الدكتور ناصيف حتّي*
ديبلوماسيةُ الصدمات التي يَنتهجها الرئيس الأميركي دونالد ترامب تُجسِّدُ بوضوح نهجًا أحاديًا حادًّا يَصُرُّ على تكريسه وتأكيده، ولو جاء ذلك على حساب الإرث الاستراتيجي الأميركي التقليدي. هذا الإرث، الذي اعتاد تَذَبذُبًا مدروسًا، هبوطًا وصعودًا، بين الإدارات الجمهورية والديموقراطية المُتعاقبة، كان يرتكزُ تاريخيًا على التعاون المُتعدِّد الأطراف داخل الإطارين الغربي والأطلسي بوصفه قاعدةً ناظمة للعلاقات الدولية.
غير أنّ المشهدَ في عهد ترامب يبدو مختلفًا جذريًا؛ فالعلاقاتُ مع روسيا الاتحادية والصين الشعبية، كما مع الحلفاء الغربيين، تحوّلت إلى مختبرٍ فعلي لهذه المقاربة الجديدة. فالخطابُ الذي يبدو أنه يميلُ حينًا إلى الانفراج أو الإيحاء بفُرَصِ تطوّرٍ واعد، سرعان ما يتبدّل إلى لهجةِ مُواجهةٍ مُتصاعدة… قبل أن يَعكِسَ اتجاهه مُجَدَّدًا.
وقد برز هذا النَّهج بوضوحٍ أكبر مع “الصدمة الديبلوماسية” التي فجّرها ترامب عند إعلانه مقترحَه المؤلَّف من 28 بندًا لتسوية الحرب الروسيةـالأوكرانية، الحرب التي تُوشِك بعد ثلاثة أشهر على الدخول في عامها الرابع. المقترح الترامبي، بصيغته ومضمونه، لم يكن مجرّدَ ورقةٍ تفاوضية إضافية، بل طرحًا يُطيح جملةً من “المُسلّمات” التي شكّلت طوال السنوات الماضية قاعدةً ثابتة وأساسًا لأيِّ تسوية أو تصورٍ مستقبلي للحل، وفي مقدّمها مبدأ وحدة الأراضي الأوكرانية.
من هذه “المُسلَّمات” التي أُسقِطت: الاعترافُ بشبهِ جزيرة القرم ومنطقتَي لوغانسك ودونيتسك كاراضٍ روسية بحُكمِ الأمر الواقع، والتاكيد على عدم تغيير هذه الترتيبات بالقوة. ومن النقاطِ الأساسية أيضًا التي حملها مقترح ترامب، وهذه كانت من النقاط المطروحة سابقًا: عدم انضمام أوكرانيا إلى منظمة حلف شمال الاطلسي (الناتو)، وعدم نشر قوات للحلف في أوكرانيا، مع الموافقة على انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الاوروبي، (بالطبع عندما تستوفي شروط الانضمام).
ولا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ مشروعَ هذه التسوية كان نتيجةَ حوارٍ أو مفاوضات دامت ثلاثة أيام، نهاية الشهر الماضي، بين مستشار الرئيس الأميركي ستيف ويتكوف وصهره جاريد كوشنر من جهة، وأحد المستشارين الخاصين للرئيس فلاديمير بوتين، كيريل دميترييف، من جهةٍ أُخرى في ميامي. صفقةُ المقترح التوافُقي لاقت انتقادات عديدة من وجوهٍ معروفة وبارزة في المؤسسة السياسية الأميركية. وذهبَ بعضُ هذه الانتقادات للقول أنَّ مبادرةَ التسوية هي في حقيقة الأمر مشروعٌ روسي يحمله الرئيس الأميركي .
يندرجُ ذلك بالطبع كردٍّ طبيعي على ما أشرنا إليه في البداية بديبلوماسية الصدمات الترامبية والتي تَعكِسُ الأولوِيّات كما يراها المقيم الحالي في البيت الأبيض. بالطبع هناكَ انتظارٌ للقاء قمة أميركي-أوكراني يجري التحضير له رُغمَ الصدمة التي شابت الموقف الأوكراني ولو بقي مُقَيَّدًا لحدِّ الآن حفاظًا على المصلحة الكبرى في عدم قطع حبل العلاقات مع الحليف الاستراتيجي.
الردُّ الأوروبي كان مُتَوَقَّعًا في تفاجُئِهِ وصدمته بالموقف الأميركي الذي اعتُبِرَ بمثابةِ تهديدٍ لمصالح أوروبا والحلف الأطلسي. ودفع ذلك الى عقد قمّةٍ أوروبية من الدول المشاركة على هامش “قمة العشرين” للتشاور والردّ الديبلوماسي على الموقف الأميركي باعتبار “أنَّ هناكَ عناصرَ أساسية في المقترح الأميركي تقع ضمن مسؤولية الاتحاد الأوروبي”. خسارة أوكرانيا ستُغيّر وجهَ أوروبا كما يرى أكثر من مسؤولٍ أوروبي .
ولكنَّ حربَ اوكرانيا التي تبدو أنها مفتوحةٌ في الزمان، صارت حربًا مُنهِكة لاوروبا وتستنزفُ طاقاتها في مختلف المجالات في وقتٍ تعيشُ القارة العجوز أزماتٍ اقتصادية وسياسية مُتعدِّدة ومُتشابكة ومختلفة القوة حسب وضع كل بلدٍ اوروبي .
خلاصةُ الأمر أنَّ المُقتَرَحَ الأميركي أعادَ أولوِية المفاوضات إلى الطاولة مُجَدَّدًا كبديلٍ من الاستمرار في حرب الاستنزاف المُكلِفة والحاملة لكافة احتمالات التصعيد، والمجهولة النتائج والتداعيات القريبة والبعيدة على أوروبا بشكلٍ خاص، وعلى التوازُنات في “المسرح” الاستراتيجي الأوروبي.
يرى بعض المراقبين أن ما تضمّنه المقترح الأميركي من “تنازلات” أو ما يشبه الهدايا لروسيا قد يكون جُزءًا من مقاربةٍ تهدف إلى استدراجِ الطرفين، موسكو وكييف معًا، نحو طاولة التفاوض. فهذه الصيغة ترفعُ الكلفة على أوكرانيا إذا ما تمسّكت بموقفٍ متشدّد يرفضُ الانخراط في أيِّ مسارٍ تفاوضي، خصوصًا إذا واصلت الرهان على دعمٍ غربي يستنزف أوروبا، حتى وإن رغبت الأخيرة في مواصلته، من دون أن تكونَ قادرة فعليًا على تحمّل أعبائه في المدى الطويل—ولا سيما إذا تباطأ أو تراجع الدعم الأميركي، سياسيًا وماليًا، في مرحلةٍ لاحقة.
إنه مشروعٌ لإعادةِ إحياء المفاوضات المطلوبة بين الطرفين عبر سياسة العصا والجزرة، وهي مفاوضاتٌ تفتحُ البابَ للتوصُّل إلى تسوياتٍ ليس بالأمر السهل الوصول إليها، ولكنها مُمكِنة إذا جاءت ضمنَ سلّةٍ مُتكاملة ومتوازنة تاتي نتيجةَ مسارٍ تفاوضي تسووي. مسارٌ يكون البديل الفعلي والواقعي الوحيد من حربٍ مُكلفة ومتوحّشة في الزمان، كما أشرنا، وربما في المكان أيضًا، كما صرنا نسمع أو نقرأ عن سيناريوهات تصعيدية توسُّعية غير مُستَبعدة يُمكنُ انزلاقُ الحرب المستمرّة إليها .
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).
