تتسارَعُ التحوّلاتُ في المشرق العربي فيما يقفُ لبنان على تخومِ صراعاتٍ أكبر منه، مُحاصَرًا بانقساماته الداخلية وضغوطِ القوى الإقليمية. وفي ظلِّ إعادةِ رَسمِ الأدوار حوله، تبدو خياراته أضيق من أيِّ وقتٍ مضى.
مايكل يونغ*
بعد الزيارة الناجحة التي قام بها الرئيس السوري أحمد الشرع أخيرًا إلى واشنطن، تزايَدت في بيروت الأسئلة حول ما تعنيه هذه الخطوة للبنان. كثيرون استعادوا تحذيرات المبعوث الأميركي توم برّاك في تموز (يوليو) الماضي، حين قال بوضوح إنَّ اللبنانيين يخشون أن يجدوا أنفسهم خارج معادلات الإقليم: “أعتقد بصدق أنهم سيقولون: العالم سيتجاهلنا. لماذا؟ إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، وسوريا الآن تفرُضُ حضورها بوتيرةٍ مُتسارعة، فإذا لم يتحرّك لبنان فسيعود إلى بلاد الشام”. كلام برّاك بدا يومها مُبالغًا فيه، لكنه يعود اليوم ليقترن بوقائع سياسية أشدّ تعقيدًا.
ففي مشهدٍ إقليمي يموج بالتحوّلات، تتبلور ثلاثةُ مساراتٍ كبرى ترسُمُ مستقبلَ المشرق العربي: مسارٌ تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل، وآخرٌ ترسمه دول الخليج العربي، وثالثٌ تُمثّله إيران. سوريا حاولت خلال السنوات الأخيرة التموضُعَ بين المسارَين الأوّلَين، مُبتعدةً بوضوح من الخيار الإيراني. أما لبنان، الغارق في انقساماته، فيجد نفسه في مساحةٍ رمادية بين هذه المحاور الثلاثة، مُعَرَّضًا لدَفعِ كلفةٍ عالية وباهظة لهذا التردُّد البُنيوي وغياب الرؤية السياسية المُوَحَّدة، وبالتالي لعدم اليقين الذي يعيشه.
في موازاةِ ذلك، كان الرئيس الشرع يُوسّعُ هامشَ حضوره الدولي من بوّابة واشنطن، حيث أعلن رسميًا انضمامَ بلاده إلى التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، خطوةٌ عزّزت موقعه لدى الإدارة الأميركية بوصفه شريكًا في مكافحة الإرهاب. وترَدَّدَ كذلك أنه قدّم تعهّدات تتجاوز محاربة التنظيمات المُتطرِّفة لتشمل مواجهة “حزب الله” و”حماس” والحرس الثوري الإيراني. وفي الوقت نفسه، كان لبنان يُواجَهُ باتهاماتٍ مُتكرّرة بالعجز عن نزع سلاح “حزب الله” الذي تُصنّفه واشنطن منظمة إرهابية. وبداية تشرين الثاني (نوفمبر)، حلّ في بيروت وفدٌ من وزارة الخزانة الأميركية برفقة سيباستيان غوركا، المدير الأول لمكافحة الإرهاب في البيت الأبيض، لبحث سُبُل تضييق الخناق المالي على الحزب.
هكذا يجد لبنان نفسه في قلبِ ضغوطٍ مُتصاعدة من مختلف القوى الإقليمية، في حين تبقى قدرته على توفير الطمأنينة لأيٍّ منها محدودة. وهذا ما يجعلُ الحاجة مُلِحّة إلى مُقاربةٍ جديدة، تُلزِمُ اللبنانيين بالتحرُّكِ سريعًا على أكثر من جبهة، وتُذَكِّرُ دولَ المنطقة بأنَّ استقرارَ لبنان ليس تفصيلًا، بل شرطٌ لمنع تحوّله إلى ساحةٍ مفتوحة أمام صراعاتها.
أصلُ الأزمة يكمُنُ في الانقسام العميق الذي يشطر المجتمع اللبناني. فمع أنَّ غالبيةَ القوى والطوائف تتفق نظريًا على أنَّ احتكار الدولة للسلاح ضرورةٌ لبناءِ دولةٍ طبيعية، فإنَّ “حزب الله” يقفُ خارجَ هذا الإجماع، مَدعومًا بموقفٍ إيراني واضح: نزعُ سلاحِ الحزب يعني خسارة طهران إحدى أهم أوراق نفوذها في المشرق، ولا سيما بعد تراجُع حضورها في سوريا.
ويزيدُ المشهدُ تعقيدًا أنَّ الحكومة الإسلامية في دمشق –والتي ينظرُ إليها قطاعٌ واسع من الشيعة اللبنانيين بعين الريبة– ساهمت في تشديد موقف “حزب الله” وحلفائه الرافض لأيِّ خطوة لنزع السلاح. فالحزبُ يخشى أن تُستَغَلَّ عودةُ سوريا إلى الساحة الإقليمية، بدعمٍ خارجي، في الضغط على بيئته أو حتى عبر عملياتٍ عسكرية تستهدفُ المناطق الشيعية في لبنان، ما يُعزّزُ شعوره بأنَّ السلاح لم يَعُد خيارًا سياسيًا بل ضرورة وجودية.
لعنةُ المجتمعات المُنقَسِمة أنّها تُصبحُ سريعًا مادةً خامًا للتجاذُبات الإقليمية والدولية، فتتشكَّلُ داخلها خطوطُ صدعٍ قابلة للاشتعال. المثالُ الأبرز اليوم هو أوكرانيا، التي حذّر هنري كيسنجر مرارًا من أنَّ محاولة فرض انتصارٍ كامل لأحد طرفيها—الغرب الكاثوليكي الناطق بالأوكرانية في الغالب، أو الشرق الأرثوذكسي الميال إلى روسيا—لن تقودَ إلّا إلى حربٍ أهلية أو تفكُّك. لبنان ليس بعيدًا من هذا النموذج؛ فبُناه الطائفية والمذهبية تجعله مرآةً هشّة لتوازنات المنطقة.
كيسنجر دعا في حينه إلى تسويةٍ تقومُ على “عدم رضا مُتوازِن” لا على “رضا مُطلَق” أي انتصارِ طرفٍ واحد. والمعادلة نفسها تنسحب على لبنان اليوم. فـ”حزب الله”، الذي ضعف عسكريًا لكنه ما زال يمتلك قوة عسكرية مُعتَبَرة، صار معزولًا داخليًا وخاضعًا لقيود إقليمية تمنعه من استعادة هيمنة الماضي. وفي المقابل، لا يُمكِنُ للبنان أن ينهضَ من دون تسوية جدّية تُشرك الحزب وتخفّفُ من مصادر التوتُّر حوله.
من هذا المنطلق، يُمكنُ للبنان ودول الإقليم أن يَبدَؤوا مسارًا جديدًا يهدفُ إلى تحييد البلاد عن صراعاتِ وتوتّراتِ المنطقة وتقليل قابليتها للاهتزاز. والحلُّ ليس في الرهان على نزع سلاح “حزب الله” بالقوة؛ فذلك لن يفضي إلّا إلى تعميق الانقسامات. كما إنّ تسليمَ لبنان مجدَّدًا إلى الوصاية السورية، كما لمّحَ السفير برّاك، ليس خيارًا قابلًا للحياة ولا يحظى بقبولٍ داخلي.
الخطوة الأولى يجب أن تكون تثبيت حيادٍ عملي وفعلي للبنان قدر الإمكان، وإبعاد ساحته عن خطوط الاشتباك والصراعات الإقليمية. ويتطلّب ذلك معالجة ملف الجنوب، بدءًا بانسحابٍ إسرائيلي كامل، مقرونًا بترتيباتٍ أمنية دائمة على الحدود تُوقِفُ عمليات “حزب الله” عبر الخط الأزرق. فحينَ تراجَعَ لبنان عن اتفاق الانسحاب في العام 1984، دفعَ الثمن احتلالًا استمرَّ ستة عشر عامًا إضافيًا. واليوم، تبدو الفرصة متاحة لإعادة صياغة قواعد الاشتباك، بما يضع الجنوب—ولبنان عمومًا—على مسارٍ أكثر استقرارًا.
لا يجوزُ للبنان أن يقعَ في الخَطَإِ نفسه مرة أخرى. فالجدلُ الدائرُ اليوم حولَ ما إذا كان الوَفدُ المُفاوِضُ مع إسرائيل يجب أن يكونَ عسكريًا أو مدنيًا لا يتجاوز كونه نقاشًا شكليًا يستهلك الوقت من دون جدوى. بوسع لبنان أن يؤكّدَ ويُثبتَ رفضه القاطع للتطبيع، ومع ذلك يشكّل فريقًا مشتركًا من العسكريين والخبراء المدنيين للتفاوض على الترتيبات الأمنية – تمامًا كما فعل في العام 1949 عندما وُقِّعت اتفاقية الهدنة.
وفي موازاة المسار الأمني، تبرزُ ضرورةٌ مُلِحّة لإعادة إعمار المناطق التي دمّرتها إسرائيل، وهو ملفٌّ يتطلّبُ دورًا حاسمًا من دول الخليج. غير أنّ أيَّ تمويلٍ لن يرى النور ما دامت شبكات النفوذ المالي المحلّية تُبقي الدولة مُعلّقة بين التعطيل والابتزاز السياسي، مانعةً أيّ إصلاح حقيقي. وهنا يبرز دور الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام اللذين يُفتَرَضُ أن يُقدِّما مُبادراتٍ واضحة وجريئة لإطلاقِ عجلةِ الإصلاح، وإلّا فستبقى المساعدات بعيدة المنال.
إعادةُ بناء الاقتصاد والمدن المدمّرة ليست مسألةً إنمائية فحسب، بل خطوة استراتيجية تضرب في عمق النفوذ المالي لـ”حزب الله” داخل بيئته. لكن هذا المسار لا يكتمل من دون إطلاقِ حوارٍ صريح مع القوى الشيعية الأساسية، لمُناقشة إصلاحاتٍ سياسية تُعزِّزُ تمثيل الطائفة داخل مؤسّسات الدولة، وتُبرهِنُ أنَّ أيَّ تسويةٍ حول السلاح ليست تهديدًا للنفوذ الشيعي، بل فرصة لإعادة إدماجه في مشروعِ دولةٍ قابلة للحياة.
المحور الثالث، الذي يُتَوَقَّعُ أن تتصدّره السعودية وتركيا، يتمثّل في دفع المصالحة اللبنانية–السورية نحو وتيرةٍ أسرع بعد سنواتٍ من الخطوات البطيئة والمُتحفّظة. فمن دون إعادة بناء الثقة بين بيروت ودمشق، سيبقى القلقُ داخل البيئة الشيعية حاضرًا حيال احتمال لجوء سوريا يومًا إلى تصفيةِ حساباتٍ مُرتبطة بدور “حزب الله” في الحرب السورية. وحدها علاقاتٌ طبيعية ومؤسّسية بين البلدين، تُستكمَلُ فيها عملية ترسيم الحدود وتسوية الملفات المُعلَّقة—ومنها قضية المعتقلين السوريين في لبنان—يمكن أن تُطمئن هذه المخاوف وتفتح الباب أمام مقاربة أكثر هدوءًا للسلاح ودوره.
هذه الملفات قابلة للمعالجة حتى قبل الوصول إلى أيِّ تسويةٍ نهائية بشأن سلاح “حزب الله”. قد لا تكون هذه المهمة سهلة، لكنها خطوات واقعية يمكن البناء عليها اليوم. وعلى الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام أن يُرَكِّزا على ما هو قابل للتحقيق بدل الانجرار إلى سجالاتٍ نظرية. وإذا اختار “حزب الله” الاعتراض أو العرقلة، فلن يكونَ من الخطَإِ خوض مواجهة سياسية واضحة المعالم، تُسهم أخيرًا في تبديد الضبابية التي كبّلت لبنان طويلًا وأبقت مصيره مُعَلّقًا على حساباتِ الآخرين.
- مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
