هنري زغيب*
كأَنَّما ليس يكفينا ما في الإِدارة من ممارساتِ فسادٍ وإِهمالٍ وجهْلٍ موروثةٍ من سنواتٍ عقيمة، حتى يصلَ الأَمرُ إِلى انزياحٍ غريبٍ عن مَعْلَمٍ رئيسٍ ثابتٍ عالَميًّا ومحلّيًّا، من مفاخر لبنان الساطعة في التاريخ: أُعجوبةُ بعلبك.
المعروف تاريخيًا أَنَّ في بعلبك هياكلَ ومعابدَ (أَبرزُها الباقي: معبد جوپـيتر ومعبد باخوس ومعبد ڤينوس)، ومعالِمَ شاهدةً على هَيبة الحَـرَم ومحيطه وعظَمته. والسيَّاح قاصدُوه يتأَمَّلون مندهشين ضخامةَ الحجارة في تلك الهياكل والمعابد الباقيةِ واقفةً عنيدةً في وجه الرياح والعواصف وحتى الزلازل. وإِذْ… جاء من لم يَرَ في الموقع إِلَّا “قلعة”. فَقَبْل أَيام، رَدًّا على قولة أَحد السياسيين إِنَّ في داخل الحَرَم “مخازن أَسلحة للأَحزاب”، صدَرَ عن وزارة الثقافة-المديرية العامة للآثار بيانٌ ينفي “وجود مَوادّ في القلعة تعود للأَحزاب”، ويُؤَكِّدُ أَنَّ “الأَجهزة الأَمنية اللبنانية هي الوحيدة الموجودة داخل قلعة بعلبك”، ويُوضحُ أَنَّ “موقع قلعة بعلبك مصنَّفٌ ضمن لائحة المواقع المعزَّزة وفْق البروتوكول الثاني في اتفاق لاهاي”.
حين أَدرَجت منظَّمةُ اليونسكو “موقع بعلبك الأَثَري” على “قائمة التراث العالَمي” (1984) ذكرَت في بيانها أَنَّ “بعلبك، بهياكلها الجبَّارة، من أَعظم نماذج الأَمبراطورية الرومانية هندسةً في ذُروة حضارتها”. ولم يَرِدْ في البيان أَنها أَدرجَت “قلعة” بل “هياكل”.
في التاريخ أَنَّ تلك الهياكل، منذ إِنشائها في بعلبك، ظلَّت قرونًا طويلةً معابدَ للطقوس الدينية، وأَنَّ تحت المدينة الحالية تسعةَ معابدَ رومانيةٍ مطمورةٍ، وأَنَّ الستَّة الأَعمدة الباقية اليوم كانت في الأَصل 54 عمودًا، وأَنَّ المجموعَ العامَّ في الموقع كان 186 عمودًا من الغرانيت، وأَنَّ الحَرَم حافظَ على لقبه الفينيقي “مدينة الشمس”، ثم كَرَّسه الرومان معبد “جوپــيتر إِله الشمس”.
مع الفتح العربي احتلَّ العربُ المدينةَ سنة 637. ازدهرَت في العصر الأُموي وحالت دون دخولَ الصليبيين إِليها، فبقيَت أَحدَ أَهداف غَزَواتهم سهلَ البقاع. ولأَنَّ ضخامةَ الحجارة حافزٌ للإِفادة من أَسوار الهياكل في الحالات الدِفاعية (معظمها ضدّ الصليبيِّين)، شهدَت المدينةُ لاحقًا وتباعًا، في قسم من الموقع الأَثري، تشييدَ تحصيناتٍ دفاعية داخل الأَسوار. منها قيامُ الملك العادل سيف الدين الأَيوبي (شقيق صلاح الدين) بتحصين الأَسوار سنة 1203 (“وفَيَات الأَعيان” لابن خلِّكان)، ومنها قيامُ بهرام شاه الأَيوبي سنة 1214 بــ”تشييد بُرجَين داخل الأَسوار لأَغراضٍ دفاعية” (كتاب “بعلبك” لعالِم الآثار الأَلماني تيودور ڤيغان).
سنة 1898 مرَّ ببعلبك ڤيلْهِلْم الثاني الأَمبراطور الأَلماني في طريقه إِلى القدس، ورأَى روعة الآثار وما فيها من دمار، فَأَمَرَ بإِرسال فريقٍ أَثريٍّ لترميم الممكن في الموقع، بإِعادته طقوسيًّا كما كان أَصلًا في مراحل تشييده.
هكذا عاد الموقع إِلى أَصله: حرَمَ معابدَ وهياكلَ بلا أَيِّ تحصيناتٍ دفاعيةٍ طرأَت عليه لاحقًا. وفي صيف 2014، نَقَّبَ فريق من “المعهد الأَلماني للآثار“، بقيادة جانين عبد المسيح (الجامعة اللبنانية)، فاكتَشَفَ حجرًا ضخمًا قد يكون أَكبرَ كُتلةٍ أَثَرية في العالم. وها الموقع اليوم، بأَبهى هَيْبَته الأَصلية وجماله المعماريِّ الساحر العجيب، يَستقبل الزوَّار والسياح، ويستقطبُ روائع الأَعمال إِلى مهرجان بعلبك الدُوَلي. ولم تَعُدْ فيه بقايا من تلك التحصينات الدفاعية التي يَزلق لها اليوم لسانُ البعض خَطَأً بتسمية “القلعة”.
أَفهم أَنَّ عبارةَ “قلعة بعلبك”، الـمُتَدَاوَلةَ شعبيًّا، أَسهلُ لفظًا من “المعابد والهياكل”. والمتَدَاوَلُ شعبيًّا، في أَيِّ موضوع، ليس حُكْمًا هو الصحيح لُغَويًّا أَو عِلْميًّا أَو تاريخيًّا. لكنني لا أَفهم كيف تَمُرُّ عبارة “قلعة بعلبك” في بيانٍ رسميٍّ صادر عن الوزارة المعنية، يُفْتَرَضُ مرورُه على المدير العام للآثار، أَو على وزير الثقافة. إِذا لم يَمُرَّ النص على أَحَدهما أَو على كلَيْهما، فهذا خَطَأٌ إِداريّ. وإِن مرَّ على أَحَدهما أَو كلَيهما، فهذه خطيئةٌ وطنية.
مَعْلَمُ بعلبك يخصُّ “لبنان الوطن” السائرَ ثابتًا خالدًا في الزمان. فَلْتَحتَرمْهُ السُلطة التي تدير الدولة، كي يظلَّ لبنان “الوطن” أَرقى وأَبقى وأَنقى من أَخطاء السُلطة والدولة ومن خطاياهما.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).