تَشهَدُ العُملاتُ المُستَقِرّة تحوُّلًا مُتسارِعًا من ابتكارٍ هامشي إلى عنصرٍ مُرَشَّحٍ لاحتلالِ مَوقِعٍ محوري في النظام المالي. وبين الضغوطِ التنظيمية وتطوُّرِ البُنية الرقمية، يقتربُ العالمُ من إعادة صياغة العلاقة بين المال العام والخاص في عصر اللامركزية.
لوكريزيا ريتشلين*
نشأت سوق اليورو-دولار، التي تضمُّ ودائعَ مُقَوَّمة بالدولار محفوظةً خارج الولايات المتحدة، في أواخر خمسينيات القرن الفائت استجابةً لتنامي الحاجة العالمية إلى السيولة الدولارية، وفي الوقت نفسه للتحايُلِ على القيودِ والتكاليف التنظيمية المُرتَبِطة بالتعامُلات والوساطة المالية المُقَوَّمة بالدولار داخل أميركا. ورُغمَ أنَّ هذه السوق أثارت في بداياتها قدرًا من الشكِّ والقلق، خصوصًا لدى السلطات الأميركية، فإنها سرعان ما أصبحت جُزءًا لا يتجزَّأ من البنية النقدية العالمية. ومع مرور الوقت، اضطلعت واشنطن بدورٍ رقابي محدود عليها، لتتحوَّل السوق تدريجًا إلى ركيزةٍ أساسية في منظومة التمويل الدولي المعاصر.
وتَكَرَّرَ هذا النمط في محطّاتٍ عدة من التاريخ المالي. فقبيل أزمة 2008 المالية، أنشأت كياناتُ “بنوك الظل” –من بنوك الاستثمار إلى أدوات الاستثمار المُهَيكَلة وصناديق سوق النقد– التزاماتٍ مالية شبيهة بالنقود لكنها خارج نطاق ضمان الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. وعندما تراجعت الثقة واشتدّت الضغوط، تلاشت السيولة وتبخّرت سريعًا، ما أدّى إلى انكماشِ الائتمان وتجميده وبَيعِ الأصول والأسهم بأسعارٍ مُتَدَنّية وحدوثِ حالات إفلاسٍ واسعة. ولتفادي الانهيار، اضطرّت مؤسّساتٌ مالية كبرى، مثل غولدمان ساكس ومورغان ستانلي، إلى التحوُّلِ إلى شركاتٍ قابضة مصرفية، الأمر الذي أتاحَ لها الوصول مباشرة إلى سيولة البنك المركزي الأميركي والاستفادة من مظلة التأمين على الودائع.
غالبًا ما تنشأ الابتكارات المالية عند أطرافِ النظام وهامشه، بعيدًا من أعين الجهات الرقابية. لكن إذا ما اكتسبت وزنًا نظاميًا مؤثّرًا، فإنَّ مسارها ينتهي عادةً داخل النواة المُنَظِّمة للقطاع المالي. وبمجرّد أن تبدأ مؤسّساتٌ خاصة بإصدار صكوك تُشبه النقود وبحجمٍ واسع، تجد نفسها عاجلًا أم آجلًا في حاجةٍ إلى دعم البنك المركزي، سواء طوعًا أو تحت ضغط الضرورة.
ومن المرجح أن تسلك العملات المستقرة –وهي رموز رقمية يُصدرها القطاع الخاص ومدعومة بأصولٍ خارجية– الطريق نفسه. غير أنَّ الذي ما يزال غير محسوم هو الشكل الدقيق لدمجها في المنظومة النقدية: مَن سيتولى هذه المهمّة، وتحت أيِّ ترتيباتٍ مؤسّسية ستتمُّ العملية.
وسيُحدِّد الإطارُ التنظيمي مآلَ هذا الدمج إلى حدٍّ كبير، ولا سيما أيٌّ من المقاربتَين الأميركية أو الأوروبية ستسود. صحيحٌ أنَّ السلطات في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تبنّت حتى الآن نموذجًا يقوم على معاملة مُصدّري العملات المستقرّة كوسطاء دَفع لا كمؤسّسات تقبل الودائع، لكن أوجه التشابه تقف عند هذا الحد.
فالمنظّمون الأميركيون يرون أن مُصدّري العملات المُستقرّة ذات الأهمية النظامية ينبغي أن يعملوا كمؤسّسات إيداع مؤمّنة أو يخضعوا لإشرافٍ احترازي مُوازٍ. ولا يعني ذلك أن تتحوَّلَ هذه الكيانات إلى بنوك بالضرورة، لكنها مُطالَبة باتباع معايير مُماثلة، تشملُ قواعدَ سيولةٍ مَتينة ومُتَطلِّبات رأس مال كافية. وفي هذا السياق، أيّدت شركة “سيركل” (Circle) –المصدِّرة لعملتَي “USDC” و”EURC” –الرقميتَين المُستَقِرَّتَين هذا التوجُّه علنًا، داعيةً إلى تعزيز الرقابة وربما اعتماد نماذج مصرفية ضيّقة تمنحُ المُصدّرين في مرحلةٍ لاحقة قدرةً محدودة على الاحتفاظ باحتياطيات لدى الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.
على الجانب الآخر، يُقدّمُ تشريعُ الاتحاد الأوروبي المعروف بقانون أسواق الأصول المُشَفّرة (MiCA) إطارًا تنظيميًا ذا مسارَين واضحَين. إذ يتيحُ للمُصدّرين غير المصرفيين العملَ كمؤسّسات نقودٍ إلكترونية، بشرط الاحتفاظ باحتياطيات تكفل دعمًا كاملًا للعملات المستقرة بنظام 1:1، وضمان قدرة حاملي الرموز على استرداد قيمتها الاسمية، إضافةً إلى الفصل الصارم بين أصول العملاء وأصول المؤسّسة. ولا يُسمَحُ لهذه الكيانات بممارسة الإقراض أو إجراء تحويل آجال الاستحقاق، ما يعني أنها غير مخوّلة بخلق الائتمان.
أما البنوك، باعتبارها مؤسسات ائتمان مُرَخَّصة، فيمكنها إصدار عملات مستقرّة مُباشرةً بموجب تراخيصها المصرفية الحالية، مع الالتزام بالمُتطلِّبات الاحترازية ذاتها المطبّقة على التزاماتها الأخرى. ويُعَدُّ نموذج شركة “فورج” التابعة لمصرف “سوسيتيه جنرال” مثالًا على ذلك، إذ تصدر عملة يورو رقمية قابلة للتحويل استنادًا إلى ترخيص مصرفي كامل. كما يختبر بنكا “سانتاندير” و”بي بي في إي” (BBVA) نماذج للودائع المُرَمَّزة، حيث تُصوَّر ودائع العملاء على شبكات بلوكتشاين مُرَخّصة، مع بقائها مُدرَجة ضمن ميزانيات البنوك. وباختصار، تمنحُ القواعد الأوروبية البنوك القدرة على إصدار ودائع أو عملات مستقرة مقوَّمة باليورو، مدمجة بالكامل في ميزانياتها وتحت إشراف الجهات التنظيمية نفسها التي تراقب نشاطها التقليدي.
ويمتازُ النموذج الأوروبي بوضوحٍ مُؤسَّسي لافت؛ فمن خلال محاكاة الهيكل النقدي ثُنائي المستويات –حيث يوفر البنك المركزي الأوروبي احتياطيات للبنوك، فيما تتيح هذه الأخيرة النقود للجمهور– يُحافظ الإطار على التسلسل الهرمي بين النقود العامة والخاصة. غير أنَّ هذا الوضوح قد يأتي على حسابِ الابتكار؛ فالمؤسّسات المالية الراسخة تُعاني غالبًا بطئًا تقنيًا، كما إنَّ دمج أنظمة بلوكتشاين ضمن البنية المصرفية التقليدية ليس مهمة بسيطة.
في المقابل، يُعاني النموذج الأميركي من إشكالاتٍ خاصة به، تعودُ جذورها إلى الفصل المؤسّسي بين الإقراض والودائع. فإذا احتفظَ مُصدّرو العملات المستقرّة من غير البنوك –الذين لا يمارسون الإقراض– باحتياطياتهم في سندات الخزانة أو لدى بنوك الحفظ، قد تجد البنوك التجارية –وهي المصدر الرئيس للائتمان– أنَّ هذا الترتيب يُقلّصُ من وصولها إلى ودائع يمكن توظيفها في نشاط الإقراض.
علاوةً على ذلك، ومع نضج الأسواق واتساع نطاق استخدامها، سيغدو الحدُّ الفاصل بين العملات المُستقرّة والودائع التقليدية أكثر ضبابية. فإذا دخل مُصدّرو العملات المستقرّة والبنوك في منافسةٍ مباشرة على شرائح العملاء ذاتها –سواء من الأفراد أو المؤسسات– ستتعاظم الضغوط على الجهات التنظيمية لفرض الإطار الرقابي ذاته على الطرفَين. في المقابل، قد يسعى بعض كبار مُصدّري العملات المستقرة إلى الابتعاد عن هذا الاتجاه، طمعًا في مساحةٍ أوسع لاستثمار الاحتياطيات، أو ممارسة الإقراض، أو حتى الحصول على وصولٍ مباشر إلى حسابات البنوك المركزية. وقد تفضي هذه القوى المتعارضة، مع الوقت، إلى ظهور فئة هجينة جديدة: بنوك رقمية ذات احتياطي كامل أو ما يُعرف بالبنوك الضيِّقة.
ويُعلّمنا التاريخ المالي درسًا ثابتًا مهمًّا: كلما أدّت الالتزامات المالية دور النقود، يظلُّ خطرُ التهافت على السحب قائمًا. وتنظيم مُصدّري العملات المستقرة بوصفهم أوصياء لا يُلغي هذا الخطر، رُغمَ مساهمته في تقليص المخاطر التشغيلية. أما في البنوك التقليدية، فيُخفّف تأمين الودائع ودور البنك المركزي كمُقرِضِ الملاذ الأخير من حدّة هذه الهشاشة. وإذا باتت العملات المستقرّة ركنًا مهمًّا في النظام المالي، فقد تجد البنوك المركزية نفسها مضطرة لتوفير حماية مماثلة، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاءٍ خاضعين للتنظيم.
وينسجم كلٌّ من قانون الأصول المشفّرة الأوروبي (MiCA) ونظام “جينيوس” (GENIUS) الأميركي مع هذا المنطق؛ فعلى الرُغم من اختلاف ترتيباتهما المؤسسية، يتقاطع كلاهما في السعي إلى إخضاعِ مُصدّري العملات المستقرّة ذوي الأهمية النظامية لنوعٍ من الإشراف الاحترازي والتشغيلي يُعادِلُ ما يُطبَّق على البنوك. ورُغمَ أنَّ أيًا منهما لا يفرضُ تحوّلَ هذه الجهات رسميًا إلى مؤسّساتٍ مصرفية، فإنَّ التوجُّهَ التنظيمي العام يميلُ إلى تحقيق تكافؤٍ وظيفي في المتطلّبات الاحترازية والإشرافية.
من المرجّح، إذًا، أن تُفضي المقاربتان الأميركية والأوروبية في نهاية المطاف إلى النتيجة نفسها: إدماجُ العملات المُستقرّة في صلب النظام المالي، عبر منحها صفة قانونية أو شبه مصرفية، وإخضاعها لإشرافٍ دقيق، وربطها على نحوٍ أوثق بالبنوك المركزية. وفي هذا السياق، يُمكِنُ النظرُ إلى نموذج “سيركل” –كيانٌ غير مصرفي يعمل تحت مظلّة رقابية احترازية– بوصفه خطوةً تمهيدية في هذا المسار المُتدرّج نحو قلب المنظومة المالية.
وإذا كان شيوعُ العملات الرقمية قد صُوِّرَ طويلًا باعتباره إيذانًا بانهيار النقود التقليدية والنظام المصرفي معها، فإنَّ ما يبدو أقرب إلى الواقع خلال العقد المقبل هو نسخة رقمية متجدّدة من القطاع المصرفي نفسه. ستتداول عملات مستقرّة مُخَصَّصة للمدفوعات بالتجزئة على سلاسل كتل عامة مثل “إيثريوم”، لكنها ستظلُّ مدعومةً بالكامل باحتياطيات مُودَعة لدى جهةٍ مُرتبطة بالبنك المركزي. قد تكون البنية التقنية جديدة، لكنَّ الأساسَ الذي ترتكزُ عليه سيظلُّ هو ذاته: مصداقية البنك المركزي. فالدعامة الأخيرة للنقود الخاصة كانت، وستبقى دائمًا، تلك الثقة العامة المُتجَسِّدة في الميزانية العمومية للبنك المركزي.
- لوكريزيا ريتشلين هي مديرة أبحاث سابقة في البنك المركزي الأوروبي، وهي الآن أستاذة اقتصاد في “كلية لندن للأعمال” (London Business School).
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
