البروفِسور بيار الخوري*
بلوغُ الدين العام الأميركي عتبة الـ38 تريليون دولار لم يَعُد مجرّدَ رقمٍ يتصدّرُ نشراتَ الأخبار أو جداولَ وزارة الخزانة، بل تحوَّلَ إلى جرسِ إنذارٍ يدقّ في قلب الاقتصاد العالمي. هذا الرقمُ الهائل غير المسبوق لا يُعبّرُ فقط عن التزاماتٍ مالية متراكمة للدولة، بل يكشفُ عن أزمةٍ هيكلية تتعمّقُ في أكبرِ اقتصادٍ في العالم. فالولاياتُ المتحدة، التي طالما كانت تُقدَّمُ كنموذجٍ للقوة المالية والقدرة على امتصاصِ الصدمات، تجدُ نفسها اليوم أمامَ واقعٍ جديد يضعُ استدامةَ نظامها المالي تحت المجهر، ويثير تساؤلاتٍ جديّة حول مستقبل الاقتصاد العالمي بأسره.
الأثر المالي الأبرز والأكثر إلحاحًا لهذا الجبل من الديون يظهرُ بوضوحٍ في كلفة خدمته الهائلة والمتصاعدة. فمع استمرار أسعار الفائدة عند مستوياتٍ مرتفعة نسبيًا، تتجه الولايات المتحدة نحو دفع فاتورة فائدة سنوية قد تتجاوز التريليون دولار قريبًا، وربما تقفز إلى نحو 1.5 تريليون في غضون سنوات قليلة. هذا المبلغ الضخم ليس مجرد رقمٍ على ورقة، بل في الواقع سيتحوّل إلى أكبر بندِ إنفاقٍ في الميزانية الفيدرالية، مُتجاوزًا الإنفاق على قطاعاتٍ حيوية كالتعليم والبنية التحتية والبرامج الاجتماعية، مما يُشكّلُ تقليصًا فعليًا للمساحة المالية المُتاحة للحكومة للاستثمار في النموِّ المستقبلي أو الاستجابة لأيِّ أزمةٍ اقتصادية غير مُتَوَقَّعة. إنها حلقة مفرغة، يتغذّى فيها الدين من ذاته، ويكاد يحاصر قدرة واشنطن على رسم طريقٍ مستدام لنموّها الاقتصادي.
بالنظر إلى الإطارِ الاقتصادي الأوسع، يُهدّدُ هذا الدين بتفاقُمِ نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي (Debt-to-GDP Ratio) إلى مستوياتٍ تاريخية تتجاوز 120%، مما يُثيرُ تساؤلاتٍ جدّية حول استدامةِ الوضع المالي في المدى الطويل. يتطلّبُ تمويلُ هذا الحجم من الدين طرحَ المزيد من السندات الحكومية في الأسواق، وهو ما يخلقُ ضغطًا تصاعُديًا على أسعار الفائدة طويلة الأجل. وهذا الارتفاعُ في تكلفةِ الاقتراضِ لا يَقتصرُ تأثيره على الخزانة الأميركية فحسب، بل ينسحبُ ليؤثّر على تكلفة الاقتراض للشركات والأفراد عبر ظاهرة “تزاحُم الاستثمار الخاص” (Crowding out effect). عندما تصبح القروض العقارية وتمويل الشركات أكثر تكلفة، يتباطأ الاستثمار الخاص ويضعفُ نموُّ الإنتاجية، مما يُقوِّضُ إمكانات النموِّ الاقتصادي المستقبلي.
إنَّ دينًا بهذا الحجم يُمثّلُ أيضًا مصدرًا للشك وعدم اليقين في الأسواق العالمية. المستثمرون والمُقرِضون الدوليون يراقبون عن كثب هذه الأرقام، وفي حالِ شعورهم بتآكل الثقة في القدرة المالية للحكومة على إدارة التزاماتها، فإنَّ ذلك قد يؤدّي إلى عواقب وخيمة تشملُ خفضَ التصنيف الائتماني، كما حدث سابقًا، وزيادة تقلّبات أسواق السندات. كما إنَّ الاعتمادَ المُستمر على الاقتراض يُحَوِّلُ جُزءًا كبيرًا من الموارد الوطنية لخدمة الدائنين بدلًا من توجيهها نحو الاستثماراتِ المُنتِجة، مما يُقلّلُ بشكلٍ منهجي من مستوى المعيشة في المدى الطويل.
هذا المسارُ الاقتصادي يضعُ عِبئًا لا مفرَّ منه على الأجيال المقبلة. فالدينُ المُتراكِمُ اليوم هو التزامٌ غير مباشر سيُسَدَّدُ غدًا إما عبر رفع الضرائب على الأفراد والشركات، أو عبر خفضِ مستويات الخدمات الحكومية الأساسية. هذه الموازنة الصعبة بين التزامات الماضي وحاجات المستقبل تُهدّدُ بخلقِ جيلٍ يواجه تحدّياتٍ اقتصادية هيكلية أشدّ تعقيدًا.
قد نشهد خلال السنوات المقبلة تحوُّلًا بطيئًا ومؤلمًا نحو زيادة الضرائب بشكلٍ تدريجي وتقليص المزايا الاجتماعية، في محاولةٍ (معروفة النتائج) لاستعادة بعض التوازن المالي. لكنَّ الفشلَ في معالجةِ هذا الخلل الهيكلي بشكلٍ حاسمٍ سيقود، على الأرجح، إلى فترةٍ مُطَوَّلة من النموِّ الاقتصادي البطيء وتزايُد عدم المساواة، مع تآكلٍ تدريجي للدور القيادي للدولار الأميركي كعملة احتياطي عالمية في حالِ استمرارِ ضعف الانضباط المالي. لا يُمكنُ للدولة أن تظلَّ قوةً عظمى في المدى الطويل وهي تعيشُ على الاقتراض المستمر بهذه المعدلات الهائلة.
- البروفِسور بيار الخوري هو أكاديمي لبناني وكاتب في الإقتصاد السياسي. وهو عميد كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية للتكنولوجيا. يُمكن التواصل معه على بريده الإلكتروني: info@pierrekhoury.com
