بيانٌ واحد كان كفيلًا بإرباك المشهد اللبناني بأسره. فالكلمات التي اختارها “حزب الله” بعناية، وصاغها على الورق بدل أن ينطقها زعيمه، حملت أكثر مما قالت… وأشعلت جدلًا حول من يقرّر اليوم مصير الحزب والبلاد.
ملاك جعفر عبّاس*
أحدث الكتاب المفتوح الذي وجهه “حزب الله” إلى الرؤساء الثلاثة في لبنان صدمةً واسعة في الأوساط السياسية المحلّية في لحظةٍ مصيرية تواجه فيها البلاد إرهاصات تصعيدٍ عسكري وسياسي مُدمّر قد يُفكّك الكيان اللبناني جغرافيًا وسياسيًا. ففي رسالته، رفضَ الحزب بشكلٍ قاطع مبدأ التفاوض، مُتَمَسِّكًا بسرديته التي التزمها منذ دخول اتفاق وقف الأعمال العدائية حَيّز التنفيذ بالامتناع عن الردِّ على أيِّ خروقات إسرائيلية، وحصر النقاش في مصير السلاح في منطقة جنوب نهر الليطاني.
لكن اللافت في البيان لم يكن مضمونه فحسب، بل لغته ونبرته وطريقة صياغته التي تعكسُ تحوّلًا داخليًا في دينامية القرار داخل الحزب. فهل يشيرُ هذا الرفض الحازم إلى صعودِ الجناح المتشدّد في قيادة “حزب الله” وتقدّمه وسيطرته على القرار السياسي؟
من حيث الشكل، يبدو واضحًا أنَّ القرارَ الذي اتخذته القيادة بإصدارِ بيانٍ مكتوب وبثّه عبر قناة “المنار”، الناطقة الرسمية باسم “حزب الله”، كان خطوة محسوبة بعناية أرادَ منها إيصال رسالة واضحة لا لبس فيها ولا تقبل التأويل لموقفٍ صادرٍ عن قيادة الحزب مُجتمعة. وقد درج “حزب الله” تاريخيًا على تصدير مواقفه السياسية في الحرب والسلم على لسان الأمين العام بشخص السيد حسن نصر الله في ما سبق، والشيخ نعيم قاسم في ما لحق، ونادرًا ما أصدر بيانات مكتوبة تحمل قرارات مفصلية. ليست مسألة اختيار الشكل تفصيلًا عابرًا في تنظيمٍ احترف صنعة البروباغندا والتواصُل من خلال آلة إعلامية ودعائية قلَّ نظيرها في الانضباط والفاعلية.
لذا، فإنَّ اختيارَ البيان المكتوب لا الخطاب المُتلفز الذي يلقيه الأمين العام له دلالات ليس أقلّها عدم ربط الموقف بشخصيةٍ سياسية سيترتّب عليها تحمُّل كلفة التداعيات العسكرية والسياسية التي قد تنتج عنه، من رصيدها الانتخابي أو تأثيرها السياسي. وهو مؤشّر على أنَّ النقاش الدائر على مستوى القيادة المتمثلة في شورى القرار قد حسمه المجلس الجهادي الذي يبدو أنه فرضَ موقفًا أكثر تشدُّدًا من السياق الذي لطالما عبّر عنه الشيخ نعيم قاسم في خطاباته ومقابلاته الإعلامية والذي بقي دومًا متمسّكًا بشعرة معاوية مع الدولة والسيادة والتوافق الوطني أقله كلاميًا. ما يُرجّحُ هذه الفرضية، أنَّ مواقفَ قاسم السابقة كانت تتماهى إلى حدّ التطابق مع مواقف الرئيس نبيه بري، حيث أطلق عليه لقب الأخ الأكبر، وفوَّضه التحدّث نيابةً عن “حزب الله” في ساحات التفاوض. وصحيح أنَّ بري قال لا للحرب ولا للتفاوض المباشر، لكنه دعا إلى تفعيل عمل لجنة “الميكانيزم”، وأبقى مساحةً رمادية للحديث مع الوسطاء ولم يغلق باب السياسة يومًا. ولم يكن بري مُضطرًّا لإحراجِ نفسه بإصدار موقفٍ من دون التشاور مع قيادة الحزب السياسية التي يبدو أنها أصدرت فعلًا ضوءًا اصفر لرئاسة الجمهورية لبحث فكرة التفاوض قبل أيام نقلتها وسائل إعلام لبنانية.
يحجب البيان المكتوب زلّات اللسان وتعابير الوجه والوقفات الصامتة ولغة الجسد التي يتيح الخطاب المتلفز بحثها، وهو يحجبُ معها استشراف طبيعة النقاش الذي حكم طاولة اتخاذ القرار وعمق الخلافات والاتهامات المتبادلة. فكثيرٌ من الجماعات المسلحة واجهت انشقاقات كبرى في لحظة الذهاب الى التفاوض وغالبًا ما انقسمت إلى جناحٍ مفاوض يُعتَبَرُ خائنًا للقضية بنظر الجناح المتشدّد الذي يُفضّل القتال حتى آخر رجل…
وقد تواتر الحديث في الأشهر الفائتة عن صراعِ أجنحة داخل الحزب، وسرت إشاعات عن جناحٍ يتزعّمه الحاج خليل حرب مع مجموعةٍ من المقاتلين الرافضين للتسوية، كما سرى حديثٌ آخر عن تكتّلات إعادة انتاج المنابع العقائدية لقادة الحزب من الرعيل المؤسّس تبعًا للمدارس الفكرية التي أتوا منها إلى حاضنة الحزب. لكن بالاستناد إلى المعطيات التي يمكن التحقّق منها، لا يمكن الحكم من خلال هذا البيان على وجود انشقاقات داخلية في البنية القيادية للحزب، ولا يمكن الجزم بأنَّ الشيخ نعيم قاسم لم يكن مُوافقًا على مضمونه. إلّا أنَّ تغييرَ الوسيلة في إيصال الرسالة يؤشّرُ إلى الحساسية العالية التي حكمت النقاش الداخلي وأعلت القرار التنظيمي الجماعي على الآراء الفردية للقياديين، وإن كان واضحًا غلبة الصوت العسكري المتشدد عليها. هذا الصوت العسكري الذي غُيِّبَ على مدى سنة كاملة يقول الآن إنه صاحب القرار ومحرّك البوصلة. فما هي حساباته؟
فرضت الضربة القاصمة التي تلقاها الحزب خلال ما يسميه معركة أولي البأس صمتًا ميدانيًا على الجبهة استمرَّ بلا أي خرق لمدة عام كامل أمعنت فيه المُسَيَّرات الإسرائيلية اغتيالًا لكوادر الحزب الميدانيين، وقصفًا لبنيته التحتية وما تبقّى من مخازنه. ورُغمَ تلاقيه مع السردية الإسرائيلية على فكرة التعافي، لم يُظهر الحزب أية مؤشّرات ميدانية تُقرِنُ القول بالفعل. أثار الصمت الميداني المريب تساؤلات جدية لدى بيئة الحزب عن مدى قدرته على الرد، إن حدثَ تصعيد جديد، خصوصًا وأن البيئة تتحمّل بصمت تبعات التعنُّت في مسألة تسليم السلاح وتنوء تحت عبء الجمود في ملف إعادة الاعمار والتدهور الحاد في الوضع الاقتصادي في المناطق الشيعية. كما إنها تتحمّل كلفة التحريض الطائفي الذي تخطّى كل الخطوط الأحمر وعزل الشيعة عن امتدادهم الاجتماعي في المناطق المختلطة.
لا تريد البيئة أن تذهب تضحياتها هباءً منثورًا، ويهمسُ البعض سرًّا أنَّ الحساب سيكون عسيرًا هذه المرة إن لم يكن الأداء في الميدان على مستوى الآمال. هنا تختلط الحسابات العسكرية بالانتخابية. يدرك الحزب أنَّ القبول الصريح بالتفاوض سيُجَرجره على سلّم التنازلات، وسينعكس حُكمًا في صندوق الاقتراع. فالتفاوض إقرارٌ بأنَّ السلاح فقد فاعليته، وهذه لغة غير موجودة في قاموس الحزب وعقيدته الدينية والعسكرية. والتفاوض حبلٌ طويل وشائك في سنة انتخابية تقتضي شدّ العصب والتماسُك، خصوصًا وأنَّ الحزب سيخوض الانتخابات على اعتبار انها استفتاءٌ على سلاحه ودوره. والتفاوض إقرارٌ بأنَّ الحزب قادرٌ على أن يكونَ فاعلًا سياسيًا بمعزل عن إيران في وقتٍ تُعيدُ طهران ترتيب ملفها التفاوضي مع الولايات المتحدة على قاعدة أكثر تشدُّدًا مفادها أنَّ ما لم يؤخذ في الميدان لا يمكن أن يؤخذ على طاولة المفاوضات.
ما لم يأخذه الكتاب المفتوح بعين الاعتبار هو جدية التهديدات الإسرائيلية والأميركية والدولية للحزب وبيئته، وعموم أبناء جبل عامل والبقاع والضاحية من الشيعة وباقي اللبنانيين، من أنَّ أيَّ خطَإٍ في الحسابات سيؤدّي إلى نسف الصيغة اللبنانية شكلًا ومضمونًا بضوءٍ أخضر أميركي ودولي. فالدول الفاعلة في الملف اللبناني تعتبرُ أنَّ اللبنانيين أضاعوا فرصًا ثمينة لإعادة النهوض ببلدهم واقتصادهم، ولن يكون بمقدور أحد إنقاذهم إن لم يُنقِذوا أنفسهم. لم يأخذ الكتاب في حساباته تعب الشيعة وبؤسهم وانعدام الأفق أمامهم، وأنَّ تلك العوامل بدل أن تبقى تنتج التحامًا حول هويةٍ طائفية عقائدية قد تنتج كفرًا بخطابٍ يتخشَّب كل يوم فيما تتضاعف مساحات المقابر في قراهم وأعداد المهجّرين، وتختفي منها ملاعب الأطفال.
- ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة “ Linkedin“ على: linkedin.com/in/malakjaafar
