهنة لها وحرفة حياتها. وهكذا كان.

إِنها شِيَاه هيتُوتْسُوياما. ولدَت سنة 1982 في مدينة فُوجي (مقاطعة شيْزُووكا-اليابان). أَحبَّت الرسم للكتب منذ صباها، وبعد تمثال وحيد القرن في طفولتها، ارتأَت أَن تواصل تلك الهواية وتمتهنَها احترافيًّا بتجميع قصاصات الصحف ونُتَف الورق الباقية من مصنع جدها.

وكي تجعل أَشكالها مطواعة بين أصابعها، راحت هيتُوتْسُوياما تجمع كميات الورق الآيلة إِلى التلف، وتشكِّل من القصاصات لفائف رقيقة بطولها، تجمعها في محترفها، تمهيدًا لصنع تماثيل منها، في عمل دقيق جدًّا يتطلَّب الصبر والأَناة مع موهبة بناء التمثال، في تطويع لا تصنعه الآلة ولا يمكن إِخراجُه إِلَّا بأَصابعها.

ولأَن بدايتها كانت مع وحيد القرن، وما شعرت به من حنان تجاهه وهو يهرب من الصيادين، بقي عندها هذا الحنان تجاه الحيوانات، فقرَّرت أن تختص بتماثيل حيوانات تظلُمها الطبيعة ويظلُمها الإِنسان، فَتُظهر جمال هذه الحيوانات البرية الهاربة من شراسة الإِنسان.

القرد الشامبانزي

بالحجم الطبيعي

بدأَت أَولًا برسم الحيوانات على الورق. ثم استقلَّت بالعمل مباشرةً في صنع التماثيل، وراحت تُكبِّرها تدريجيًّا حتى بلغت في بعضها الحجمَ الطبيعي لحيواناتٍ منها ما هو بَرِّيٌّ ومنها ما هو بَحريّ. وكانت تلك ظاهرة فريدة بصنع تماثيل من ورق.

مع هذا الشعور في داخلها، لا تكتفي بالشكل وحده بل يهُمُّها الرمز: ففي هذه الصحف المهمَلة الآيلة إِلى مستوعبات النفايات، قصصٌ في الصحف وتواريخُ وأَعلامٌ وصوَرٌ وأَحداث، كان لها تاريخ حين الجريدة بين أَيدي قرائها، حتى إِذا انقضى زمانها، تذهب جميعها بكل ما فيها إِلى النفايات.

ولأَن مصنع جدها يُدوِّر الورق ويَصهَرُه ويَطحنُه ويُحوِّله إِلى مواد نافعة، أَرادت هي الأُخرى أَن تستعمله في عمل فني يُبْقيه حيًّا في شكل تمثال. فهي تتأنَّى بتمثالها، لُفافةً رقيقةً بعد لفافة رقيقة، وتُلصِقُها بتؤُدة في زوايا أُفقية أَو عمودية أَو مستديرة، وتروح تعلو بها قطعةً بعد قطعة وَفْق الحيوان الذي تَروم صُنْعه، بَريًّا كان أَو بحريًّا. وغالبًا ما تحتاج آلاف اللفافات الرقيقة كي تُشكِّل تمثالها، خصوصًا حين تريد أَن تصنعه بالحجم الطبيعي.

دبَبَة قُطبية في معاطفَ من… ورق

دراسة الحيوان قبل نحته ورقيًّا 

تمثالًا بعد تمثال راحت هيتُوتْسُوياما تتماهى في مملكة الحيوان مع حياة الحيوانات البرية والبحرية، خصوصًا أَنها، قبل البدء بالتمثال، تقرأُ عن الحيوان الذي تريد صنعه، حتى تعرف خصائصه ومزاياه وأَطباعه، كي تُبرزَ ذلك في قوائمه وعينَيه وتعابير جسده أَو نظرته. وهذه جميعُها تأْخذ حيِّزًا واسعًا من وقت بنائها التمثال. وإِذا كانت الطبيعة أَهملَتْهُ أَو ظَلَمَتْهُ، تحاول هي أَن تُعيد له حنان الأُلفة. ومن هذا الشعور راحت تتعمَّق أَكثر في معنى الحياة الحقيقي الذي لا يُميِّز في جوهره بين الإِنسان والحيوان.

من حياة الحيوان البرية، أَخذَت مثابرتَه على الحياة، والدفاع عن كيانه ضدَّ الصيادين والوحوش الضارية في أَعماق الغابات المهجورة المجهولة. إِنه الحيوان يصارع من أَجل البقاء، كما يدافع الإِنسان عن حياته مصارعًا ظروف القدَر.

تتعلَّم من حياة الحيوانات

من هذه الأُلفة مع تماثيل الحيوانات، تشكَّلَت لديها طريقةُ حياةٍ فيها من القوَّة بقدْرما فيها من وهن. وتعلَّمَت من الحياة البرية كيف تعالج حياتها المجتمعية. وهكذا، باستخدامها لفائف الورق (لا الحجر ولا الطين) مادةَ عملها، غَنِمَت من تماثيلها سيرةً ومسيرةً جعلَتاها فريدة من نوعها بين النحاتين في العالم.

Exit mobile version