كابي طبراني*
على مدى عقود، أقنَعَ العالمُ نفسهُ بأنَّ الطاقة قد أصبحت سلعةً آمنة ومُحايدة. كانت صدمات النفط جُزءًا من ذاكرة السبعينيات، مجرّد دروسٍ في كتب التاريخ. الأسواق العالمية توسّعت، والتجارة ازدهرت، والأنابيبُ عبرت القارات لتربُطَ الاقتصادات لا لتخنقها. بدا أنَّ سلاحَ الطاقة قد طُوِيَ إلى الأبد.
ثم غزت روسيا أوكرانيا.
في شتاءٍ واحد، انهارت الأوهام. موسكو خفّضت إمدادات الغاز إلى أوروبا، فاشتَعلَت الأسعار، وأُغلِقَت المصانع، وتَحوّلت التدفئة إلى ترفٍ في بعضِ البيوت. للمرّة الأولى منذ الحرب الباردة، واجَهَ الأوروبيون حقيقةً أنهم سلّموا أمنهم الطاقي لخصمهم الجيوسياسي. سلاحُ الطاقة عادَ إلى الميدان، لا كرمزٍ من الماضي، بل كأداةٍ فعّالة في الحاضر.
لكنَّ النسخةَ الجديدة من هذا السلاح أكثر دهاءً واتساعًا. لم يَعُد الأمرُ يتعلّقُ فقط ببراميل النفط وأنابيب الغاز، بل بسلاسِل الإمدادِ التي تُغذّي ثورةَ الطاقة النظيفة: المعادن النادرة، والبطاريات، وشبكات الكهرباء، والمكوّنات التي تُشغّلُ السيارات الكهربائية والتوربينات الهوائية. والسلاحُ اليوم في أيدي لاعبين جُدُد، تتقدّمهم الصين، التي تُحكِمُ قبضتها على مُعظم هذه الموارد الحيوية.
في العام 2024، أوقفت بكين صادرات الغرافيت وبعض المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة بعدَ تصاعُدِ التوتّرات بين البلدين بشأن التكنولوجيا المُتقدّمة. وفي غضون أسابيع، توقّفت خطوطُ إنتاج السيارات الكهربائية في مصانع “فورد” و”جنرال موتورز”. قفزت الأسعار، وارتَبَكَت الأسواق. كان ذلك لمحةً من مستقبلٍ يُمكِنُ فيه شلّ اقتصادٍ مُتقدِّمٍ بقرارٍ إداريٍّ واحدٍ من العاصمة الصينية.
لقد شاهدَ العالمُ هذا المشهد من قبل. ففي العام 1973، استخدمت الدول العربية المُنتِجة للنفط سلاحَ الحظر ضد الغرب، فارتفعت الأسعار بنسبة تقارب 300 في المئة، وتبدّلت ملامح الاقتصاد العالمي. حينها، استوعَبَ الجميع أنَّ الاعتمادَ المُفرِط على مصدرٍ واحدٍ للطاقة هو وصفةٌ للكارثة. ووُلِدَت من تلك الأزمة سياساتٌ جديدة: تأسيسُ وكالة الطاقة الدولية، بناءُ احتياطاتٍ استراتيجية، وتشجيعُ كفاءةِ استخدامِ الطاقة. لكن مع مرور الزمن، نُسِيَت الدروسُ القديمة.
الثورةُ الصخرية جعلت الولايات المتحدة أكبر منتج للطاقة في العالم. أوروبا بنت رخاءها على الغاز الروسي الرخيص. والصين استثمرت مليارات اليوانات لبناءِ هيمنةٍ صناعية في مجالات الطاقة النظيفة. في لحظةٍ من الغرور، صدّقَ الجميعُ أنَّ الأسواقَ العالمية قادرةٌ على امتصاصِ أيِّ صدمة.
الواقعُ اليوم يُكَذِّبُ هذا الاطمئنان.
العالمُ يدخلُ مرحلةً جديدة من التنافُس بين القوى الكبرى، حيث تتراجَعُ العَولَمة، وتتحوّلُ الطاقةُ من جسرٍ للتعاوُن إلى أداةٍ للابتزاز. واشنطن تستخدمُ العقوبات الاقتصادية لمُعاقبةِ خصومها في إيران وفنزويلا، بينما تضغَطُ على حلفائها لشراء غازها. وبكين تختبِرُ قدرتها على توظيف سلاسل الإمداد كسلاحٍ سياسي. حتى الديموقراطيات الصديقة تنزلقُ نحو قوميّةٍ طاقية: النروج أعلنت نيَّتها عن تقليصِ صادرات الكهرباء إلى أوروبا خوفًا من ارتفاع الأسعار محلّيًا. إنها عدوى عالمية.
النفطُ والغاز ما زالا قابلَين للتسليح. فبعد سنواتٍ من قلّة الاستثمار في الاستكشاف، تتَّجهُ السوق نحو الشحّ، وتعودُ حصة “أوبك” إلى مستويات السبعينيات، ما يمنحُ الدول المنتجة مجددًا نفوذًا سياسيًا واسعًا. في المقابل، تُعيدُ الطاقةُ النظيفة إنتاجَ مُعادَلةِ التبعية بشكلٍ آخر. فالمعادن النادرة، مثل الليثيوم والكوبالت والنيكل، التي تحتاجها البطّاريات والألواح الشمسية تتركّزُ في دولٍ محدودة، وتهيمن عليها وعلى تكريرها الصين. وهكذا، بينما تخلّص العالم من التبعية النفطية، يقع في فخِّ تبعيةٍ معدنيّة جديدة.
إذن، كيفَ يُمكنُ للعالم أن يتجنَّبَ هذه الحلقة المفرغة؟
الجواب يبدأ بالاعتراف بأنَّ السوقَ وحدها لا تكفي. العولمة التي كانت تحمي تدفُّق الطاقة تتفكّك، وعلى الحكومات أن تتدخّلَ لتبني “مناعة طاقية” جديدة. المطلوبُ ليسَ الانعزال، بل التنويع: تنويعُ المُوَرِّدين، وتنويعُ أنواع الطاقة، وتنويعُ طُرُق التوريد. لا بُدَّ من بناءِ احتياطاتٍ استراتيجية للمعادن الحيوية، كما فعل العالم سابقًا مع النفط. ولا بُدَّ من الاستثمار في التصنيع المحلي، في التعدين والتكرير والبنى التحتية الكهربائية.
لكنَّ الحُلمَ الأميركي القديم بالاكتفاء الذاتي الطاقي هو وَهم. حتى الولايات المتحدة، رُغمَ إنتاجها الهائل، تظلُّ جُزءًا من السوق العالمية، تتأثر بأسعارها وتقلباتها. الأمن الطاقي الحقيقي لا يتحقّقُ بإنتاجِ المزيد، بل بالاستهلاكِ الأقل، وبجَعلِ الاقتصادِ أكثر كفاءةً وأقل اعتمادًا على الوقود الأحفوري. كلُّ لوحٍ شمسي يُرَكَّب، وكلُّ توربين رياح يُشَغَّل، هو خطوةٌ نحو تقليصِ قابليةِ الدولة للابتزاز.
ومع ذلك، فإنَّ الطاقةَ النظيفة ليست مناعةً مُطلَقة. يجب أن تُبنى على سلاسل إمدادٍ آمنة ومُتنوِّعة. هنا يأتي دورُ التحالفات الجديدة: شراكاتٌ مع دولٍ غنية بالمعادن في أفريقيا وأميركا اللاتينية، واستثماراتٌ في المصانع المحلية لتكرير الليثيوم والنيكل، وتحصين شبكات الكهرباء ضد الهجمات السيبرانية والاختراقات الأجنبية.
هذا التحوُّل لن يكونَ سهلًا ولا رخيصًا. سيتطلّبُ مليارات من الاستثمارات وشجاعة سياسية في مواجهة الناخبين الذين يخشون ارتفاع الأسعار. لكنه الخيار الوحيد لتفادي مستقبلٍ تُستخدَمُ فيه الطاقة كسلاحٍ دائمٍ ضد المجتمعات الحرة.
الخبرُ السار أنَّ مسارَ الأمن الطاقي يتقاطع اليوم مع مسار حماية المناخ. فالتحوُّلُ نحو الطاقة النظيفة ليس فقط استجابة لأزمةٍ بيئية، بل هو أيضًا مشروعٌ سيادي لحماية استقلال القرار الوطني. من هذه الزاوية، يُمكِنُ أن يجدَ دعاةُ “الهيمنة النفطية” والمحافظون على البيئة أرضية مشتركة: فك الارتباط عن التبعية، سواء كانت لبرميل النفط أو لمصنعٍ صيني.
سلاحُ الطاقة لن يختفي من التاريخ، لكن يُمكِنُ تقويضُ فاعليته. إذا كانت أزمة السبعينيات علّمتنا ضرورة بناء احتياطات نفطية، فعلى أزمات القرن الحادي والعشرين أن تُعلّمنا بناء مناعةٍ في سلاسل الإمداد الخضراء. كلُّ استثمارٍ في شبكة كهرباء أكثر مرونة، وكل مصنع بطاريات جديد، هو خطوة لإبطال مفعول هذا السلاح.
الطاقةُ كانت دائمًا مُرادِفًا للقوة. الدول التي تفهمُ هذه الحقيقة وتتحرّك بسرعة لبناءِ منظوماتٍ طاقية مستقلّة ومتنوِّعة لن تنجو فقط من الأزمات المقبلة، بل ستقودُ العالم نحو عصرٍ جديد من الاستقرار والسيادة. أمّا مَن يصرُّ على الاعتمادِ على الآخرين، فسيجدُ نفسه يومًا ما في العتمة، ينتظرُ ما يقرّره الأقوياء.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani
