
هنري زغيب*
مع تقدُّم التكنولوجيا الإِلكترونية، وتَوَفُّر الوسائل والوسائط والمنصَّات المتطوِّرة لتسهيل لقراءة (شاشة الهاتف الخلوي، شاشة اللوح الذكي، شاشة كومبيوتر المكتب، …)، لا يزال الكتاب الورقي يجذُب قرَّاءه من دون أَيِّ شعورٍ بالمنافسة.
ومع توافُر قاعات المكتبات العامة وآلاف عناوينها على الرفوف، لا تزال للقراءَة في الخارج متعتُها، ولا تزال دُرْجة المكتبات النقالة والجوالة تجد مَن ينتظرها بشغف ومتعة.
من هذه الظواهر الثقافية الصحية الـمُعافاة، أَختار اليوم ظاهرةً منتشرةً في سِيْوُول (عاصمة كوريا الجنوبية = 10ملايين نسمة – 600 كلم مربع).
مكتبة في الطبيعة
كأَنه حلْمُ كلِّ قارئٍ أَو مدمنٍ على القراءة، أَن تكون الطبيعةُ في العاصمة سِيْوُول مكانًا واسعًا مهيَّأً في الساحات العامة الكبرى لمتعة القراءَة، على مقاعد خشبية مريحة، أَو عند مجرى نهر صغير يَعبُر المدينة. الكتب مجَّانية توزِّعها الدولة، الطقس لطيف، النسيم يُسهم أَحيانًا في تقليب الصفحات، الموسيقى الهادئة تَصدح في الزوايا، النجوم ليلًا ترافق القرَّاء، كأَن المدينة كلَّها تصبح مكتبةً كبرى. هكذا ينتقل القرَّاء إِلى الوساعة عوض انزوائهم في قاعات مقفلة تحت الأَنوار الكهربائية.
ثلاث ساحات كبرى
هذا العام، وفَّرَت بلدية سِيْوُول ثلاثةَ أَماكنَ رئيسةٍ للقراءة: ساحة هادئة قبالة قصر مهيب في قلب المدينة ذي طابع تراثي قديم، ركن في المدينة يجري فيه نهر صغير تسقسق مياهه بهدهدة تزيد من راحة أَعصاب القراء، وساحة مزهرة لا تفتح إِلَّا في الربيع، كي تحيط أَزهاره بأَجواء القراء. في هذه الساحات الثلاث، تحلو القراءة في جو مريح هادئ هانئ.
ظاهرة القراءة هذه في سِيْوُول تهيِّئُها بلدية المدينة على مرحلتين: أُولى في الخريف من مطلع أَيلول/سبتمبر إِلى نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، كل يوم جمعة وسبت وأَحد. والمرحلة الأُخرى في الربيع من مطلع نيسان/أَبريل إِلى نهاية حزيران/يونيو. وفي هذه الأَماكن يحلَولي المشْهد عند المساء وفي الليل، مع نسيمٍ ليليٍّ لطيف، وأَنوار غير قوية للأَعيُن، وأجواء صامتة في هدوء ليليٍّ تام.
الكتاب في أَجواء رومنسية
هذه هي أَجواء المكتبة في الخارج: تَحْلَوْلي عند المغيب، خصوصًا حين تجتمع في تلك الساحات عائلاتٌ بأَولادها المعتادين على القراءة بتأْثير من الوالدَين، يتمتعون بالقراءة الحرة بعيدًا عن أَجواء البيت المقفلَة الضاغطة والفروض المدرسية. والشبان والصبايا يتمتعون بالجوّ الرخيِّ بعد نهار طويلٍ في العمل أَو المدرسة أو الجامعة.
قد يبدو الأَمر، ظاهرًا، مجرد نشاط تسلويّ في فصلين من السنة. لكن الأَمر أَبعد: إِنه دافعٌ ثقافي بدأَت تعمِّمُه الدولة لتقريب الكِتاب من قرَّائه، في أَجواء مريحة ومساحات خارجية وسيعة. فالكتاب ليس للأَماكن المقفَلة فقط، وفي قاعات الصفوف المدرسية والجامعية، بل هو دعوة للجميع في كل مكان مُتاح، كأَن الكِتاب يقول: “أَنا هنا، تعالَوا إِليَّ أَينما كنتم”.
الفائدة الاجتماعية
فائدة أُخرى: الكتاب يُسقط الحواجز بين أَفراد المجتمع. قد لا يكون بإِمكان كل مواطن أَن يكون تلميذًا في معهد أَو طالبًا في جامعة. لكن المساحة في الطبيعة ملْكُ الجميع مجانًا. من هنا عمدَت الدولة إِلى توزيع عددٍ كبيرٍ من الكتُب إِلى تلك الساحات كي يختار منها القراء ما يستسيغون قراءَته.
وأَكثر من القراءة بعد: هذا الجوُّ الخارجيُّ في الطبيعة يستدعي أَحيانًا تَشَكُّلَ حلقات نقاش جماعية، أَو وُرَشَ عمل، أَو قراءَاتٍ شعريةً أَمام الحضور، من نصوص كورية أَو عالَمية، أَو سردَ حكايات للصغار، أَو عزفًا موسيقيًّا فرديًّا أَو لفرقة مصغَّرة ترافق القرَّاء بأَنغام هادئة. هكذا ينشأُ في أَرجاء المدينة مهرجانٌ ثقافيٌّ تتلاقى فيه القراءَة مع العزف مع الأَداء.
اليوم العالميُّ للكتاب
هذه الظاهرة تصادف سنويًّا “اليوم العالمي للكتاب وحقوق التأْليف” (حدَّدَتْه منظمة اليونسكو في 23 نيسان/أَبريل من كل سنة). وفيه تتشكَّلُ حلقاتُ توعيةٍ على حماية حقوق المؤَلِّفين، وتشجيع القراءَة، وأَهمية الكتاب والاعتناء به من المخطوطة إِلى الطباعة. هكذا لا يعود الكتاب مقتصرًا على الخاصَّةـ بل يَتَعَمَّم بين أَيدي جميع الناس.
إِضافةً إِلى كل هذا الأَعلاه، تتيحُ القراءَة في الطبيعة لقاءَاتٍ مع الآخرين، وتَبادُلَ الأَفكار حول الكتُب ومحتوياتها، ما ليس متاحًا في مكتبة عامة أَو في قاعة مطالعة. وهنا أَهمية المطالعة الجماعية في فضاء مفتوح، أَنها تفتح أيضًا على صداقاتٍ يكون محورها الكتاب.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).