“حزبُ الله” يَعيشُ على الذكرى ويَفقُدُ البوصلة

بين 17 و27 أيلول (سبتمبر) 2024 مرّت على لبنان و”حزب الله” والمنطقة عشرة أيّام كالزلزال، عمليةٌ استعراضية وتحشّدات عسكرية وغارات دفعت بموازين القوى إلى نقطةٍ فاصلة. ما حصل —من تفجيرات واغتيالات إلى ضرباتٍ استثنائية أصابت قلب القيادة— أعادَ فَتحَ نقاشاتٍ وجودية عن الاستراتيجية والهوية والدور في الدولة والإقليم.

وفيق صفا لدى وصوله إلى مظاهرة الروشة: هل يبحث عن دور جديد؟

ملاك جعفر عبّاس*

بين السابع عشر من أيلول (سبتمبر) 2024 والسابع والعشرين منه، أيامٌ عشرة غيّرت وجه “حزب الله” ولبنان والمنطقة… ربما إلى الأبد. افتتحتها إسرائيل بعمليةٍ استعراضية تمهيدية فجّرت أجهزةَ “النداء” (البايجر) بين أيدي حامليها، وفي عيونهم، مُخَلِّفةً عشرات القتلى وآلاف الجرحى في غضون دقائق بينهم نساء وأطفال. كان واضحًا منذ الساعات الأولى أنَّ هذه العملية ما هي إلّا تمهيدٌ لما هو أخطر لا بل الأخطر. تتالت الضرباتُ تصاعُديًا، تفجيراتُ اللاسلكي في اليوم التالي، شَطبُ قيادات قوة الرضوان، قصفٌ سجّادي لمواقع ومخازن ومنشآت بالمئات، زحفٌ بشري غير مسبوق من المهجَّرين من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، اغتيالاتٌ بالجملة.

في مساء الجمعة، 27 أيلول/سبتمبر، وعند الساعة السادسة وإحدى وعشرين دقيقة، شنّت إسرائيل عمليةً أطلقت عليها اسم “النظام الجديد” والتي ألقت خلالها طائرات “أف 15” جهنَّمًا مُصغَّرة على حارة حريك. ثمانيةُ وثمانون طنًا من القنابل الخارقة للتحصينات فلقت الأرضَ وابتلعت الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله ومَن كان معه من قياداتٍ في مقرهم المُحَصَّن تحت الأرض.

هوّةٌ سحيقةٌ تكاد تكون ثقبًا اسود ابتلعت نصر الله والحزب وشيعته وتكاد تبتلع لبنان. أيامٌ عشرة من ستة وستين يومًا، هي عاشوراء العصر الحديث المُشَغَّلة بالذكاء الاصطناعي، وما إحياؤها من قبل الحزب هذا العام في الذكرى الأولى بسلسلةٍ من الفعاليات المتنقلة إلّا تأكيدٌ على هول الفاجعة التي أرست تقويمًا جديدًا عند الحزب يؤرّخُ بما قبلها وما بعدها، ويُشرّعُ بابَ الأسئلة عن النهجِ والمصير على مصراعيه.

لكن مهلًا، ربما لا. فرُغم الزلزال الهائل الذي بدّلَ موازين القوى وأرسى معادلات جديدة في الإقليم، يصر “حزب الله” على أنَّ شيئًا لم يتغيَّر في الميدان والسياسة والاستراتيجية، كلُّ ما حدث في السنة الفائتة تكتيكات لا تُغيّرُ في واقع المعادلة شيئًا، “لقد تعافينا”، “لن نتركَ الساح ولن نتخلى عن السلاح”، قال الأمين العام الشيخ نعيم قاسم مُكرّرًا التزامه بالنهج الكربلائي الذي لن يُسلّمَ الراية إلّا لصاحب العصر والزمان، الإمام المهدي المنتظر.

أما الواقع فيقول إنَّ اتفاقَ وقف العمليات العدائية المُوَقَّع بين لبنان وإسرائيل والذي وافق عليه “حزب الله” عبر حكومةٍ كان يتحكّم بكلِّ مفاصلها يُشكّلُ وثيقةَ استسلامٍ تحظّرُ استخدام السلاح خارج إطار مؤسّساتٍ رسمية مُحدَّدة ليس “حزب الله واحدة منها. والواقع يقول إنَّ “حزب الله” وخلال عامٍ كامل من تواصل الضربات الإسرائيلية على مواقعه واغتيال الكثير من القيادات الميدانية لم يُحرّك ساكنًا عبر الحدود أو داخلها، ولم يُسكِت صوتَ المُسيَّرات التي تقضُّ مضاجع الناس، ولم يمنع أفيخاي ادرعي المتحدث باسم جيش الاحتلال من إصدار التهديدات المُسَطَّرة بالأحمر.

الواقع يقول إنَّ التوازنات التي أوجدها الزخم الدولي والإقليمي في لبنان والحراك السياسي لخصوم “حزب الله” في الداخل معطوفًا على التحوّلات الهائلة في الإقليم وأبرزها سقوط نظام الأسد وانكشاف حدود القوة الإيرانية في حرب الاثني عشر يومًا ضد إسرائيل وتغوُّل المشروع الإسرائيلي على سائر الإقليم، وخصوصًا في غزة، يحتّمُ إجراءَ مُراجعةٍ نقدية داخل الحزب تُعيدُ تقييم الأداء وصياغة العلاقة مع الشركاء في الوطن والجيران، كما تحتّم وضع استراتيجية جديدة تُعيدُ إنتاج الحزب حسب التقويم الجديد. هذه الاستراتيجية يُفترَض أن تشملَ أيضًا إعادة إنتاج سردية تحفظ للشيعة ما تبقّى لهم من جسورٍ شُيِّدَت بسواعد أبنائهم العابرين للمذاهب والطوائف وتحجز لهم مقعدًا في الدولة الوطنية التي باتت تُنادي بها الغالبية الساحقة من اللبنانيين.

إزاء هذا الواقع، ماذا قال “حزب الله” وماذا فعل؟

منذ اليوم الأول أدركَ “حزب الله” وفهمَ عمق التحوّلات وهَول الخسارة وفداحة الانكشاف الأمني، إلّا أنه، ومنذ اليوم الأول لوقف الحرب أيضًا، بدأ وَضعَ مسافة بينه وبين اتفاق وقف الأعمال العدائية على اعتبار أنَّ ليس هناك توقيعٌ خطّي منه ولا من الرئيس نبيه بري على نصِّ الورقة، كما أصرَّ، ولا يزال، على أنَّ الاتفاقَ محصورٌ فقط بجنوب نهر الليطاني، واستثنى منه السلاح شمال النهر رابطًا مناقشة مصيره باستراتيجية دفاعية تبحثها قيادته مع الجيش اللبناني. كما رفضَ الحزب تبنّي الحكومة ل”أهداف” ورقة المبعوث الأميركي توم برّاك، وتعامل مع القرار كأنه غير موجود مُهَوِّلًا بحربٍ كربلائية ضد الداخل والخارج إن مسَّ أحدٌ بترسانته.

وبدل ان ينكفئ مرحليًا للملمة الجراح والتحقيق في ما حصل، ومصارحة جمهوره. وبدل تحمُّل المسؤولية والإقرار بالأخطاء، قرّرَ الحزب الهروبَ إلى الأمام وسطَ تخبُّطٍ قيادي واضح وحديث عن صراع أجنحة. فما ظهور مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق وفيق صفا “سابقًا”، الوجه الأمني الداخلي للحزب، في فعالية إضاءة صخرة الروشة إلّا دليلٌ على أنه يوجّه رسالةً إلى رؤسائه ( قبل خصومه) أنه هو مَن يُحرّكُ الأرض وما زال يملك مفاتيح الارتباط مع الدولة العميقة ويُحرّك مؤثّري وسائل التواصل الاجتماعي وفيلق الموتسيكلات. كذلك كانت مناشدة رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” محمد رعد، الوجه السياسي للحزب، “للقيادة حتى تسمع” في مقابلة على شاشة قناة “المنار” دليلًا على خللٍ في التواصل والنقاش داخل البنية الهرمية التي يبدو أنها باتت تحت السيطرة الإيرانية المباشرة. كما إنَّ دعوة قاسم للتقارب مع المملكة العربية السعودية من خارج سياق ادبيات الحزب ونهجه فُسِّرَت أيضًا على أنها أمرُ عمليات إيراني لم تستسغه أقلام الحزب، ولا يتّسقُ مع الهجوم المنظَّم على النهج السعودي الداعم للاستقرار وبناء الدولة في لبنان.

وبدل مد اليد الى خطاب الاحتضان الاجتماعي والسياسي من كافة الفرقاء السياسيين على قاعدة بناء دولة تتساوى فيها المكوّنات السياسية والاجتماعية، صوّب الحزب سهامه منذ الغارة الأولى بعد وقف إطلاق النار على الجيش والدولة وبشكل شخصي ومُهين على رئيس الحكومة نوّاف سلام عبر آلته التعبوية. اعتبر الحزب أنه يمنح الدولة مرحلة اختبار لإثبات جدارتها بالحُكم والسيطرة على قرار الحرب والسلم وهي تفشل فيه كل يوم وتتماهى مع المشروع الإسرائيلي-الأميركي-السعودي (كما يصفه) عندما تتلكأ في توجيه أسطولها الجوي والبحري والأرضي لمنع الاعتداءات التي تجاوزت ال4500 على مدى عام كامل. وهو يقول إنه سلف العهد الجديد موقفًا متقدّمًا في التصويت على انتخاب رئيس جمهورية لم يكن مرشحه وإعطاء الثقة لحكومة كُلف رئيسها في ليل، انقلابًا على صفقة كان يفترض أن تُعيدَ نجيب ميقاتي الى السراي، متوقّعًا رد الجميل بعدم المساس بسلاحه أقله شمال النهر. وعندما تبين أنَّ الأمرَ أكبر من مجرد تعهدات من هنا وتمريرات من هناك، وأن هناك مسارًا دوليًا وإقليميًا واضحًا لم يعد يقبل بتدوير الزوايا، توجّهت كل أسلحة الهجوم نحو الداخل.

واقعة الروشة كتكريس لضياع البوصلة

لا شكَّ أنَّ خطوة سلام بتصعيدِ الموقف بالنسبة إلى إضاءة صخرة الروشة بصورة الأمينين العامين ل”حزب الله” في الذكرى الأولى لاغتيالهما تُعتبَرُ زلّة قدم كشفت قصوره عن تقدير الموقف قبل حدوثه، وأدخلته في كباش، لم يكن يحتاجه لكنه كان ربما حتميًا، مع أخطبوط الدولة العميقة الذي يتقاطع مع “حزب الله” في نظرته إلى سلام كدخيلٍ على المعادلة السياسية والأمنية المُتوافَق عليها. فقد يتفق كثيرون على أنَّ الرجلَ لا يتمتّع بكاريزما تُقرّبه من قلوب مؤيديه قبل معارضيه، وهذه طبيعة بشرية، وأنَّ مسيرته في الحكومة شابها الكثير من الأخطاء التي كان يمكن تفاديها، إلّا أنَّ دخوله على المعادلة من خارج المنظومة وتصدّيه للملف السياسي والأمني الأخطر، جعل منه هدفًا يعتقد كثيرون أنه يُسهّلُ التصويب عليه لأنه لا يتمتّعُ بقاعدةٍ شعبية تفزع له إذا تعرّض للإهانة. إلّا أنَّ هذا تحديدًا هو ما يشكل عنصر قوته الوحيد. فالرجلُ مشهودٌ له بنظافة كفه واستقامته وتاريخه الوطني وهو غير مُثقل لا بهمٍّ انتخابي ولا بقاعدةٍ شعبية يصرف عليها، لذا قد لا يكترثُ بالأصوات العالية أو الهامسة. كما إنَّ استقالته وخروجه من المشهد لن يُغيّرَ في واقع المعادلات شيئًا، لذا فالهجوم عليه وتحويله إلى شماعة يعلق الحزب عليها مسؤولية فشل خياراته، إنما هو التعريف الحرفي لضياع البوصلة السياسية. فقبل أن يسألَ المناصرون أينَ هي الدولة لتحمينا من إسرائيل، وهو كلامُ حقٍّ يُراد به باطل، كان عليهم أن يسائلوا قياداتهم عن خياراتها.

كانَ الأجدى أن يسألوا القيادة لماذا نُعادي نواف سلام وهو لم يعتقل أيًا من المجاهدين وهم يحاولون استخدام السلاح الذي يحمينا من الغارات والمسيرات وقد منعوا بحجة الالتزام بقرار وقف إطلاق النار، ألم يكن في ال4500 اعتداء حالة واحدة تستدعي الرد أقله عندما يقتل أطفالنا الرُضَّع؟ هل نواف سلام قوي يمنع “حزب الله” من حماية لبنان أم ضعيف لا يقوى على منع إضاءة صخرة الروشة؟ نحن رفضنا خطته ولم يفعل شيئًا فلماذا لا نحارب فنستشهد جميعًا أو نسلّم فيسلم بعضنا؟ هل تبنّت حكومة نواف سلام في الورقة ” الأميركية” غير ما وافقتم عليه في اتفاق وقف إطلاق النار؟ هل يمكن أن يقبل “حزب الله” باستراتيجية دفاعية لا يسيطر فيها هو على قرار الحرب والسلم ولا تُشرّع وجوده المسلح ككتلة موحدة تحت غطاء المؤسسة العسكرية؟ كيف يمكن لحكومة بلدنا المفلس أن تُعيدَ إعمارَ بيوتنا وقد ضربتمونا في الشوارع عندما كنا نصرخ ضد الفساد الذي تساكنتم معه لعقود؟ هل كان الوضع اختلف لو كان نجيب ميقاتي في السراي وإميل لحود في قصر بعبدا؟ هل كانت ثُلاثية الجيش والشعب والمقاومة ستبقى في البيان الوزاري وكانت الحكومة ستقرُّ الاعتمادات اللازمة التي لا تمتلكها لإعادة الاعمار، وماذا لو فعلت؟ هل سترضخ إسرائيل والمجتمع الدولي لصلابة الموقف المقاوم للدولة اللبنانية ويتركوننا بسلام “نحمي ونبني” لنتعافى؟ هل كانت طريق الشام ستفتح أمام الإمداد من جديد؟ أسئلة لا تنتهي تقابلها ديماغوجية جامدة تعيش على الأمجاد والذكرى وبوصلة تائهة لم تَعُد تُميِّز الصديق من العدو فيما تغلق المخارج من المأزق والمداخل الى الحلّ ويتربص بنا الثقب الأسود في حارة حريك مُهدِّدًا بابتلاعنا جميعًا عندما ينتهي نتنياهو من ابتلاع غزة.

Exit mobile version