يُشكّل تمكين المرأة أحد المحاور الحاسمة في مسار التحوُّل الاقتصادي الذي تقوده المملكة العربية السعودية ضمن رؤية 2030، إلّا أنَّ فجواتَ سوق العمل والاختلالات الهيكلية لا تزالُ تَحدُّ من اندماجها الكامل في الاقتصاد الوطني. وفي هذا السياق، تبرز التجارة الإلكترونية كمسارٍ واعد لإعادة صياغة دور المرأة في الاقتصاد الرقمي وتعزيز مشاركتها المستدامة في النمو غير النفطي.
حَنّان حسين*
تُمثِّلُ قضيةُ تنمية رأس المال البشري في المملكة العربية السعودية، ولا سيما تمكين المرأة وإشراكها في بناء الاقتصاد الوطني، أحد أبرز التحديات التي تعترض مسار التنمية والنمو الاقتصادي. فبرُغمِ التحوُّلات التنظيمية والاجتماعية التي شهدتها البلاد خلال الأعوام الأخيرة، لا تزال سوق العمل تُظهِرُ فجوات واضحة في مؤشرات مشاركة المرأة واستقرارها الوظيفي. وتشير بيانات منظمة العمل الدولية خلال العام الماضي إلى ارتفاع معدلات البطالة بين السعوديات مُقارنةً بنظرائهن من الرجال، على الرُغم من استعداد عدد كبير من النساء الباحثات عن عمل للتنقل إلى أماكن بعيدة من محل الإقامة للحصول على فرصة وظيفية.
ويُرَجَّحُ أن تعود جذور هذه المُعضِلة إلى استمرار الاقتصاد السعودي في استقطاب الكفاءات الوافدة عبر حُزَمِ توظيفٍ جاذبة، وهو مسارٌ يتقاطع—وأحيانًا يتعارض—مع التوجه الرسمي الرامي إلى تعزيز قطاعات العمل المحلية وبناء قوة عمل وطنية جاهزة وقادرة على دفع الاقتصاد قدمًا، لا سيما في القطاعات غير النفطية التي تُعدّ ركيزة متقدمة في استراتيجية التحول، وعلى رأسها السياحة والتعدين والخدمات المالية.
التحوُّل غير النفطي ومشاريع البنية التحتية
تزدادُ الصورة تعقيدًا مع توجُّه المملكة، تحت إشراف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، إلى تعزيز النمو غير النفطي عبر الإنفاق المكثّف على مشاريع البنية التحتية العملاقة. فقد أسهمت مبادرات ضخمة مثل مشروع “نيوم” (بقيمة تقديرية 500 مليار دولار) في رفع الطلب على الخبرات الأجنبية عالية التخصص، خصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي والهندسة المعقّدة. غير أنَّ تأخُّرَ هذه المشاريع في تحقيق العوائد المالية المرجوة يضع الحكومة في موضعٍ دفاعي عند تبرير توسّعها في استقطاب المهارات الأجنبية، وفي الاستثمار بكثافة في القطاعات غير النفطية التي—برُغم ما تشهده من توسُّع ملحوظ—لا تزال تعتمد بدرجة كبيرة على الاستثمارات التجارية الخارجية للحفاظ على وتيرة نمو مرتفعة.
وفي حال استمرَّ الاقتصاد السعودي في التعويل على رأس المال الخارجي والعمالة الأجنبية، فإنَّ الشروط التي سمحت تاريخيًا باستغلال العمالة الوافدة منخفضة الأجور قد تظل قائمة، بما يحمل تناقضًا صريحًا أمام صناع القرار الذين يقدمون سوق العمل الوطنية بوصفها فضاءً خصبًا للفُرَص، ولا سيما للمرأة السعودية. فالمعادلة هنا ليست اقتصادية فحسب، بل سياساتيّة أيضًا: كيف يمكن التوفيق بين متطلبات مشاريع عملاقة تتطلّب خبرات نادرة عالميًا، وبين هدف توطين الوظائف وإنتاج مسارات مهنية مستقرة للسعوديين والسعوديات؟
المرأة السعودية في القطاع المالي
تواجه السعوديات الراغبات في دخول القطاع المالي تحديات متشابكة. فعلى الرغم من تنامي عدد النساء العاملات في مجالات التقنية المالية والذكاء الاصطناعي، ما تزال الفجوة في الأجور لصالح الرجال قائمة، كما إن فُرَصَ الترقّي والوصول إلى المواقع القيادية لا تتوزع بالوتيرة ذاتها. ويُضاف إلى ذلك أنَّ بعضَ التشريعات الذي أُقرَّ لتيسير حركة النساء في أسواق العمل—وفي مقدمتها إجازات الأمومة وبرامج الدعم خلال فترات الانقطاع—جاءَ متأخِّرًا، ولا يمكن عدّه، بصيغه الحالية، آليات تمكين مكتملة.
وبرُغم صدور قانون العام 2019 الذي سمح للنساء فوق سن الحادية والعشرين العملَ من دون موافقة ولي الأمر، يبقى أثر مثل هذه التشريعات محدودًا في بيئة ما تزال تسجّل ترتيبًا متأخّرًا على مؤشر الفجوة الجندرية العالمي لعام 2025 (المرتبة 132 من أصل 148 دولة). ويُترجَمُ هذا التأخر إلى صعوباتٍ ملموسة في قدرة المرأة على شغل وظائف تمنحها مسارًا تصاعديًا واضحًا، وتزيد هذه الصعوبات بفعل محددات أخرى، مثل: صعوبة الوصول إلى رؤوس الأموال، وضعف الثقافة المالية لدى شريحة من العاملات غير المتعلمات، وندرة المبادرات الوطنية التدريبية التي تساعد النساء على اتخاذ قرارات مالية مستنيرة منذ البدايات الأولى لمساراتهن المهنية.
وتفتقر المملكة كذلك إلى استراتيجيات مخصصة للتعليم والتدريب الفني والمهني تُدرج تطوير المهارات المالية لرائدات الأعمال—خصوصًا في البدايات—ضمن قائمة الأولويات. وتكمن أهمية التدريب الفني والمهني في كونه يتيح للنساء الراغبات في دخول قطاعات مستقبلية مثل الطاقة المتجددة والأمن السيبراني اكتساب مهارات لازمة للاندماج في اقتصاد يتغير بسرعة. إلَّا أنَّ غياب مسار موجّه لتطوير المهارات المالية داخل هذا الإطار يجعل بناء خبرة متعمقة في مجالات المصارف والتأمين والتقنية المالية أمرًا أكثر صعوبة، بما يحد من فرص رفع الدخل، والوصول إلى المناصب القيادية، والحفاظ على مسار مهني مستقر داخل المؤسسات.
التجارة الإلكترونية: مدخل واقعي للنساء
على الرُغم من العقبات السابقة، قد تشكل الإصلاحات الواسعة في قطاع التجارة الإلكترونية مدخلًا عمليًا لتحسين مشاركة النساء في سوق العمل. ومع النمو المتسارع الذي يشهده هذا القطاع، تبرز إشكالية بحثية وسياساتية محورية: كيف يمكن للتجارة الإلكترونية أن تتحول إلى آلية فعّالة لتمكين المرأة اقتصاديًا ودمجها فعليًا في سوق العمل، ضمن التحولات الاجتماعية والاقتصادية الجارية في البلاد؟
ولا يمكن إغفال البُعد التشريعي لهذا السؤال، إذ إنَّ توسيع مشاركة المرأة في التجارة الإلكترونية يتسق مباشرة مع أهداف رؤية السعودية 2030 الرامية إلى رفع معدلات التوظيف النسائي خلال الأعوام الخمسة المقبلة. وفي الوقت الذي تركز فيه الرؤية على توسيع الاستثمار في قطاعات غير نفطية متعددة، فإنَّ محدودية العوائد الوظيفية المتوقعة في بعض هذه القطاعات توحي بأنَّ المملكة بحاجة ماسة إلى تعظيم الاستفادة من الإمكانات المحلية في التجارة الإلكترونية، لا سيما بين النساء السعوديات، لزيادة الأثر الاقتصادي.
وتبدو فرص النمو والدمج في هذا المجال واعدة؛ إذ تشير المعطيات إلى أنَّ ما يقارب ثلث النساء في المملكة ينظرن إلى أنفسهن كرائدات أعمال، كما يُتَوَقَّعُ أن تُحقّقَ أكثر من ثلثي المؤسسات التي تقودها النساء نموًا ملحوظًا في الإيرادات خلال السنوات المقبلة. لكن تحويل هذا الإمكان إلى مكاسب مالية واجتماعية مؤسسية—بما يشمل الشمول المالي وتعزيز الاندماج في القوى العاملة الرقمية—لن يتحقق بسهولة من دون استراتيجية وطنية متخصصة للشمول المالي تستوعب القيود التنظيمية والهيكلية التي تواجه رائدات الأعمال في التجارة الإلكترونية.
التجارة الإلكترونية كمنصة جامعة للجنسين
تمتلك التجارة الإلكترونية خصائص تجعلها منصّة ريادية داعمة لكلا الجنسين، إذ تفتح منفذًا إلى قطاعات سريعة النمو تشمل الرعاية الصحية والتكنولوجيا والخدمات المالية. وتشير المعطيات إلى أنَّ رائدات الأعمال السعوديات—ومن بينهن 44% من جيل الألفية—ينشطن في تبادل السلع والخدمات عبر الأسواق الرقمية المرتبطة بهذه القطاعات الثلاثة.
وقد يساعد التقدم الذي أحرزته الرياض أخيرًا على تقليل العوائق النظامية أمام تأسيس الشركات الناشئة، إلى جانب سعيها إلى منافسة أسواق التجارة الإلكترونية في الشرق الأوسط، في تعزيز ثقة النساء في بدء مشاريعهن الخاصة. ويبرز هنا دور “برنامج تطوير القطاع المالي” بوصفه محرّكًا مُحتملًا؛ إذ ساهم في العام 2024 في رفع نسبة المدفوعات الرقمية ضمن إجمالي مدفوعات التجزئة التجارية في السعودية، وهو ما يمثل نقطة انعطاف في مساعي إعادة توجيه الاقتصاد المعتمد على النفط نحو منظومة رقمية أكثر تنوُّعًا. وبما أن نمو المشاريع الإلكترونية جُزءٌ أساسي من هذا التحوُّل، فإنَّ البرنامج مطالب بتعزيز المسارات التي تتيح للشركات الناشئة التي تقودها النساء الوصول إلى خدمات ومنتجات مالية جديدة.
وتُقدّمُ دولة الإمارات العربية المتحدة نموذجًا تطبيقيًا مهمًا في هذا المجال؛ فمع اتساع حضور التجارة الإلكترونية في سوق المبيعات الإماراتية سريعة التطوُّر—خصوصًا في قطاع التجزئة—عملت الحكومة على دمج خدمات الدفع والإقراض والتأمين في منظومة تسهيل الوصول إلى رأس المال. ويمكن لهذه الآلية، إذا تبنّتها المملكة، أن تضيف قيمة نوعية لبرنامج تطوير القطاع المالي ضمن رؤية 2030، عبر إعادة توجيه جهود الولوج إلى أسواق المال بما يراعي احتياجات رائدات الأعمال في التجارة الإلكترونية.
ما الذي قد يهدد زخم رؤية 2030؟
رُغمَ أهمية “برنامج تطوير القطاع المالي” كأحد أعمدة رؤية 2030 لبناء بيئة مالية أكثر انفتاحًا وتنوُّعًا، فإنَّ الحفاظ على زخمه يتطلب لوائح وسياسات تراعي التنوُّع الجندري داخل منظومة التجارة الإلكترونية. فاشتراطات التسجيل التجاري الصارمة للمنصات الجديدة، وضعف فرص الوصول إلى رأس المال لدى المجتمعات الأقل تمثيلًا، وغياب ضمانات حكومية تساعد على تحويل المشاريع النسائية الصغيرة إلى مؤسّسات ناضجة—كلها عوامل تَحدُّ من قدرة الرؤية على دعم نمو رائدات الأعمال المستقبليات.
وهنا تبرز مفارقة سياساتية: قد تفشل المملكة في تحقيق هدفها المعلن بزيادة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي بنسبة 25% ما لم تُوَسِّع قطاع التجارة الإلكترونية على نحوٍ يضع المشاريع النسائية القابلة للنمو في موقع الصدارة. وتدلُّ المؤشرات إلى أنَّ الفئة العمرية بين 15 و34 عامًا هي الأكثر قدرة على إعادة تشكيل مشهد ريادة الأعمال خلال الأعوام المقبلة، وهي فئة تشكل النساء قرابة 50% منها. والاستفادة من هذه القدرات تتطلّب إدراج نماذج عمل مرنة ضمن برنامج تطوير القطاع المالي لتسهيل وصول النساء إلى الأسواق الرقمية.
ويتضمن البرنامج بالفعل مبادرة لتدريب وتنمية الكفاءات الاحترافية تتولى فيها الأكاديمية المالية السعودية رفع جودة المدخلات البشرية لشركات التقنية المالية. إلّا أنَّ هذه المبادرة تحتاج إلى إعادة تصميم كي تخدم شرائح أوسع من رائدات الأعمال السعوديات في سوق التجارة الإلكترونية. ويمكن هنا استلهام ما حققه برنامج “تيك توك × بلوسوم” من نجاحات؛ إذ يتيح البرنامج التسارعي الممتد ثلاثة أشهر لرائدات الأعمال في مراحل التأسيس الحصول على تدريب نوعي وإرشاد مُوَجَّه وتحسين القدرة على الوصول إلى الاستثمارات المطلوبة. ويُعَدُّ هذا النمط من البرامج داعمًا عمليًا لدخول مؤسِّسات الأعمال الشابات إلى أسواق عمل جديدة ونامية، وفي مقدمتها التجارة الإلكترونية.
عائق صامت أمام الاقتصاد الرقمي
تبدأ المعالجة الأكثر رسوخًا لهذه الإشكالية من داخل بيئات العمل نفسها، عبر برامج تدريبية تركّزُ على تفكيك التحيُّز اللاواعي لدى أصحاب العمل. وتشير الأدلة إلى أنَّ نحو 85% من السعوديات يمتلكن الثقة بقدرتهن على تولي مناصب قيادية، بما في ذلك ضمن المؤسسات العاملة في التجارة الإلكترونية. غير أنَّ ضعف تقبُّلِ المؤسسات لفترات الانقطاع في المسيرة المهنية للمرأة يظل عائقًا كبيرًا يحدُّ من تقدمها الاجتماعي والاقتصادي، ويؤثّرُ في مساهمتها المستقبلية في قطاع مالي يقدّر حجمه بنحو 267 مليار دولار. لذلك، فإنَّ التصدي للتحيُّز اللاواعي خطوة محورية لضمان قدرة النساء العاملات في التجارة الإلكترونية على أخذ فترات استراحة مهنية دون خشية انقطاع المسار الوظيفي.
ومع تصاعُدِ مطالب رائدات الأعمال المتعلقة بتوزيع المسؤوليات الأسرية، والمساواة في الأجور، وسياسات مكافحة التمييز، وامتيازات الأمومة، يمكن لمبادرة التدريب التابعة لبرنامج تطوير القطاع المالي أن تتحوَّلَ إلى نقطة انعطاف حقيقية، إذا ما أُعيد تصميمها لتكون أكثر حساسية للنوع الاجتماعي وأكثر اتصالًا باحتياجات الاقتصاد الرقمي الفعلية.
عوائق تعيق توسيع مشاركة المرأة
على الرُغم من التقدّم في رفع مشاركة المرأة، لا تزال مجموعة من القيود تحد من قدرتها على التوسع في التجارة الإلكترونية. وتبرز في المقدمة محدودية الإلمام بعمليات الدفع غير النقدي، وضيق المساحة المتاحة لأقلمة رائدات الأعمال مع إصلاحات تقنية المعلومات والاتصالات، وهو ما يرتبط جُزئيًا بحداثة ثقافة المدفوعات الرقمية لدى المنشآت الصغيرة التي تقودها النساء.
وفي سياق الاتصالات وتقنية المعلومات، وقّعت الرياض عقودًا بمليارات الدولارات مع شركات عالمية لرفع مساهمة قطاع تقنية المعلومات والاتصالات في الناتج المحلي من 1% إلى 5% بحلول نهاية العقد. وتشير بيانات وزارة التجارة إلى أنَّ قيمة هذا القطاع تتجاوز حاليًا 40.9 مليار دولار، ما يعني أنَّ نافذة تعزيز مشاركة المرأة ستتسع موضوعيًا. إلّا أنَّ مبادرة “هيومَان” (HUMAIN) لإنتاج مراكز بيانات داعمة للذكاء الاصطناعي تفتقر—بحسب ما يطرحه النص—إلى مسار واضح لتوفير القدرة الحاسوبية المطلوبة للشركات الناشئة في التجارة الإلكترونية التي تقودها النساء.
وبما أن هذه الشركات تُمثّلُ نحو نصف مبادرات العمل الحديثة المسجلة في الأشهر الأولى من العام 2025، فإنَّ توسيع نطاقها يصبح شرطًا لتحقيق النمو المستهدف للتجارة الإلكترونية ضمن رؤية 2030. كما إنَّ تعزيز الروابط بين مراكز البيانات والشركات النسائية الناشئة يمكن أن يسهم في خفض عوائق التمويل في المراحل المبكرة، وهو مسار استوعبته الشركات النسائية الناشئة في دولة الإمارات بوتيرة أسرع. ومن ثم، فإنَّ غياب نقطة التقاء بين سياسات تقنية المعلومات وسياسات التجارة الإلكترونية بما يضع الشركات النسائية الناشئة ضمن أولويات مشروع “HUMAIN” يمثل فجوة تنظيمية تستدعي اهتمام صناع السياسات.
أما سياسات التوازن بين العمل والحياة، فلا تزال تفتقر إلى المأسسة داخل فروع قطاع التجارة الإلكترونية، بما في ذلك التقنية المالية والموضة والتجزئة والتعليم الرقمي. فعلى سبيل المثال، يعد برنامج “جودة الحياة” ضمن رؤية 2030 أداة مهمة لتحسين مستويات المعيشة وتعزيز جاذبية الرياض كوجهة للعمل، غير أنَّ التركيز الكبير على السياحة والترفيه والرياضة يطرح إشكالًا، لأنه قد يحصر سياسات الرفاه في قطاعات لا تشكل فيها فرص التمكين الاقتصادي للنساء مساحة مؤثّرة، ولا تعزّزُ وصولهن الفعلي إلى الاقتصاد الرقمي.
رؤية 2030 والمشهد السياساتي
تسعى الرياض ضمن رؤية 2030 لبلوغ نسبة مشاركة نسائية في سوق العمل تصل إلى 40% بحلول نهاية العقد. إلّا أنَّ واقع التنفيذ يتطلّب خطوات أقوى لفتح مسارات جديدة أمام الجيل الجديد من رائدات التجارة الإلكترونية. فمن جهة، لا تتجاوز حصة الشركات الناشئة التي تقودها نساء من رأس المال الاستثماري في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 1%، ما يجعل قضية التمويل المبكر أولوية حاسمة، خصوصًا أنَّ التجارة الإلكترونية وحدها أسهمت في قرابة ثلث مدفوعات التجزئة الاستهلاكية في العام 2024.
وعلى الرُغم من نجاح رائدات أعمال سعوديات في جذب الانتباه إلى مشاريع متقدمة تقنيًا، لا يزال الخلط قائمًا بين “كمّ” المشاريع المسجَّلة وبين قدرتها التنافسية إقليميًا. فرَفعُ عدد التسجيلات لا يعني بالضرورة بناء نماذج أعمال قادرة على التوسع والصمود. وفي المقابل، يظل عنصر الثقافة الرقمية حاسمًا، لأنه يمنح النساء المعرفة اللازمة لتوسيع مشاريعهن، وفهم مسارات الاستثمار الحكومية، وتقدير احتياجات رأس المال ومتطلباته. وتشير الأبحاث—كما في النص—إلى أنَّ بعض الشرائح تفتقر إلى بدائل لتعويض الدخل أو خبرات متوارثة لدخول الأسواق الرقمية، فضلًا عن أنَّ التجارة الإلكترونية تاريخيًا مساحة يغلب عليها الحضور الرجالي، ما يستدعي ضمانات إضافية تتعلق بالشمولية الرقمية وحماية الفضاء الإلكتروني للنساء، وإتاحة شبكات تقودها النساء للتواصل مع القيادات الصناعية، والالتزام بتوفير رأس المال للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة في مراحل التأسيس الأولى.
وبينما حققت رؤية 2030 تقدمًا في إعداد أطر قانونية تعزز المساواة—ومنها قانون مكافحة التحرُّش لعام 2018—تظل صعوبة ولوج المرأة إلى قطاعات تاريخيًا منخفضة المشاركة النسائية، مثل الهندسة والمال والأعمال، عائقًا رئيسًا أمام الحراك الاقتصادي. ويذهب النص إلى أنَّ الرؤية لا تزال تعاني قصورًا في معالجة هذا العائق بسبب غياب سياسات صريحة لبناء الثقافة الرقمية، وتشكيل شبكات الربط بين التجارة والصناعة، وتسهيل الوصول المبكر إلى رأس المال. ولتحقيق توافق أفضل بين رفع المشاركة وبين التمكين داخل الاقتصاد الرقمي، يلزم تصميم حزمة سياسات متكاملة تلائم احتياجات رائدات الأعمال السعوديات في التجارة الإلكترونية.
توصيات تشريعية وإجرائية لتعزيز التمكين والشمولية الرقمية
-1نهج قائم على التعليم والإعلام
تُعدّ مبادرة “تحسين جودة الحياة” إحدى أهم مبادرات رؤية 2030، غير أنَّ نجاحها يتطلّب رَفعَ التركيز على عوامل التعليم والإعلام التي تمكّن النساء من دخول سوق التجارة الإلكترونية. ويمكن لبرنامج “النساء في الأعمال” بجامعة الأميرة نورة أن يقوم بدور شريك تدريبي لرائدات الأعمال في المشاريع الإلكترونية الصغيرة. كما إنَّ إتاحة تغطية إعلامية أوسع للمشاريع النسائية الصغيرة ذات آفاق النمو يمكن أن يقرّبها من المستثمرين الإقليميين والدوليين المهتمين بالصفقات المبكرة، ويحوّل رائدات الأعمال الناشئات إلى محرّكات نموٍّ تُلهِمُ نساءً أخريات في بدايات المسار المهني. إنَّ منح أولوية رسمية للظهور الإعلامي والتعليمي لرائدات الأعمال يُسهمُ كذلك في تفكيك الصور النمطية التي تشكك في قدرة المرأة على الالتزام الكامل بمسارات العمل.
وتستطيع المؤسسات التعليمية الكبرى المهتمة بالقيادة النسائية في التجارة الإلكترونية أن تؤدي دورًا محوريًا في تدريب العاملات في الشركات الصغيرة والمتوسطة للاندماج في منظومة التجارة الإقليمية، بما يعني تسهيل الوصول إلى رأس المال، وتحسين الظهور الإعلامي، وتعزيز الاندماج في سلاسل الإمداد.
2 –تبسيط القواعد والإجراءات التنظيمية وربط المشاريع بالبنية التحتية للبيانات
حققت المملكة تقدّمًا ملموسًا في تسجيل الشركات التي تقودها نساء خلال الأشهر الأولى من العام 2025، كما سمحت القوانين الجديدة بتقديم أسماء تجارية للتسجيلات الجديدة، ما خفف اختناقات بيروقراطية أمام المشاريع النسائية وسهّل انتقالها إلى التجارة الإلكترونية. ومع ظهور مشاريع ناشئة في قطاعات متعددة يمكن أن تندمج في منظومة مراكز البيانات الداعمة للذكاء الاصطناعي، يقترح النص تخصيص “رموز تعريفية” لهذه المشاريع تُسجّلها مراكز البيانات للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تقودها النساء.
وفي إطار تنويع الاقتصاد، أُنشئت في أيار (مايو) شركة “هيومَن” ( HUMAIN) لتطوير مراكز بيانات تساعد القطاعات عالية النمو على تبنّي الذكاء الاصطناعي، ضمن استثمار مُعلَن بنحو 1.4 مليار دولار، وبما يخدم احتياجات مؤسسات مستقبلية تشمل التجارة الإلكترونية، داخل اقتصاد رقمي تُقدّر قيمته بنحو 131 مليار دولار. ومن ثم، فإنَّ اعتماد رموز تسجيل مراكز البيانات بوصفه ممارسة قياسية للمشاريع النسائية الصغيرة والمتوسطة قد يُسهِمُ في دمجها داخل بنية الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي.
ويقترح النص إطارًا معياريًا ثلاثيًا لتعزيز نفاذ رائدات الأعمال إلى هذه المنظومة:
النمط: تسريع التسجيل وفق درجة ارتباط الشركة بنمط نموِّ مراكز البيانات، خصوصًا في التقنية المالية التي تحتاج قدرة حاسوبية عالية.
الوزن الاستراتيجي: منح الأولوية للمشاريع الأكثر مساهمة في أهداف النمو السنوي، بما يفتح باب التمويل المبكر للمشاريع ذات القيمة الاستراتيجية.
الصلة القطاعية: توجيه الدعم الرأسمالي وفق قطاعات ذات أثر طويل المدى مثل الرعاية الصحية، والتقنية المالية، والموضة المستدامة، والتقنية الزراعية، وتقنية المعلومات.
وتقدم “منشآت” مثالًا عمليًا على فاعلية هذا النهج؛ إذ أسهمت في دفع أولويات الحكومة نحو القطاعات التي ترتفع فيها مشاركة النساء، ويمكن لتطوير آليات قياس تمكين المرأة عبر مؤشرات (مثل نمو الدخل والاستقلالية والوصول للأسواق الرقمية) أن يُعزّز قدرة “منشآت” على بناء أرضية ابتكار مستقبلي ودمج النساء بفاعلية عبر فروع التجارة الإلكترونية.
خاتمة
توضّحُ هذه الدراسة اتساع الإمكانات التي يُتيحها قطاع التجارة الإلكترونية لتعزيز تمكين المرأة السعودية. فالقطاع قادرٌ على أن يكون محرّكًا يتجاوز الحواجز التقليدية أمام رائدات الأعمال في مراحل التأسيس، وفي الوقت نفسه يعزز موقع المملكة بوصفها مركزًا إقليميًا للابتكار الرقمي. وتنبع أهمية التجارة الإلكترونية من قدرتها على استيعاب قطاعات متعددة، ومن استقطابها شريحة واسعة من السعوديات—وخصوصًا من جيل الألفية—ومن قابليتها للاندماج بعمق في استثمارات المملكة الضخمة في مراكز البيانات.
غير أن تحويل قطاع التجارة الإلكترونية إلى أداة فاعلة للتمكين الاقتصادي لا يتحقق بإجراءات مُجَزَّأة، بل يتطلب مقاربة متكاملة تشمل تبسيط الأطر التنظيمية، وتصميم برامج تدريب متخصصة، وتمكين رائدات الأعمال من التعامل المبكر مع رأس المال وبناء نماذج أعمال قابلة للنمو والتوسع. فبرُغمِ التوقُّعات التي تشير إلى تضاعف حجم التجارة الإلكترونية ثلاث مرات بحلول العام 2033، لا تزال رائدات الأعمال يواجهن صعوبات حقيقية في الوصول إلى التمويل في المراحل المبكرة، كما إنَّ الحصول على التمويل وحده لا يكفي، إذ تحتاج كثيرات إلى توجيه تقني وعملي يساعدهن على تحويل الفكرة إلى مشروع قابل للتشغيل والنمو. وتؤكد تجارب مثل مركز طيبة فالي للابتكار أهمية الربط بين التدريب والاستثمار وتسريع نمو المشاريع، غير أنَّ استمرار تَرَكُّزِ البرامج الحكومية على تدريبٍ عام في مجال الذكاء الاصطناعي، من دون مسارات رقمية مُوَجَّهة لاحتياجات الأعمال، قد يحدُّ من قدرة الجيل المقبل من رائدات التجارة الإلكترونية على الاستفادة من الفرص التي يتيحها قطاع سريع التحوُّل.
ومن دون حزمة متكاملة تشمل نماذج عمل مرنة، وضمانات مرتبطة بمراكز البيانات، وبرامج تدريب تنافسية إقليميًا، ستواجه المملكة صعوبة في تمكين المرأة داخل قطاع يُعَدُّ محورًا في طموحاتها الاقتصادية طويلة الأمد. فالنمو وحده لا يكفي؛ المطلوب سياسات تضمن الوصول إلى رأس المال، وتعزز الثقافة الرقمية، وتضمن دعمًا حاسوبيًا من منظومة مراكز البيانات للمشاريع النسائية الناشئة، بما يمكّنها من التوسع داخل الاقتصاد الرقمي السعودي.
وبالنظر إلى الوضع التنظيمي الراهن، لا تزال النظم والقواعد المصممة لتيسير انتقال المرأة إلى سوق العمل غير كافية لمعالجة التحديات التي تواجه الشركات النسائية الصغيرة والمتوسطة. ومن دون تفكيك العوائق الهيكلية التي تُقيِّدُ مشاركة هؤلاء النساء، تخاطر الرياض بإضعاف التقدُّم المحرز نحو مستهدفات رؤية 2030. فجيل رائدات التجارة الإلكترونية بحاجة إلى دعم سياساتي في الشمول المالي، ونماذج العمل القابلة للتكيف، والتدريب الرقمي الموجه—وهي عناصر جوهرية لضمان نموٍّ طويل الأمد واستدامة داخل سوق سريعة التحوُّل.
كما إنَّ نجاح مسار التنويع الاقتصادي يتطلّب إعادة تموضع في النظرة إلى المشاركة النسائية: فإكساب المرأة المهارات التي تُعزّزُ صعودها داخل الاقتصاد الرقمي شرطٌ لازم لإنجاح التحوُّل. فالشركات النسائية الصغيرة والمتوسطة تشكل العمود الفقري لنمو التجارة الإلكترونية، ولن تحقق المملكة مكاسب كبيرة من التحوُّل المُرتكِز على التجارة الإلكترونية ما لم تدعم هذه القاعدة البشرية اعترافًا وتمويلًا وتنظيمًا وسياسات مصممة خصيصًا لاحتياجاتها.
- حَنّان حسين هو مؤلف و خبير أول في معهد “Initiate Future“ وهو مركز بحثي عالمي معني بالسياسات العامة. حصل حسين على منحة فولبرايت في السياسات العامة بجامعة ميريلاند حيث تخصص في قضايا الأمن الدولي. وهو يتمتع بسنوات من الخبرة في مجالات البحث والسياسات والاستشارات والإعلام داخل باكستان وخارجها، وقد استعان بتحليلاته المتخصصة كل من معهد” New Lines“ للاستراتيجية والسياسات ومشروع هارفارد للعلاقات الآسيوية والدولية، وجامعة كورنيل في مراجعاتها السياساتية.
