هنري زغيب*
لطرابلس في قلبي مكانةٌ عاليةٌ، تُترجمها أَهدابُ فكْري فترفُّ اغتباطًا عند الكتابة عن مدينتنا العظيمةِ ذاتِ التاريخ الجلَل.
بعد محاضرتي الأُسبوع الماضي في كليَّة الآداب (الجامعة اللبنانية، الفرع الثالث، طرابلس)، كان من الصديق عامر كمالي وزوجتِه الدكتورة إِيمان درنيقة رئيسة “مركز إِيليت للثقافة والتعليم” أَن اقترحا عليَّ زيارةَ التكيَّة المولويَّة. أَخذَني التذكار 45 سنةً ورائي، إِلى كتابي الأَول “لأَنني المعبد والإِلَهةُ أَنتِ” (1980-“منشورات نعمان للثقافة”)، صدَّرْتُهُ بعبارة جلال الدين الرومي (1207-1273): “المعشوقُ هو الكُلّ، وما العاشقُ سوى حجاب… المعشوقُ هو الحيّ، أَما العاشقُ فمائت”. اقتطفتُها يومها من كتابه “الـمَثْنَوِيّ” (فيه 25632 بيتًا موزعة على ستة أَجزاء الكتاب، تروي معاناة الإِنسان لبُلُوغ الحب الأَكمل: الله. وهو أَحدُ أَهمِّ الكتُب الصوفيَّة وأَعمقِها تأْثيرًا).
نَصل إِلى “باب الحديد”، في عُمق محلة “أَبو سمرا”. يَغمُرنا بِهَيْبَته الموقع: قبالتنا “القبة”. فَوقَنا قلعة طرابلس (أَوائل القرن الثاني عشر). تحتَنا مجرى نهر “أَبو علي” المتحدِّر من شواهق وادي قاديشا. وأَمامنا يَربض مبنى التكيَّةِ الأَنيقُ في ثلاث طبقات متوازية الجمال. يستقبلُنا المدير نهاد مولوي. يُجيلُنا في حماسةِ شرح: نبدأُ بقاعة الاستقبال، ندخل قاعة “السَماح” المخصَّصة لعروض الذكْر المولويَّة. نصعد إِلى طبقة أَعلى: المسجد ومحرابه. نُكمل إِلى “المنزول”، صالة مخصصة لاستقبال كبار الشخصيات. نتنقَّل في قاعات “المتحف”، وفيها كنوزٌ من تراث “الطريقة” المولويَّة (أَزياء وأَدوات وآلات). ننحدر إِلى قاعةٍ أَثريةٍ مرمَّمَةٍ أَنيقةٍ للندوات والمحاضرات. نختم الزيارة في الطبقة العليا، تتصدَّرُها قاعة الإِدارة، وفيها شجرةُ العائلة المولويَّة (“المولويون في طرابلس ولبنان”) خطَّها، بِدِقَّةٍ وتُؤَدةٍ وأَناةٍ، متولِّي وَقْف المولويَّة الحالي الحاج حُسني نظيف مولوي، أَنجزَها سنة 2024 فخرجَت بالأَسماء والتواريخ في شمولية مبدعة.
عند ضفة الشرفة العليا المطلَّة على القلعة، يستنطقُ دليلُنا التاريخ. بين أَبرز مَراجعه المؤَرخ الكبير عُمَر عبدالسلام تدمري. عنه أَنَّ “المولويَّة أَدارت شؤُونها الإِدارية والاقتصادية في تكاياها، وخصوصًا في طرابلس، فأَتاحت لأَهاليها المتديّنين ميدانَ نشاطها الثقافي والديني”. هكذا جاء مبناها “مُجمَّعًا متكاملًا يضمُّ قاعةً للتعليم والتدريب، ومسجدًا، وقاعةَ اجتماعات أَعيان المدينة، وقاعاتٍ لاستقبال الضيوف وجناحًا لإِقامتهم، وقاعةَ الحلقات المولويَّة و”الفَتْلَة”، وغُرفًا لشيخ المولويَّة، ومساكنَ للدراويش المقيمين فيها أَو قاصديها، ومطعمًا للزوَّار والفقراء، ومطبخًا، وحوضَ ماء للوضوء، وحديقةً، وشرفةً مُطلَّة على نهر أَبو علي والقلعة”. يضيف خالد تدمري عن أَبيه المؤَرخ أَنَّ “الصوفيين المولويين اتَّبعوا في تشكيلاتهم العمرانية مبادئَ تتَّخذ من القرآن الكريم وَصْفَهُ الجنَّةَ بتنظيم حدائقها الشهيرة، فازدانَت بالورود والزهور والأَشجار وبُرَك الماء”. يستطرد دليلُنا أَنَّ تكية طرابلس أَعظمُ التكايا المولويَّة خارج تركيا (القاهرة والقدس ودمشق وحلب وحمص واللاذقية). قَصَدها رحَّالة ومستشرقون، أَبرزهم ابنُ محاسن الدمشقي (1639)، وصفَها الشيخ عبد الغني النابلسي بـ”جنّةٍ للأَبصار ونزهةٍ للنُظَّار”، وزارها المستشرق الهولندي فيدي يونغ (صيف 1919) دارسًا فيها طريقةَ الدراويش المولويَّة.
وما “الفتلة”؟ أَسأَلُه فيشرح: “هي الرقصةُ المولويَّة بحركةِ دَوَرانٍ على نغمِ إِنشادٍ دينيٍّ وإِيقاعِ رِقٍّ وَدَفٍّ ومَزْهر. يعتمر الدرويش طربوشًا طويلًا من اللبَّاد (“الكولاه”)، يلبس ثوبًا فضفاضًا، يدور ثابتًا في مكانه على قدَمٍ ترتفع وتحطُّ، بينما الأُخرى تدور محوريًّا. يظلُّ يفتلُ، رأْسُه مُنْحَنٍ، عيناهُ زائغتان، يداه ممدودتان نحو السماء انخطافًا بالمناجاة وذكْر الله 360 مرة حتى تنتهي الفتلة”.
تنتهي زيارتُنا. نَخرج مغادرين. تُطالعنا في محيط التكيَّة قُبَّةٌ على كتف تلَّة. يبادرنا نهاد مولوي: “هذا مقامُ الخُضْر رممَّمَتْهُ، كما التكيَّة سنة 2024، مؤَسسةُ تيكا التركية”. تعلِّق الدكتورة إِيمان درنيقة: “مَعْلَمٌ آخَرُ من تراث طرابلس الغني بالمغاني والواحات التراثية والثقافية والدينية وكنوز تاريخية هي في طرابلس جزءٌ أَساسيٌّ من هويتنا الوطنية”.
قبل زيارتي هذه، كانت لطرابلس في قلبي مكانةٌ عالية. اليوم، علَت أَكثَرَ بَعد ساعةِ زُهْدٍ وتأَمُّلٍ عُلُويَّة، قضَيتُها مُنخطفًا بأَنوارٍ تقيَّة في حنايا التكيَّة المولويَّة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).
