حُروبُ إسرائيل وآفاقُها

الدكتور ناصيف حتي*

تبدو الحروب الإسرائيلية المُستَمرّة والمُمتَدّة من غزة إلى جنوب لبنان، مرورًا بالضفة الغربية التي تعيشُ على إيقاعِ عُنفٍ مُنخَفِضِ الوتيرة تقوده اعتداءاتُ المستوطنين، غارقةً في مشهدٍ من التعثُّرِ والضبابية. فمحاولاتُ وقف هذه المواجهات، لا إنهائها بالضرورة، تبدو حتى الآن مسارًا مُتقطِّعًا ومُربكًا، يَعكِسُ حَجمَ التعقيد المُتَحَكِّم في مسارِ الصراعِ على مُختلف الجبهات.

ويبدو أيضًا أنَّ التعثّرَ هو التعبيرُ الأدَقّ لوَصفِ انطلاقِ المرحلة الثانية من خطة دونالد ترامب الهادفة إلى وَضعِ حَدٍّ للحرب في غزة. فجوهر الخلاف يتمحور حول طبيعة المهام المُوكَلة إلى قوة الاستقرار الدولية الموقتة: هل ستكونُ مُهمِّتُها حفظَ الاستقرار، كما يُفتَرَض، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع، أم أنَّ المطلوبَ —كما تدفع إسرائيل— هو نزعُ سلاح “حماس” و”تنظيف” القطاع أمنيًا وفق شروط الدولة العبرية الخاصة؟

هذا الطرحُ الأخير ترفضُهُ بشكلٍ واضحٍ الدول العربية والإسلامية المُرَشّحة للمشاركة في قوة الاستقرار، مُؤكّدةً أنَّ مهامَها يجب أن تقتصرَ على حفظ الأمن لا تنفيذ الإملاءات الإسرائيلية. وفي موازاةِ ذلك، تدفعُ إسرائيل عمليًا نحو إقامةِ “خطٍّ أصفر” يُقسِّمُ القطاع إلى منطقةٍ شرقية تخضعُ لسيطرةِ جيشها، وأخرى غربية خارجة عن هذا النطاق، في محاولةٍ لترسيخِ واقعٍ ميداني جديد يُكرِّسُ هذا الفصل على الأرض. وهو ما يعني عمليًا السعي إلى خلقِ وتثبيتِ واقعٍ جديد يقوم على إبقاءِ جُزءٍ من القطاع تحتَ الاحتلال الإسرائيلي، ودفع السكان إلى الانتقال نحوه بفعل العمليات العسكرية، على أن تُوَجَّهَ المساعدات الإنسانية إلى هذه المنطقة التي تفرضُ إسرائيل سيطرتها عليها. وبذلك يُصبحُ المشهدُ أقربَ إلى انسحابٍ جُزئي يُعيدُ تقسيمَ القطاع، مع تعزيز هذا الوضع عبر تحويل المنطقة المُصَنَّفة “مُستقرّة” إلى مركزِ تدفّقِ للمساعدات، فيما تبقى المنطقة الواقعة غرب “الخط الأصفر” عالقةً في دائرة حربِ استنزافٍ مفتوحة.

ويبدو أن كلامَ الرئيس الأميركي عن الانتقال من النقطة 15 في مبادرته لوقف الآخر في غزة إلى النقطة 17 يندرجُ عمليًا في هذه المقاربة. الأمرُ الذي يعني تنفيذًا مُنفردًا أو أحاديًا لخطة السلام، إذا ما رفضت “حماس” الشروط المطروحة أو عرقلت تنفيذها، وهي شروطٌ تعجيزية، وبالتالي تأمين المساعدات للمناطق “الآمنة”، التي يُفتَرَضُ أن يسلّمها الجيش الإسرائيلي إلى قوة الاستقرار الدولية. وهذا يعني عمليًا على أرض التواقيع تقسيمَ غزة بين منطقة “عدم استقرار” ومنطقة “مستقرة” تحت سيطرة عسكرية إسرائيلية، أي منطقة مُحتَلّة.

إنَّ إسرائيل تودُّ تكريسَ احتلالِ جُزءٍ من غزة لإحداث الترتيبات الأمنية التي تراها ضرورية بشروطها، ولتكون منطقة عازلة مغ غرب “الخط الاصفر”، كما قسّمت غزة على أرض الواقع وكما تعمل على تكريس هذا الوضع. وقد تصلُ السيطرة الإسرائيلية إلى حوالي 60 في المئة من القطاع، وذلك ضمنَ إطارٍ زمنيٍّ مفتوح، مع تداعياتِ هذا الأمر على أيِّ مسارٍ سيُطلقُ نحو حلِّ الدولتين والذي يزداد صعوبةً، والبعضُ يرى استحالة، في ظلِّ السياسة الإسرائيلية الراهنة وعدم ردعها ووقفها. خلاصةُ الأمر، تعمل إسرائيل على إحداثِ تغيُّرٍ ديموغرافي يطالُ جغرافية القطاع من أجلِ تعزيزِ سيطرتها المباشرة وغير المباشرة عليه.

وفي الضفة الغربية، يتصاعد ما يبدو أنه عنفٌ “مُمَنهَج” و”مدروس” يمارسه المستوطنون بهدف إحداث تغيير ديموغرافي وجغرافي متدرّج يُعيدُ تشكيل الواقع الفلسطيني هناك، تمهيدًا لتكريس السيطرة الكاملة على الضفة باعتبارها الهدف الاستراتيجي والعقائدي الأبرز للقوى الحاكمة في إسرائيل اليوم. ولا حاجة للتذكير بما يحمله هذا المسار من تداعياتٍ خطيرة على دول الجوار، وفي مقدّمها الأردن.

خلاصةُ القول إنّ مسار الضمّ التدريجي يتسارع ميدانيًا، فيما يُرجأ الإعلان الرسمي عنه باعتباره خطوة لا تضيف الكثير في ظل كونه أصلًا خرقًا واضحًا لقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. أما الهدف الفعلي لإسرائيل، فهو ترسيخ واقع جديد على الأرض وإلزام كلّ “الآخرين”، أيًّا كانوا،  بالتعامل معه لاحقًا كأمر واقع وحقيقة قائمة.

وعلى الساحة اللبنانية، ما تزال إسرائيل تتجاهلُ اتفاقَ وقف الأعمال العدائية الذي جرى التوصُّلُ إليه في 26 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي ودخل حيّز التنفيذ في اليوم التالي. فقد واصلت عملياتها تحت شعار “الاستهداف الاستراتيجي”، مُترافِقةً مع احتلال خمس نقاط تعتبرها تلالًا ذات أهمية عسكرية في إطار توسّعها الجغرافي. وهكذا يستمرُّ النهجُ القائم على صناعةِ واقعٍ ميداني جديد وفرضه كمعطى دائم على الأرض.

من ناحية أخرى، بلورت إسرائيل أخيرًا نظريةً استراتيجية جديدة تقومُ على مفهوم “السيادة الأمنية” تعملُ على تطبيقها من غزة إلى لبنان وسوريا، إذ تؤكّد على تصميمها على إقامةِ منطقةٍ منزوعة السلاح من جنوب دمشق حتى جبل الشيخ.

في المحصّلة، يبدو العام الحالي وكأنّه ينتهي على تكريسٍ واضحٍ لسياسة القوة الإسرائيلية بهدف فرضِ واقعٍ جديد على الأرض، وسط غياب دولي لافت عن أي محاولة جدّية لكبح هذا المسار. وهو ما ينذر بمزيد من التوتر، في ظل انسداد كامل للآفاق الواقعية والشرعية للتسوية، رغم وضوح عناصرها وتكرار التأكيد عليها من دون توظيف الإمكانات الأكثر من ضرورية واستثمار الحدّ الأدنى من الأدوات اللازمة لفرض احترامها على إسرائيل.

إنه انسدادٌ يتغذّى من نفسه، وتوتّرات تتراكم على مختلف الجبهات، ليُصبِح قابلًا للتوظيف والاستثمار في زيادةِ منسوبِ التوتُّر والصراعات المختلفة بمسبباتها ومضامينها في المنطقة ولو حملت الشعارات ذاتها.

Exit mobile version