حينَ تُهَدِّدُ الرُسومُ الجُمرُكِيّة عَرشَ الدولار

كابي طبراني*

على مدى ما يقارب ثمانية عقود، ظلّ الدولار الأميركي العُملةَ المَرجعية التي لا مُنازِع لها في العالم. فهو وقودُ التجارة العالمية، ومخزنُ احتياطاتِ البنوك المركزية، والملاذُ الآمن للمستثمرين في أوقاتِ الاضطراب. هذا “الامتيازُ الباهظ”، كما وَصَفهُ الفرنسيون ذات مرة، سمح للولايات المتحدة بتمويلِ عَجزها بتكاليف مُنخَفضة وبسطَ نفوذٍ عالمي يفوقُ حجمها الاقتصادي وحده. لكنَّ أبحاثًا جديدة تُشيرُ إلى أنّ هذا الامتياز بات أكثر هشاشةً مما تعتقد واشنطن. والأسوأ أنّ مَن يُهدّدهُ ليس الخصوم في الخارج، بل النزعة الانعزالية داخل أميركا نفسها.

تُشيرُ دراسة حديثة صادرة عن معهد بروكينغز إلى أنّ الحروب التجارية –وما تُخلّفه من تعريفاتٍ جمركية وإجراءاتٍ انتقامية– تُقَوِّضُ الأُسُسَ التي يقوم عليها تَفوُّقُ الدولار. فمكانة الدولار تقوم على ركيزتَين: دوره كأصلٍ آمنٍ للمُستثمرين، ووظيفته كعملةٍ مرجعيّة تستند إليها الدول الصغيرة لتثبيت أسعار صرفها. وكلتا الركيزتَين تعتمدان اعتمادًا حاسمًا على انفتاح الولايات المتحدة على التجارة العالمية. إذا تقلّصَت هذه الروابط، يتزعزع منطق مركزية الدولار.

الآليِّةُ هنا دقيقةٌ ولكنها عميقة. في أوقاتِ الأزمات، يميلُ الدولار إلى الارتفاع لأنَّ الصدمات التي تضربُ الاقتصادَ الأميركي تتردّدُ أصداؤها في الاقتصاد العالمي كله. هذا ما يجعلُ الأصول المُقَوَّمة بالدولار آمنة، ويُخفّضُ تكاليف الاقتراض الأميركي. أما الدول الصغيرة، فتربُطُ عملاتها بالدولار كي “تستوردَ” معايير السلامة الخاصة به. والنتيجةُ نظامٌ عالميٌّ تتمحوَرُ فيه العملات حول الدولار: المزيد من الاستقرار يعني طلبًا أكبر على الدولار، مما يعزز مكانته كعملةٍ احتياطية.

لكنَّ فرضَ الرسوم الجمركية يقطع هذا الترابط. فعندما تضع الولايات المتحدة حواجز، فإنها تعزلُ نفسها عن الاقتصاد العالمي. تقلّ حدة انتقال صدماتها إلى الخارج، فتضعفُ جاذبية الدولار كأداةٍ للتحوّط. ووفقًا لنموذج بروكينغز، إذا تجاوزت الرسوم مستوى 26% –وهو ليس بعيدًا من التهديدات التي أطلقتها إدارة دونالد ترامب في 2018– يتفوّقُ اليورو على الدولار كخيارٍ أكثر أمانًا. وعندها تبدأ الدول الصغيرة في رَبطِ عملاتها باليورو، لينزاح مركز الثقل النقدي من الدولار إلى عملة الاتحاد الأوروبي.

وتترتّبُ على ذلك عواقب قاسية على الولايات المتحدة. أوّلًا، ترتفعُ أسعار الفائدة. اليوم، يتمتّعُ المقترضون الأميركيون بفائدة تُقارب 2.5 نقطة مئوية مقارنةً بالدول الصغيرة المعتمدة على التجارة. هذا الخصم أو الخفض يعكس مكانة الدولار كملاذٍ آمن. وإذا تآكلت هذه الميزة، فإنَّ تكاليف الاقتراض سترتفع، سواء على الحكومة الأميركية أو على الشركات.

ثانيًا، تتغيّر وجهة رؤوس الأموال. فمع تراجُع قيمة الشركات الأميركية في الأسواق العالمية، يُحوّلُ المستثمرون أموالهم إلى الخارج. ويتوقّع نموذج بروكينغز أن تشهدَ الولايات المتحدة تدفّقات خارجية مستمرة في ظلِّ حروبٍ تجارية طويلة، وهو ما قد يدفعها حتى إلى التفكير في فرضِ قيودٍ على رأس المال.

ثالثًا، تتحوّل مكاسب الرفاه الاقتصادي. حين تربُطُ الدول عملاتها بالدولار، فإنها تمنح الولايات المتحدة نوعًا من “التأمين الاستهلاكي” عبر امتصاصِ جُزءٍ من المخاطر. وإذا تحوَّلَ هذا الضمان الآمن إلى اليورو، فإنَّ أوروبا هي التي ستجني هذه الميزة. النتيجة: مكاسب للاتحاد الأوروبي وخسارة ملموسة للأميركيين، ليس فقط اقتصاديًا بل أيضًا من حيث النفوذ العالمي.

والأمر اللافت أنَّ هذه الديناميكيات لا تتطلّبُ انهيارًا فوريًا للدولار في التجارة. يكفي أن يتراجعَ جُزءٌ من الثقة كي تبدأ التداعيات. فالبنوك المركزية قد تُعيدُ موازنة احتياطاتها باتجاه اليورو، والشركات المُتعدّدة الجنسيات قد تُفضّلُ تسعيرَ عقودها بعملاتٍ بديلة، والمقرضون قد يفرضون أقساط مخاطر أعلى على الأميركيين. خطوةٌ بعد خطوة، تضعف الجاذبية المغناطيسية للدولار. وعندما تبدأ الثقة في التآكل، يصبح استعادتها شبه مستحيل.

قد يقولُ البعضُ إنّ لا عملة أخرى جاهزة لتحل محل الدولار. فالرنمينبي الصيني مُكبّلٌ بالقيود على حركة رأس المال، ومنطقة اليورو تعاني من هشاشاتٍ بُنيوية. لكن هذه ليست عزاءً كافيًا. فأبحاث بروكينغز تُبيّنُ أنّ الدول، في حال نشوب حرب تجارية كبرى، لن تبحثَ عن بديل مثالي، بل عن خيارٍ “جيد بما فيه الكفاية”. واليورو، بما يملكه من أسواق مالية عميقة واستقرار سياسي نسبي، يفي بالغرض أكثر مما تعترف به واشنطن.

المفارقة أنّ هيمنةَ الدولار لم تُفرَض على العالم بالقوة، بل نشأت طبيعيًا من خلال التجارة الحرة والأسواق المفتوحة. واليوم، تُهدّدُ السياسات القومية والحمائية بهدمِ النظام الذي يمنح أميركا قوّتها المالية. المسألة لم تَعُد مجرّدَ رسومٍ على الفولاذ أو فول الصويا، بل أصبحت مسألة البنية الاستراتيجية للتمويل العالمي.

الدروس السياسية واضحة: الحفاظُ على هيمنة الدولار يستلزِمُ الحفاظَ على الانفتاح العالمي. فالحمايةُ التجارية تحمُلُ تكاليف خفيّة أعمق بكثير من ارتفاع أسعارِ السلع أو اضطراب سلاسل الإمداد. إنها تُقوّضُ أساس القوة المالية الأميركية. صحيحٌ أنَّ “تسليح” التجارة قد يلقى رواجًا سياسيًا داخليًا، لكنه في الواقع يُهدّدُ بسحبِ السلاح الأهم من ترسانة الولايات المتحدة: الدولار.

في نهاية المطاف، مصيرُ الدولار ليس بيد بكين أو بروكسل. إنه بيد واشنطن نفسها. التراجُع عن العَولَمة هو تراجعٌ عن هيمنة الدولار. ومن دون هذا الامتياز، ستجدُ أميركا نفسها مضطرة لدفع كلفة أعلى للاقتراض، ومنافسة أشد على جذب رؤوس الأموال، ونفوذ أضعف في العالم. تلك هي الكلفة الحقيقية للتعريفات الجمركية – وهي كلفة لا تستطيع الولايات المتحدة تحمّلها.

Exit mobile version