شَراكَةٌ غير مُتكافِئة: كَيفَ أصبحت روسيا مَلاذَ إيران الأخير

في ظلِّ عزلةٍ دولية مُتفاقِمة وتصعيدٍ عسكري مُحتَمَل، تتعمّقُ علاقةُ طهران بموسكو بوتيرةٍ غير مسبوقة. لكن بينما ترى إيران في روسيا شريكًا لا بديلَ عنه، تتعامل موسكو معها كورقةٍ نافعة… لا أكثر.

طائرة سو- 35: ستكون أساس القوة الجوية الإيرانية الجديدة.

نيكيتا سماجين*

بعدَ امتناعِ موسكو عن التدخُّل حين استُهدِفت إيران بغاراتٍ إسرائيلية وأميركية في حزيران (يونيو) الفائت، سادَ الاعتقادُ بأنَّ العلاقات الروسية–الإيرانية ستعود إلى مرحلةِ الفتور التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022. غير أنّ التطوُّرات جاءت بعَكسِ التوقُّعات؛ إذ دفعت حرب الاثني عشر يومًا بطهران إلى مزيدٍ من الارتماء في الحضن الروسي، وأسفرت عن توقيع اتفاقيات تعاوُنٍ جديدة، من بينها ترتيبات تتَّصِلُ بالقطاع النووي.

وفي هذا السياق، يبدو أنَّ ميزان العلاقة يَميلُ مُجَدّدًا لمصلحة موسكو. فإيران باتت بالنسبة إلى الكرملين خيارًا واحدًا ضمن مجموعةِ مساراتٍ يسعى من خلالها إلى تعزيز مشاريعه الإقليمية والدولية. أما طهران، فقد تحوّلت إلى طرفٍ يعتمدُ على روسيا بشكلٍ شبه كامل، وهو ما يمنح موسكو مساحةً أوسع لمُمارسةِ الانتقائية وفَرضِ شروط ٍأكثر حزمًا في مسار الشراكة بين البلدين.

لم تمنع خيبةُ أملِ طهران الواضحة من محدودية الدعم الروسي خلال حربها التي استمرّت اثني عشر يومًا مع الولايات المتحدة وإسرائيل من المضي قُدُمًا في توسيع التعاون مع موسكو، وفي مقدمته صفقاتُ التسلّح. فالتسريباتُ المنسوبة إلى وثائق “روستك” (Rostec) المُختَرَقة تُشيرُ إلى خططٍ روسية لتزويد إيران بـ48 مقاتلة من طراز “سو–35”. كما بدأت طائرات النقل العسكري الروسية تُنفِّذُ رحلاتٍ مُنتَظمة إلى إيران انطلاقًا من إيركوتسك، حيث يقع مصنع الطائرات المعني، في مؤشّرٍ إلى احتمالِ وجودِ ترتيباتٍ أخرى قيد التفاوض، من بينها مقترحات لتسليم مقاتلات “سو–30MK”.

وقد حَرصَ الكرملين على التأكيد أنَّ موسكو ستلتزمُ بتعهُّداتها التعاقُدية تجاه إيران، رُغمَ القيود التي فرضتها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أخيرًا على طهران في إطار “آلية الزناد” (snapback) المنصوص عليها في اتفاق 2015 النووي. وإذا كانت هناك عوامل قد تُقيِّدُ قدرة روسيا على التنفيذ، فهي الحرب المستمرّة في أوكرانيا والضغط الكبير على طاقتها الإنتاجية العسكرية.

وللبلدين أيضًا طموحاتٌ نووية واسعة. ففيما أعلنت طهران بدايةً أنَّ روسيا –التي سبق أن بنت محطة بوشهر– ستتولّى تشييدَ خمس محطّاتٍ نووية جديدة، سرعان ما رفعت العدد إلى ثماني محطات. أما موسكو، فكانت أكثر تحفّظًا في تصريحاتها، ما يجعل مدى التزامها الفعلي بهذه الوعود غير واضح حتى الآن. ومع ذلك، تُقرُّ روسيا بأنها وقّعت عقدًا تبلغ قيمته 25 مليار دولار لبناءِ محطة هرمز للطاقة النووية، فيما يعمل الطرفان بالتوازي على تطوير تصاميم لمحطّاتٍ أصغر حجمًا.

شهدت العلاقات الروسية–الإيرانية تقدّمًا على جبهاتٍ أُخرى أيضًا. فقد تعهّدت طهران بتخصيص أرضٍ قبل آذار (مارس) لإطلاق مشروع خط سكة حديد رشت–أستارا، وهو الحلقة المفقودة الأهم في ممرِّ النقل الدولي بين الشمال والجنوب الذي يربط روسيا بموانئ المحيط الهندي. كما تستعدُّ إيران لبدء استيراد الغاز الروسي عبر أذربيجان خلال الأشهر المقبلة. وإلى جانب ذلك، أفاد ممثلو شركات روسية كبرى في لقاءاتٍ خاصة بأنهم يَتَهَيَّؤون لدخول السوق الإيرانية، مُلمّحين إلى حصولهم على “امتيازاتٍ خاصة” من الحكومة المحلية.

في ضوء ذلك، يتعاظَمُ اعتمادُ طهران على الشراكة مع موسكو يومًا بعد يوم. ولم تُضعِف حربُ الأيام الاثني عشر ثقتها في روسيا بقدر ما عزّزت قناعتها بأنَّ البدائل المُتاحة محدودة، وأنَّ أفضلَ شركائها الاستراتيجيين يظلّان موسكو وبكين.

على أرض الواقع، ازدادت العوامل التي تدفع إيران نحو روسيا في الأشهر الأخيرة، وفي مقدّمها العزلة الدولية وهواجس التصعيد العسكري. فالعقوبات التي أعادت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي فَرضَها وفق “آلية الزناد” ليست بالقدر نفسه من القسوة مُقارنةً بعودة العقوبات الأميركية في العام 2018، لكنها مُرَشَّحة لزيادة نفور ما تبقّى من الشركاء الأوروبيين. ومع أنَّ حجمَ التجارة مع الاتحاد الأوروبي بلغ نحو 4.5 مليارات دولار في السنوات الماضية –أي أقل من 4% من تجارة إيران الخارجية– فإنَّ الخيارات المُتاحة لطهران للتعاون الاقتصادي باتت شديدة الضيق، ما يجعل القيود الجديدة ذات تبعاتٍ مؤلمة وربما خطيرة. ومن هنا يأتي الرهان على تعزيز العلاقات مع روسيا لتعويضِ جُزءٍ من هذه الخسائر، ولو بشكلٍ جُزئي.

تَغرَقُ إيران اليوم في أزمةٍ اقتصادية هيكلية آخذة في التعقُّد، تفاقمت بفعلِ تداخُلِ العقوبات الغربية، والسياسات الاجتماعية غير الفعّالة، وتداعيات تَغَيُّر المناخ، والارتدادات الاقتصادية للحرب الأخيرة. وفي ظلِّ هذا الواقع، تبدو البلاد في حاجةٍ ماسّة إلى استثماراتٍ خارجية، فيما تبقى روسيا أحد المصادر القليلة المُتاحة أمامها.

ورُغمَ أنَّ حجمَ الاستثمارات الروسية لا يزالُ محدودًا –يتراوح بين 3 و4 مليارات دولار سنويًا في الأعوام الماضية– فإنه يسلكُ منحنًى تصاعُديًا. وقد تُسهِمُ المشاريع الجديدة التي تتباحثُ فيها موسكو وطهران في تسريعِ وتيرة هذا النمو خلال الفترة المقبلة.

لكنَّ التحدّي الأكثر إلحاحًا بالنسبة إلى إيران يكمنُ في الحدِّ من خطر الضربات الإسرائيلية والأميركية المُحتَملة. فقد كشفت حربُ الأيام الاثني عشر هشاشةَ القدرات الدفاعية لطهران أمام الضربات الجوية، كما إنَّ الهجمات التي وقعت في حزيران (يونيو) لم تُلحق ضررًا كاملًا ببرنامجها النووي أو بقدراتها الصاروخية، ما يُبقي احتمال التصعيد قائمًا على نحوٍ كبير.

وفي هذا السياق، يكتسبُ الدورُ الروسي أهمية تتجاوز مجرّد تزويد إيران بالسلاح – وهو مسارٌ لن تَظهَرَ نتائجه الفعلية إلّا بعد سنوات. فخلال حرب الأيام الاثني عشر، تجنّبت إسرائيل استهدافَ مواقع روسية، وهو ما يمنح موسكو وزنًا ردعيًا قد يُشكّلُ، في حال تكرار المواجهة، طبقة إضافية من الحماية لإيران.

لا يَقتَصِرُ الأمرُ على محطات الطاقة النووية التي قد تتولّى روسيا بناءها في إيران؛ فمن غير المرجح أن تُقدِمَ إسرائيل على استهدافِ محطّة سيريك الحرارية، أو المنشآت التي تستعين فيها طهران بالشركات الروسية العاملة في النفط والغاز، أو حتى مواقع إنشاء خطوط السكك الحديدية التي يُشرِفُ عليها مقاولون روس. وبمعنى آخر، كلما ازداد حضورُ الشركات الأجنبية على الأراضي الإيرانية، اتسعت فعليًا رقعة “المناطق المحظور ضربها” بالنسبة إلى إسرائيل.

وفي سياقٍ مُتَّصل، ومع اقتراب الاتفاق النووي من الانهيار الكامل، قلّصَت طهران بدرجةٍ كبيرة وجود المراقبين الدوليين في منشآتها النووية، وهي اليوم على وشك أن ترفضَ عمليات التفتيش تمامًا أو أن تحصرها في إجراءاتٍ شكلية لا أكثر. وهذا التطوُّر يجعل من روسيا، عمليًا، القوة الكبرى الوحيدة القادرة على تقديمِ ضماناتٍ بشأن الطابع غير العسكري للبرنامج النووي الإيراني.

ومع أنَّ اهتمامَ إيران بتوسيع التعاون مع موسكو يزدادُ وضوحًا، فإنَّ حاجةَ الكرملين إليها باتت موضع شك. فقد خسرت طهران موقعها كشريكٍ عسكريٍّ حاسمٍ لروسيا، وهو الدور الذي لعبته خلال الأشهر الأولى من الحرب في أوكرانيا. فاليوم تُنتجُ موسكو طائرات مسيّرة مُستندة إلى التصميم الإيراني ولكن بإصدارٍ مُحَدَّث يفوق النسخة الأصلية أداءً، وتعتمد مكوّناته بدرجةٍ كبيرة على الصناعة الروسية، وبشكل أقل على المكوّنات الصينية.

لا تُعدُّ إيران شريكًا اقتصاديًا محوريًا لروسيا، حتى عند مقارنتها بدول أخرى في الشرق الأوسط. فبرُغمِ كثرةِ المبادرات المُشتركة، يبقى حجم التبادل التجاري بين البلدين عند حدود 5 مليارات دولار فقط، مقابل أكثر من 50 مليار دولار مع تركيا في العام 2024، وما يزيد على 11 مليار دولار مع دولة الإمارات، وأكثر من 9 مليارات مع مصر.

صحيحٌ أنَّ جُزءًا من التجارة الروسية-الإيرانية يمرُّ عبر تركيا والإمارات ويُحتَسَبُ ضمنَ أرقامهما التجارية، إلّا أنَّ ذلك يصبُّ في مصلحة أنقرة وأبوظبي، اللتين تُمثّلان بوابة عبور رئيسة لروسيا نحو الأسواق العالمية، وهو دورٌ لا تستطيعُ طهران القيامَ به وهي ترزحُ تحت وطأة العقوبات.

يُضافُ إلى ذلك أنَّ احتمالاتَ التصعيد العسكري الذي قد تنخرِطُ فيه إيران يُقلّلُ من جاذبيتها كشريكٍ اقتصادي. فمهما بدت المشاريع الروسية هناك واعدة، لا يُمكِنُ تجاهلُ مخاطرَ الضربات الإسرائيلية المحتملة، وما قد تُحدِثهُ من اضطرابٍ في بيئة العمل والاستثمار.

ومع ذلك، لا يعني هذا أنَّ موسكو غير مُهتَمّة بتوسيع علاقاتها مع طهران؛ فروسيا تبحثُ عن أيِّ مَنفَذٍ يُخفّفُ من عزلتها الغربية، ولا تزالُ إيران جُزءًا من هذه الحسابات. غير أنّ ميزان الشراكة يميلُ أكثر فأكثر لمصلحة موسكو: فبالنسبة إلى طهران، باتت روسيا شريكًا حيويًا لا يُمكنُ الاستغناء عنه، بينما تنظرُ موسكو إلى إيران كواحدة من الأوراق المهمة، لكنها ليست بالتأكيد على رأس أولوياتها.

Exit mobile version