محمّد قوّاص*
بعد ساعاتٍ من تقديم السفير الأميركي الجديد إلى لبنان ميشال عيسى أوراق اعتماده للرئيس جوزيف عون، أُعلِنَ عن إلغاءِ زيارة قائد الجيش اللبناني العماد رودولف هيكل إلى الولايات المتحدة. ألغت واشنطن مواعيد مهمّة للعماد القائد في العاصمة الأميركية ما أطاح بشكلِ الزيارة ومعانيها. قال السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، الذي زار بيروت في آب (أغسطس) الماضي، إنَّ الاستثمارَ في القوات المسلحة اللبنانية “أمرٌ غيرُ مُجدٍ لأميركا”. فهمت بيروت الرسالة الأميركية القاسية.
من شأنِ حَرَدِ واشنطن أن يتحوَّلَ إلى قراراتٍ تُخضِعُ مساعداتها العسكرية إلى لبنان إلى مراجعة قد تكونُ قاسية. لكنَّ الأخطرَ هو أن يتعمّمَ مزاجُ واشنطن “المُتَعَكِّر” على عواصم غربية وربما إقليمية حليفة يُجمّدُ كثيرًا من برامج الدعم ومؤتمرات الدعم للجيش اللبناني. ولا شكَّ أنَّ بيروت تأخذ الحدث على محملٍ جاد يتطلّبُ مراجعة سياسة “التواصل” التي تقفُ وراء “جفل” البنتاغون من المؤسسة العسكرية اللبنانية وإحالة ذلك المزاج إلى وزارة الخارجية الأميركية، ما يُنذِرُ أيضًا بمراجعة سياسات واشنطن مع بيروت.
شكا الرئيس اللبناني من سمومٍ لبنانية تُبَثُّ في واشنطن. غير أنه في عزّ سطوة “حزب الله” على منظومةِ الحكم في لبنان ومؤسّساته الأمنية والعسكرية، بقيت علاقة قادة الجيش ممتازة مع الولايات المتحدة. زار الرئيس جوزيف عون حين كان قائدًا للجيش واشنطن مرات عدة وزاره كبار قادة الجيش الأميركي في مقره في اليرزة. كما حظي بزيارة قصر الإليزيه في باريس في أيار (مايو) 2021 كأول قائد للجيش اللبناني يستقبله رئيسٌ فرنسي في قصره.
ولئن تمكّنت المؤسسة العسكرية من الحفاظ على امتيازها لدى واشنطن وكُبرى العواصم الغربية مُتجاوزةً إكراهات الوصايات متسرّبةً من ضغوطها، فإنه من اللافت أن يفقُدَ الجيش وقائده هذا الامتياز بعدما حمل العهد وعدًا بأن يكونَ الجيشُ حامل السلاح الوحيد الضامن لأمن البلد والدفاع عنه.
وإذا ما وصلت علاقة الولايات المتحدة بالجيش اللبناني إلى تدهورٍ يصلُ إلى حدِّ الحَرَد من زيارةٍ مُعَدّة ومُبَرمجة لقائده إلى واشنطن يعوِّلُ عليها لبنان، فحريٌّ التعجيل بمراجعة طبيعة السلوك المُنتَهَج الذي أدّى إلى هذا المآل. تطرح المسألة قضية موقع لبنان الرسمي، وليس مؤسّسته العسكرية فقط، داخل المَشهَدَين الإقليمي والدولي.
فنكسةُ إلغاءِ زيارة قائد الجيش إلى واشنطن ليست بعيدة عن نكسات سابقة أظهرت لُبسا في تموضع لبنان داخل التحوّلات القريبة والبعيدة، وقراءة مغلوطة لمصالح وأجندات قوى إقليمية ودولية كبرى. ظهرت أعراض سوء فهم للرسائل والمواقف والتسريبات الأميركية التي جاء معظمها مباشرًا علنيًا كُشف عنه من على منابر الرئاسات الثلاث.
ولئن تُرجّح التحليلات تَبَرُّم واشنطن من مواقف وتصريحات صدرت عن المؤسسة العسكرية، فيجوزُ هنا الانتباه إلى حصافة ما يُقال وحرفة ما يجب ألّا ُيقال. لا يتصرّفُ الجيش على هواه بل يُنفّذُ توجيهات السلطة السياسية التي استهدفها قرار واشنطن إلغاء زيارة “العماد”. لكن الحنكة تقتضي أن نُدرِكَ أننا في زمنٍ آخر، وأنَّ لبنان جُزءٌ من بيئةٍ إقليمية ودولية يُفتَرَضُ أنها حاضنة، وهو يعلن توقه لجذبها لتكون سقفًا راعيًا لانتعاشه وانتشاله.
وقد لا تكون مصادفة أن تُديرَ واشنطن ظهرها لقائد الجيش كأوّلِ ردِّ فعلٍ خشن مصاحب لتسلّم سفيرها لمهامه اللبنانية. ومن الأفضل أن نقرأ تلك المصادفة بصفتها الأعراض الجديدة لسياسة الولايات المتحدة ما بعد مورغان أورتيغاس وتوم برّاك.
وُجِبَ هنا أن نضعَ مجهرًا على ما ساء في مزاجِ واشنطن حيال بيروت، فيما يستقبل البيت الأبيض بترحابٍ لافت الرئيس السوري أحمد الشرع وتتزايد الأنباء عن خططٍ لقيام الرئيس الأميركي دونالد ترامب بزيارة قريبة إلى دمشق غير البعيدة من عاصمة لبنان.
فهمت دمشق قواعد اللعبة فيما تستصعب بيروت مغادرة الملاعب المُتهالكة.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت)