يشهدُ الشرق الأوسط تحوّلاتٍ غير مسبوقة أعقبت الهجوم الإسرائيلي على الدوحة، فاتحةً الباب أمام إعادة رسم الدور الأميركي في المنطقة. وفي خضم إعادة التموضع الإقليمي، تجد واشنطن نفسها أمام فرصة نادرة لبناءِ هيكلٍ أمنيٍّ جديد يُعيدُ ضبطَ موازين القوى.
جيمس جيفري وإليزابيث دِنت*
في التاسع من أيلول (سبتمبر)، فاجأت إسرائيل العالم بقصفها “فيلّلا” داخل حيّ سكني في الدوحة في محاولةٍ لاغتيال مسؤولين كبار في حركة “حماس”. كانت هذه ثاني مرة تُستهدَف فيها قطر هذا العام؛ إذ كانت إيران قد أطلقت في حزيران (يونيو) صواريخ على قاعدة جوية أميركية في الإمارة ردًا على الضربات الأميركية–الإسرائيلية على إيران. وبوصفها حليفًا مهمًا للولايات المتحدة ووسيطًا رئيسًا في النزاعات، اعتُبِرَت قطر عمومًا منطقة محظورة على الأطراف المتحاربة في الإقليم. إضافةً إلى ذلك، استضافت قطر قادة “حماس” لسنوات، بموافقةٍ أميركية وإسرائيلية ضمنية، في إطار دورها الوسيط؛ وكان المسؤولون المُستَهدَفون، في الواقع، يُفاوضون عبر القنوات القطرية على اتفاقٍ مُحتَمَل لإطلاق رهائن ووقف إطلاق النار في غزة. ولو أنَّ الضربات خلّفت مزيدًا من الضحايا أو الأضرار في قطر، لكان من المحتمل أن تزعزع استقرار المنطقة بأسرها، وأن توسّع رقعة الحرب إلى الخليج، وربما تقضي على أيِّ احتمالٍ قريب لوقف إطلاق النار.
لم تُفلِح الضربة الإسرائيلية على قطر، وهذا لم يقع. لكنَّ الهجومَ حقّق، من غير قصد، تطوّرًا شديد الأهمية: إذ فتح الباب أمام ما قد يكون أحد أبرز التحوّلات في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط منذ عقود. فإلى جانب غضب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي دفعه للضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للموافقة على وقفٍ لإطلاق النار في غزة، اتَّخَذَ خطوةً غير مسبوقة بإصدار أمرٍ تنفيذي يُعيدُ تأكيد التزام واشنطن بحليفتها الخليجية، مؤكّدًا أنَّ أيَّ هجومٍ مسلّح على قطر سيُعتبَر “تهديدًا لسلام وأمن الولايات المتحدة”. ومن المرجّح أن يُرسِي هذا التأكيد الصريح بالدعم الأميركي معيارًا جديدًا للعلاقات الأمنية بين دول الخليج والولايات المتحدة.
في ظلِّ التحوّلات الجذرية في ميزان القوى الإقليمي، تُمهّد هذه التحرّكات لقيامِ نظامٍ جديد في الشرق الأوسط. وإذا أمكن ترسيخُ هذا النظام، فسيقوم على تعميق العلاقات الأميركية–الخليجية، وتراجُع النفوذ الإقليمي لإيران، بل وعلى تنسيقٍ أوثق بين الجيوش الحليفة. ولأول مرة منذ جيل، باتت لدى الولايات المتحدة فُرصة لبناء هيكل أمني متين في واحدة من أكثر مناطق العالم اضطرابًا. لكن على إدارة ترامب التحرّك سريعًا لاستثمار هذه اللحظة النادرة عبر مُواءمة التوقعات مع شركائها، وترسيخ الإطار الأمني الناشئ، وتنشيط العمل الديبلوماسي. ومع استعداد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان للقاء ترامب في واشنطن في 18 تشرين الثاني (نوفمبر)، تبرز أمام الولايات المتحدة فرصة حاسمة لتوسيع تعهّدها الأمني الجديد لقطر ليشمل السعودية والخليج بأكمله. ومع ذلك، فإنَّ فقدان الرئيس وفريقه التركيز على هذا الأمر قد يؤدّي إلى انهيارِ كلِّ شيء.
هدوءٌ نادر
بعد عامين من الحرب، أصبح خصوم الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أضعف مما كانوا عليه منذ عقود. وحتى لو لم يصمد وقف إطلاق النار في غزة، فإنَّ الاتفاق ـــالقائم على عودة جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء مقابل انسحاب إسرائيلي جُزئي فقطـــ يُعدّ هزيمةً فعلية لـ”حماس”. وفي المقابل، تضرّرت البرامج الصاروخية الباليستية والنووية الإيرانية بشدة؛ وأُطيح بحليف إيران في سوريا، نظام الأسد؛ وتراجعت قوة “حزب الله”، ذراع طهران في لبنان؛ وخضعت الميليشيات المدعومة من إيران في العراق إلى حد كبير. حتى الآن، يبقى الحوثيون في اليمن الوكيل أو الشريك الإيراني الوحيد الذي لا يزال يشكل تهديدًا عسكريًا كبيرًا، فيما تتعرض قيادتهم لضغطٍ مُتزايد من إسرائيل. وقد تتمكّن إيران مستقبلًا من استعادة بعض قوتها، لكن قدراتها الحالية مُنهَكة. ونتيجةً لذلك، يشهد الشرق الأوسط حالةً من الهدوء النادر المتوافق مع المصالح الأميركية.
هذه التغييرات لا تعود فقط إلى الحروب التي تلت هجمات “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023؛ فجُزءٌ منها يُنسَب أيضًا إلى إدارة ترامب الأولى وإدارة جو بايدن، اللتين كانتا أكثر تقارُبًا في مقاربتَيهما للشرق الأوسط مما يُعتَقَد عادة. وقد واصل ترامب في ولايته الثانية نهج أسلافه بالعمل “من خلال، ومع، وبواسطة” الشركاء المحليين. ولخّص استراتيجيته في خطابٍ ألقاه في الرياض في أيار (مايو)، أكّد فيه قدرة دول الشرق الأوسط، وخصوصًا دول الخليج وتركيا، على إدارة شؤونها الداخلية والاضطلاع بدور أكبر في الأمن الإقليمي، مع استعداد الولايات المتحدة لتقديم دعم عسكري حاسم عند الضرورة. وفي المقابل، عُرِضَ على الشركاء في الشرق الأوسط حوافز اقتصادية وأمنية جديدة.
إلى جانب النمو الكبير في العلاقات التجارية والاستثمارية مع الولايات المتحدة، حصل الحلفاء العرب على فرصةٍ لتعميق علاقاتهم الديبلوماسية مع إسرائيل، كما ظهر في اتفاقيات أبراهام، وهي سلسلة الاتفاقيات التي وُقِّعت خلال ولاية ترامب الأولى وطبّعت العلاقات بين إسرائيل وأربع دول عربية. هذا التصوّر، إلى جانب التزام ترامب بعدم إنفاق موارد ضخمة على بناء الدول، يمنح الشعب الأميركي صفقة أفضل: استقرارًا في الشرق الأوسط بكلفة عسكرية أقل ومكاسب اقتصادية أكبر للولايات المتحدة. ومنذ عودته إلى المنصب، واصل ترامب هذه الاستراتيجية عبر احتضان الزعيم السوري الجديد أحمد الشرع، وهو إرهابي سابق؛ وقصف موقع فوردو النووي في إيران؛ وإطلاق التزام أمني استثنائي تجاه الدوحة؛ ودفع إسرائيل و”حماس” إلى وقف إطلاق النار.
زُرِعَت بذورُ هذا النهج خلال إدارة بايدن. ففي حملته الانتخابية، طرح الرئيس الأميركي جو بايدن رؤية عالمية تضع الديموقراطيات في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، وتعهّد بجعل السعودية “منبوذة” بسبب اغتيال صحافي سعودي. وما إن تولّى منصبه، حتى تبنّى اتفاقيات أبراهام التي أرسى أُسُسها ترامب، بل حاول توسيعها، وفي العام 2022، واجه ولي العهد السعودي علنًا. وكانت استراتيجية بايدن للأمن القومي لعام 2022 مشابهة في جوانب كثيرة لاستراتيجية الأمن القومي لعام 2017 التي وضعها ترامب، إذ ركّزت كلتاهما على التنافس مع القوى الكبرى الأخرى، بما يشمل بناء الاقتصاد الأميركي، وتعزيز الجيش، واستخدام القوة العسكرية بشكلٍ حاسم. وفي العام 2024، أصبح بايدن أول رئيس ينخرط في قتالٍ مباشر دعمًا لإسرائيل، موجّهًا القوات الأميركية لإسقاط الصواريخ الإيرانية. كما نصت استراتيجية الأمن القومي لعام 2022 على أنّ الولايات المتحدة ستتعاون مع “الدول التي لا تتبنّى المؤسّسات الديموقراطية” ما دامت تدعم “نظامًا دوليًا قائمًا على القواعد”. وقد جسّد بايدن هذا النهج عبر العمل مع نتنياهو رُغمَ الإخفاقات الأخلاقية والسياسية الكبيرة في غزة، ومع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن توسّع حلف شمال الأطلسي، ومع دول الخليج حول البنية الأمنية للمنطقة.
تشترك سياسات بايدن وترامب في الشرق الأوسط في عنصرٍ آخر: فبالرُغمِ من أنها حصدت دعمًا واسعًا في الكونغرس وبين الجمهور، فإنها خلقت توترات داخل دوائر أساسية في قواعدهما السياسية. فمع تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، واجه بايدن انتقادات حادّة من قطاعات داخل الحزب الديموقراطي انقلبت على إسرائيل. أما ترامب، فواجه معارضة قوية من كثيرين في جناح “أميركا أولًا”، الذين يريدون رؤية انخراط عسكري أميركي أقل في المنطقة. ومع ذلك، ظل الرئيسان مُلتَزِمَين بالانخراط الأمني الأميركي القوي في الشرق الأوسط.
خطوطٌ حمراء جديدة
أصبحت دول الخليج محور النظام الإقليمي الجديد. ففي غيابِ ردٍّ أميركي قوي، كان من الممكن أن تُثير الضربة الإسرائيلية على الدوحة تساؤلات حول التزام واشنطن تجاه الخليج والشرق الأوسط الأوسع. لكن الهجوم أصبح، بدلًا من ذلك، حافزًا لترامب لإعادة تأكيد أهمية الخليج لأمن الولايات المتحدة والمنطقة. وفي جوهر الأمر، دفع الهجوم واشنطن إلى الإدراك بأنَّ الردع في الخليج لم يَعُد يستندُ فقط إلى الوجود العسكري الأميركي ومبيعات الأسلحة والصفقات الاقتصادية؛ بل يتطلّب إطارًا أكثر تكامُلًا واستدامة سياسيًا.
وعندما أصدر ترامب الأمر التنفيذي الذي تعهّد فيه بالدفاع عن قطر، بعثَ برسالةٍ إلى الشرق الأوسط كله مفادها أنَّ الخطوط الحمراء الأميركية تتجاوز إسرائيل. كما أبلغ شركاء الخليج بأنَّ حدود الالتزامات الدفاعية الأميركية في المنطقة قد توسّعت، وربما بصورة دائمة. ويكفي النظر إلى التباين مع العام 2019، حين ضرب وكلاء إيرانيون مصفاة نفط سعودية رئيسة. في ذلك الوقت، لم يتخذ ترامب أي إجراء، ما جعل دول الخليج تفقد بعض ثقتها بالتزام الولايات المتحدة بأمنها. أمّا الآن، ومع الأمر التنفيذي الأخير، بات لديهم ما يبرّر الافتراض بأنَّ أيَّ هجومٍ مشابه مستقبلًا قد يُواجَه بردٍّ مختلف.
ولم يكن تأكيد ترامب أول التزام أميركي من نوعه تجاه الخليج. ففي العام 2023، وقّعت إدارة بايدن اتفاقية التكامل الأمني والازدهار الشامل بين الولايات المتحدة والبحرين، التي هدفت إلى توفيرِ إطارٍ لمشاركة أميركية أوسع في المنطقة. وأسهمت الاتفاقية في تعزيز المبادرات الاقتصادية والتكنولوجية الأميركية–البحرينية الجديدة، والتدريبات العسكرية المشتركة، وتنسيق التخطيط الدفاعي، وزيادة تبادل المعلومات الاستخباراتية. وفي ما يخص الأمن المتبادل، شددت الاتفاقية على التشاور والاستجابات المشتركة بدلًا من الرد الأميركي الفوري والإلزامي على أيِّ هجوم مسلّح، سواء كان عسكريًا أو غير ذلك.
على الرُغم من أنَّ الاتفاق مع البحرين والأمر التنفيذي المُتَعلِّق بقطر يفتقران إلى الوضوح القانوني أو الاستمرارية المؤسّساتية التي تتمتع بها أي معاهدة يُصدّق عليها مجلس الشيوخ الأميركي، فإنَّ تداعياتهما السياسية تبقى بالغة الأهمية، ولا سيما بالنسبة إلى قطر. فللمرة الأولى منذ حرب الخليج في العام 1991، ربطت الولايات المتحدة صراحةً مصالحها بأمن دولة خليجية. وبذلك، وضع ترامب معيارًا جديدًا للعلاقة الأمنية الأميركية مع شركائه الخليجيين والإقليميين. وقد أشارت السعودية بالفعل إلى احتمال سعيها إلى اتفاقية دفاعية مماثلة خلال زيارة ولي العهد للبيت الأبيض – أمرٌ رئاسي يعتبرُ أيَّ هجومٍ على المملكة هجومًا على المصالح الأميركية.
وسيكون ذلك أقل طموحًا من اتفاقية الأمن الرسمية التي سعى إليها ولي العهد قبل اندلاع الحرب في غزة. ففي عهد إدارة بايدن، أجرت الولايات المتحدة محادثات مع الرياض بشأن معاهدة دفاعية يصادق عليها مجلس الشيوخ، كانت مرجّحة أن تأتي مقابل تطبيع العلاقات مع إسرائيل – أي عمليًا توسيع اتفاقيات أبراهام لتشمل السعودية. لكن هذا النوع من الاتفاقات أُجِّل بسبب تعقيدات الوضع في غزة بعد الحرب. في المقابل، وبحسب ما تراه الرياض وشركاء الخليج الآخرون، يوفر الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب بشأن قطر حماية أميركية ملموسة، ويتجنّب في الوقت نفسه المفاوضات الطويلة والمعقدة المطلوبة لمعاهدة يصادق عليها مجلس الشيوخ أو لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وبعبارة أخرى، يمكن لردّ ترامب على أزمة الدوحة أن يشكّل أساسًا لهيكلٍ أمني جديد في المنطقة، شرط أن تُقدّمَ الولايات المتحدة الدعم اللازم لجعله ذا مصداقية.
إقرأ التفاصيل
بالنسبة إلى قطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة، أثار الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب آمالًا وتساؤلات في آن واحد. فقد فسّرته الدول الثلاث –وربما بحق– باعتباره مؤشرًا واضحًا إلى عزم الولايات المتحدة حماية شركائها في المنطقة من التهديدات الحكومية وغير الحكومية. وفي المقابل، أثار الغموض القانوني لهذا الضمان مخاوف لدى قادة الخليج بشأن ديمومته وقابليته للتنفيذ. فعلى سبيل المثال، قد تتمكن إدارة أميركية جديدة في العام 2028 من إلغائه بسهولة، رُغمَ ما قد يمثّله ذلك من مخاطر كبيرة على العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وقطر.
لم تُوَضِّح إدارة ترامب بعد ما إذا كان ضمان الدوحة يُمثّلُ تحوُّلًا رسميًا في سياستها أم مجرّد موقفٍ مُرتَجَل. فعلى سبيل المثال، ليس معلومًا كيف ستمنع تكرار سيناريو كالذي واجهته قطر في أيلول (سبتمبر). فإذا وقع هجوم مماثل، هل ستوقف الولايات المتحدة الصواريخ الإسرائيلية عن ضرب الدوحة، أم ستكتفي بإخطار قطر بشكل أسرع؟ وهل ستتخذ واشنطن خطوات لكبح جماح إسرائيل، أقرب حلفائها في الشرق الأوسط؟ يشير التاريخ إلى أنَّ الالتزامات الأمنية الأميركية تركّز بدرجة أقل على الرد العسكري المباشر على الحوادث الفردية، وبدرجةٍ أكبر على ردع العدوان واسع النطاق —كالعدوان على الكويت في العام 1990— وعلى تعزيز بيئات أمنية إقليمية تُكرّس الاستقرار والقدرة على التنبؤ والسلام. وعند الضرورة، كبحت الولايات المتحدة أحيانًا جماح حلفائها، كما حدث عندما هاجمت فرنسا والمملكة المتحدة قناة السويس في العام 1956، أوعندما هدّدت تركيا قبرص في العامين 1964 و1974.
وتعكسُ هذه التوترات مُعضِلةً أعمق. فقد تَذَبذَبَ شركاءُ الخليج في الماضي بين السعي إلى مزيدٍ من الحماية الأميركية وبين التحوّط عبر إقامة شراكاتٍ بديلة، مثل الصين وروسيا. ففي أيلول (سبتمبر)، على سبيل المثال، وقّعت السعودية اتفاقية دفاع مع باكستان. وعلى الرُغم من أنَّ الأمرَ التنفيذي الجديد قد يُقلّلُ من جاذبية هذا التحوّط، فإنه لن يفعلَ ذلك إلّا إذا أوضحت واشنطن أنَّ ضماناتها تتمتّعُ بفاعلية حقيقية. فإذا لم تتحقّق توقّعات قطر بشأن الرد على العدوان الخارجي، تُخاطرُ الولايات المتحدة بخلقِ منطقةٍ رمادية خطيرة تشعرُ فيها دول الخليج بأنَّ التزاماتَ واشنطن قوية بما يكفي لئلا تُهمَل، لكنها ضعيفة بما يكفي لدفع الدول إلى البحث عن صفقاتٍ بديلة قد تتعارض مع المصالح الأميركية. وفي مثل هذا السيناريو، قد تَجِدُ واشنطن نفسها تتحمّل المسؤولية بلا نفوذ: تُلامُ على الأزمات الإقليمية، لكنها تفتقرُ إلى القوة اللازمة لتوجيه سلوك شركائها. وسيكون التعامل مع هذه التوقّعات اختبارًا رئيسًا للبراعة الديبلوماسية للإدارة في الأشهر المقبلة.
يحمل نموذج الدوحة الجديد مخاطر أخرى أيضًا. فالضمانات المُقَدَّمة لقطر، وكذلك الموقف الأميركي الأوسع واستراتيجية الولايات المتحدة في المنطقة، ما تزال في معظمها ردَّ فعلٍ وليست نتاج تنسيقٍ مدروس. ولم تُقدِّم إدارة ترامب الثانية بعد عقيدةً أمنية رسمية للمنطقة. وهناك خطرٌ إضافي يتمثّلُ في احتمال تجاوز الولايات المتحدة للحدود. ففي غياب الوضوح، قد يسيء شركاء الخليج تفسير الضمانات باعتبارها مُعادِلة للمادة الخامسة من ميثاق حلف شمال الأطلسي، التي تنص على أنَّ أيَّ هجومٍ مسلّح على أحد الحلفاء يُعَدُّ هجومًا على جميع الأعضاء. وقد يقود عدم تطابق الافتراضات بين واشنطن والعواصم الخليجية إلى سيناريوهات تُجرّ فيها الولايات المتحدة إلى نزاعات إقليمية، أو أسوأ من ذلك، أن تبدو وكأنها تتراجع عن التزاماتها في لحظات التصعيد. ولجعل التزامها تجاه قطر ذا مصداقية، ستحتاج واشنطن إلى مأسسته بطريقة توازن بين الردع والمرونة السياسية والعسكرية.
الفوز بالسلام
على الرُغم من هذه التحديات، فإنَّ أمام الولايات المتحدة فُرصةً نادرة لإعادة تشكيل أمن الشرق الأوسط. فمع إضعاف الخصوم، وتمكين الشركاء، وتنشيط الديبلوماسية، تستطيع واشنطن صياغة النظام الإقليمي الناشئ بطُرُقٍ لم تكن واردة قبل سنوات قليلة. واستنادًا إلى الضمانات الأمنية الجديدة المُقَدَّمة للخليج، يمكن لإدارة ترامب —على سبيل المثال— إضفاء الطابع الرسمي على اتفاقيات دفاع متعددة الأطراف بين دول الخليج (وربما إسرائيل)، أو توسيع نطاق اتفاقيات أبراهام لتشمل منتدى سياسيًا إقليميًا أوسع، أو استثمار التعاون الأمني لتحفيز المزيد من التكامل الاقتصادي والاستثماري مع الدول الراغبة في الانضمام إلى الترتيبات الأمنية المتحالفة مع الولايات المتحدة.
ورُغمَ أنَّ دول الخليج أُصيبت بالإحباط من إسرائيل بسبب حربها في غزة وهجومها على قطر، فإنها تُدركُ أنَّ إسرائيل جعلت الخليج أكثر أمنًا عبر إضعاف القدرات العسكرية لإيران ووكلائها. لذلك من المرجح أن تُفضّلَ دول الخليج بقاء إسرائيل إلى جانبها، وإن بشكلٍ غير مُعلَن.
ومن الجدير بالذكر أنَّ الولايات المتحدة سبق أن امتلكت فرصًا لإعادة تشكيل نظام الشرق الأوسط —في العام 1974 بعد حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر)، وفي العام 1991 بعد تحرير الكويت. ففي كلتا الحالتين، هزمت التحالفات التي قادتها واشنطن المُحرّضين الرئيسيين على الصراع الإقليمي، وتلت ذلك مبادرات ديبلوماسية كبرى، منها معاهدة 1979 بين مصر وإسرائيل، ومؤتمر مدريد في العام 1991، واتفاقات أوسلو. غير أنَّ حكومات المنطقة لم تنجح في ترسيخِ سلامٍ دائم في أيٍّ من الفترتين. واليوم، ما تزال تحديات مشابهة قائمة، وينبغي لواشنطن وشركائها السعي لتجنّب تكرار تلك التجارب، وتحويل الاستقرار الذي ظهر مؤقتًا إلى واقع دائم ومستقر.
تمثّل اللحظة الحالية فرصة للولايات المتحدة لإعادة تقييم وتحديد وضعها العسكري في الشرق الأوسط. فمع تراجع الحاجة إلى عمليات نشر واسعة، يمكن لواشنطن استعادة نهجها الاستراتيجي في استعراض القوة اعتمادًا على قدرات الاستجابة السريعة والقواعد الأمامية، إلى جانب توسيع نطاق التوافق والتكامل العسكري بين شركائها الإقليميين. وبالقدر نفسه من الأهمية، تستطيع الولايات المتحدة توظيف نفوذها المتجدد لمعالجة التوترات المستمرة في المنطقة، بما في ذلك في العراق ولبنان وسوريا واليمن. فعلى سبيل المثال، يمكن لواشنطن الاستفادة من التزاماتها الجديدة تجاه قطر —وربما السعودية— لتشجيع الدوحة والرياض على أداء دور أكثر فاعلية في منع الميليشيات من التدخل في مؤسسات الدولة العراقية أو الإسهام بصورة أكبر في إعادة إعمار لبنان.
وفي غياب المتابعة الأميركية، قد تتبخّر فرصة وضع المنطقة على مسار أفضل وأكثر استقرارًا، تاركةً خلفها شركاء مُحبَطين وخصومًا أكثر جرأةً وأضرارًا دائمة بمصداقية الولايات المتحدة. لقد استثمرت واشنطن موارد هائلة لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، وهي تواجه اليوم اصطفافًا إقليميًا يجعل الأمن الدائم ممكنًا أخيرًا. وسيكون من المؤسف إضاعة هذه الفرصة.
- جيمس جيفري هو زميل فيليب سولوندز المتميز في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. شغل مناصب عليا في الخدمة الخارجية في سبع إدارات أميركية. ومن العام 2018 إلى العام 2020، كان الممثل الخاص لشؤون سوريا والمبعوث الخاص للتحالف العالمي لهزيمة “داعش”.
- إليزابيث دِنت هي زميلة ناثان وإستر فاغنر الأولى في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. شغلت سابقًا منصب مديرة شؤون الخليج وشبه الجزيرة العربية في مكتب وزير الدفاع الأميركي.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
