محمّد قوّاص*
يستخدمُ “حزب الله” الوسائل القصوى المُتاحة لرَدِّ كأسِ الحرب المرّة عن مصيره. يذهبُ إلى ملاقاة البابا لاوون الرابع عشر في زيارته للبنان. يستبقُ وصوله برسالةٍ يشكو فيها مظلوميته، ويُطلقُ من الضاحية مظاهر “ترحيب الشيعة” بالحبر الأعظم. تتراوَحُ حركته بين الوَعدِ بالردّ على اغتيال القيادي هيثم طبطبائي وتَركِ أمرِ الرد إلى مكانٍ ما في زمانٍ ما. وفيما لا يبدو أنَّ زيارةَ البابا ودعواته قد تُغَيِّرُ شيئًا مما تُخطِّطُ له العواصم للبنان، فإنَّ من حقِّ اللبنانيين أن يخشوا ذلك الوجوم الذي يتسرَّبُ كلَّ يوم.
الأرجح أنَّ لبنان تُرِكَ لمصيره. كلُّ الرسائل من الأبعدين والمُقرَّبين تُجمع، خطأً أو صوابًا، على أنَّ المآلات بيد لبنان واللبنانيين ودولتهم. ومَن أصغى إلى تحذيرات وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي التي أطلقها في بيروت قبل أيام، أمكَنَ له أن يَستنتجَ بالتفصيل أنَّ الذي تُعِدُّهُ إسرائيل ضد لبنان حتمية آتية في توقيتها المناسب. والأدهى في تلك التحذيرات العربية والأوروبية والأميركية أنَّ لا إرادات مُتوفّرة لرَدعِ ذلك.
واضحٌ أنَّ الولايات المتحدة تملكُ قرارَ الحرب والسلم في كلِّ المنطقة. بيدها وحدها فتح جبهة عسكرية ضد إيران واختيار توقيتها أو منع ذلك عنها. تتدخّلُ بشكلٍ يومي لإدارة تقدُّم خطّة الرئيس دونالد ترامب لإنهاء الحرب في غزة. وحين يطلّ تصعيدٌ مقلق جنوب سوريا بعد حادث بيت جن في ريف دمشق، يطلق ترامب تصريحات ناهية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، يستدعيه إلى واشنطن ويُرسِلُ على عجل مبعوثيه لتبريد الحدث والدفع بصياغة اتفاق ما ينهي ذلك الصراع.
حظي لبنان ببركة البابا لكنه، وحتى إشعارٍ آخر، لا يحظى ببركةٍ أميركية تقيه شرور حرب مقبلة. بدا أنَّ الضغوطَ التي تُمارِسها واشنطن على إسرائيل في ميدانيّ غزّة وسوريا يُقايضها إطلاق يدّ إسرائيل من دون قيوٍد في ميدان لبنان. والأدهى أنَّ نقلَ المبعوث الأميركي الخاص توم برّاك تحذيرات إلى بغداد من أيِّ تحرُّك ترتكبه الفصائل المسلحة في حال شنّت إسرائيل حربها ضد “حزب الله”، يشي بأنَّ الولايات المتحدة تستخدمُ نفوذها من ضمن التحضيرات لمعركة في لبنان تُسرِّبُ واشنطن أنها لن تتوقّفَ إلّا بنزع سلاح “حزب الله”.
تبدو واشنطن من خلال إنذار بغداد وليس طهران مُتأكّدة بأنَّ إيران ستلتزم بما التزمت به منذ انفجار حرب “طوفان الأقصى” عام 2023، بعدم التدخُّل للزَّود عن أذرعها في المنطقة، لا سيما “حزب الله”، مهما تعرّضت للفتك والفناء. وقد لا يكون مُستَغرَبًا أن يتواطأ أطرافُ الصراع على أن يدفع لبنان والحزب في هذا البلد أثمان حرب عوضًا عن تلك ضد إيران تتدافع العواصم على بذل جهود لتجنّب انفجارها. ففيما يعلن الأمينال عام للحزب الشيخ نعيم قاسم أنَّ الرَدَّ على مقتل طبطبائي حقّ “نختار توقيته”، يخرج محسن رضائي، عضو مجلسِ تشخيص مصلحة النظام وأحد الوجوه البارزة في مؤسّسة الحكم في الجمهورية الإسلامية، بدعوة الحزب إلى “مراجعة سياسة الصبرِ الاستراتيجي”.
تدعو إيران علنا الحزب إلى فتح جبهة لبنان على مصراعيها. ويفتي علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني علي خامنئي، بأنَّ وجود “حزب الله” في لبنان “أهم من الخبز والماء”. ويكاد يخرج وزير الخارجية عباس عراقجي ليُقسِم أنَّ إيران لا تتدخّل في شؤون لبنان وأنَّ الجيش اللبناني و”حزب الله” “هما مَن يتَّخذان القرار”، مُتجاهِلًا ما توحي به طهران وما كان ُيردّده الأمين العام الراحل السيد حسن نصر الله من أنَّ ولاءَ حزبه لإيران ومرشدها الولي الفقيه.
تغيَّرَ الزمن لكن إيران لم تتغيَّر. تساقطت أوراقٌ كانت تستقوي بها على طاولة أيِّ مفاوضات. هُمِّشَت ورقة الحوثيين التي يسهل التعامل معها. انتهت ورقة غزّة. سقط نظام الأسد في سوريا. وواشنطن تفتحُ أعينها على فصائل العراق. لم تبقَ إلّا ورقة الحزب التي تمضي طهران في تعظيمها والتحريض على استثمارها دفاعًا عن عروش إيران، حتى لو لم يبقَ حجرٌ على حجرٍ في بلدنا.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).
