كابي طبراني*
يشهدُ لبنان منذ آب (أغسطس) 2025 واحدةً من أكثرِ اللحظاتِ حساسيَّةً في تاريخه السياسي والأمني، بعدما قرّرت حكومته أن تتحوَّلَ من رَفعِ شعارِ “حَصرِ السلاح بيد الدولة” إلى محاولةِ تطبيقِهِ عمليًّا، بدءًا من السلاح الفلسطيني داخل المخيَّمات. القرارُ الذي بدا في بداياته خطوةً رمزية، يحملُ في الواقع دلالاتٍ عميقة تتجاوَزُ الإطارَ الأمني المباشر لتُلامِس جَوهرَ السيادة اللبنانية، وتفتح الباب أمامَ تساؤلات كبرى: هل يُمكِنُ أن تنجَحَ الدولةُ في فَرضِ سلطتها ضمن بيئةٍ مليئةٍ بالانقسامات، وهل يُشكّلُ هذا الاختبار نموذجًا قابلًا للتعميم على ملفّاتٍ أعقد مثل سلاح “حزب الله”؟
منذ انتهاء الحرب الأهلية في العام 1990 ظلّ ملفُّ السلاح غير الشرعي في لبنان مُعَلَّقًا بين التجاذُباتِ الداخلية والضغوطِ الخارجية. الحكوماتُ المُتعاقبة اكتفت برَفعِ الشعار من دونِ أن تَجرُؤ على وَضعِ جدولٍ زمني أو خطّةٍ تنفيذية واضحة. لكنَّ قرارَ آب (أغسطس) 2025 غيّرَ المُعادَلة، إذ مُنِحَ الجيشُ اللبناني تفويضًا علنيًّا لجَمعِ السلاح الفلسطيني ضمنَ خطّةٍ تمتدُّ على مراحل، تبدأ من بيروت ثم الشمال فالبقاع وصيدا. ما جرى في الأسابيع الأولى أوضَحَ أنَّ المسألةَ لا تتعلُّق بالقدرة العسكرية بقدرِ ما ترتَبطُ بتركيبةٍ سياسيّةٍ واجتماعيةٍ مُتشابِكة تحتاجُ إلى إدارةٍ دقيقة.
في بيروت، اتَّخَذَت الخطوَةُ طابعًا رمزيًا لكنّهُ شديدُ الدلالة. فقد جرت اتصالاتٌ مباشرة مع ممثلين عن حركة “فتح” وفصائل أخرى، وطُرِحَت ترتيباتٌ لتسليم السلاح الفردي والمتوسّط مقابل وعودٍ بتخفيف القيود الأمنية وتحسين الخدمات المعيشية. أمّا في طرابلس، فكانت الصورة أكثر حذرًا بسببِ هشاشة الأوضاع الاجتماعية ومجاورة المخيَّمات لأحياءٍ فقيرة لبنانية، ما جعلَ أيَّ احتكاكٍ أمني مُرَشَّحًا للتوسُّع بسرعة. رُغمَ ذلك، أصرّت الدولة على إدراجِ الشمال ضمنَ الخطة باعتباره اختبارًا ضروريًا لقياس القدرة على فرضِ السيادة في بيئاتٍ مُتباينة. هذه الخطواتُ الأولى أبرزت أنَّ القرارَ لم يَعُد يدورُ حول “المَبدَإِ” بقدرِ ما أصبحَ امتحانًا لـ”قُدرةِ التطبيق”. فالدولةُ وضعت للمرة الأولى خطّةً زمنية مُعلَنة، لكنها وجدت نفسها أمام عقبات ثلاث: غيابُ غطاءٍ سياسيٍّ مُوَحَّد يحمي الجيش من التردُّد، غيابُ مُقارَبةٍ اجتماعية جدّية تجعلُ من تسليم السلاح مصلحةً لسكّان المُخَيَّمات، وتراجُعُ وحدةِ الموقف الفلسطيني الداخلي بسبب تنافُس الفصائل على التمثيل والموارد.
الجدولُ الزمني الذي وُضِعَ بدأ بمخيمات بيروت الثلاثة: برج البراجنة، شاتيلا، ومار الياس، ثم كان من المُفترَض أن يمتدَّ إلى البقاع والشمال. تقنيًا، صُمِّمَت مُقاربةٌ ثُنائية: مسارٌ أمني–لوجيستي لجَمعِ السلاح وفق لوائح وشروطٍ محدَّدة، ومسارٌ اجتماعي–خَدَمي يربطُ العملية بحوافز معيشية مثل صيانة البنى التحتية وتسهيل فرص العمل وتحسين الخدمات. لكنَّ التنفيذَ كشفَ عن ثغرةٍ كبيرة: الخطّة الاجتماعية بقيت عامة وغير مُمَوَّلة بما يكفي، ما جَعَلَ سكان المُخَيَّمات ينظرون إلى تسليم السلاح كتنازُلٍ مجّاني لا يقابله مكسبٌ ملموس. في الوقت ذاته، برزت خلافاتٌ داخل حركة “فتح” نفسها، بين أجنحةٍ مُتنافسة على القرار والموارد، ما عطّلَ إنتاجَ موقفٍ فلسطيني مُوَحَّد يمنحُ العمليةَ غطاءً سياسيًا داخليًا. النتيجة كانت تعثُّرًا مُبكِرًا، وتَحَوُّل كلِّ خطوةٍ ميدانية إلى مادةِ تجاذُبٍ سياسي وأمني مفتوح.
المؤسّسة العسكرية اللبنانية تملكُ خبرةً واسعة في إدارة التوتّرات، لكنها لا تستطيعُ وحدها تحويلَ ملفٍّ بهذا التعقيد إلى نجاحٍ من دون ثلاثة عناصر أساسية: قرارٌ سياسيٌّ واضِحٌ يَسمَحُ بتحمُّلِ تبعات المواجهة، تمويلٌ اجتماعي–خدمي يُحَوِّلُ التسليم إلى مَنفعة، وقنواتُ وساطةٍ موثوقة داخل المخيّمات تضمنُ الانضباط. غيابُ هذه العناصر يجعلُ أيَّ ضغطٍ أمني مُغامرة غير محسوبة، خصوصًا في بيئاتٍ مُكتظَّة وفقيرة حيث يُمكِنُ لأيِّ احتكاكٍ بسيط أن يتطوَّرَ إلى اشتباكٍ واسع، كما أثبتت أحداثُ عين الحلوة في العام 2023.
ولا يُمكِنُ النظرُ إلى التجربة بمعزلٍ عن الحساباتِ الإقليمية. فحركةُ “حماس” تبنّت موقفَ “الانتظار الحَذِر”: لا انخراطَ كاملًا يُعطي شرعيةً مجّانية للمسار، ولا تصعيدَ يقطعُ الجسور. في المقابل، شكّلت مواقف قطر وتركيا، حيث تتحرّك قيادة الحركة، عاملًا مؤثّرًا في كيفية تجاوبها مع الضغوط اللبنانية والدولية. أما “اللجنة الخماسية” (قطر، السعودية، مصر، الولايات المتحدة، فرنسا) فمثّلت المظلّة الداعمة للبنان، إذ ربطت تقديم الدعم المالي والعسكري بإحرازِ تقدُّمٍ في ملفِّ حصرِ السلاح. لكنَّ نجاحَ هذه المظلّة يتوقّفُ على قدرتها على تحويل التزاماتها من بياناتٍ سياسية إلى أدواتٍ تنفيذيّة ملموسة، تتيحُ عَقدَ صفقاتٍ تدريجية تُدخِلُ الفصائل الفلسطينية الأساسية في ترتيباتٍ أمنيّة واجتماعية.
قد يبدو للوهلة الأولى أنَّ نجاحَ لبنان في ضبطِ السلاح الفلسطيني يُمهّدُ تلقائيًا لطَرحِ ملف “حزب الله”. غير أنَّ الفارقَ جوهريٌّ. فالمخيّماتُ الفلسطينية مناطقُ محصورة، هويّاتها مُرتَبِطة باللاجئين لا بالطوائف اللبنانية، وفصائلها مُتعدِّدة المصالح ما يُتيحُ هامشًا للتفاهُمات الجُزئية. أما سلاح “حزب الله” فمُرتَبِطٌ مباشرةً بالهوية المذهبية والسياسية لشريحةٍ لبنانية واسعة، وله امتدادٌ إقليمي وشرعية قتالية راسخة. من هنا، فإنّ النجاحَ في المخيّمات لا يعني بالضرورة النجاحَ في ملفّ الحزب، لكنه يمنحُ الدولة سابقة سياسية يُمكِنُ أن تتحوَّلَ إلى ورقةٍ تفاوضية في أيِّ تسويةٍ أوسع.
أمامَ لبنان ثلاثة مسارات مُحتَمَلة. الأول هو “التدرُّج المتراكم”، أي المضي بخطواتٍ صغيرة مُرتَبِطة بحوافز اجتماعية قابلة للتكرار. الثاني هو “الصفقة المُحكَمة”، عبر تفاهُمٍ سياسي–أمني شامل برعايةٍ إقليمية يضم “حماس” و”فتح” والفصائل الفلسطينية الكبرى. الثالث هو “التجميدُ المُمَوَّه”، أي إبقاءُ الملفِّ مفتوحًا من دونِ تقدُّمٍ نوعي، وهو خيارٌ يستهلكُ القرار ويُضعِفُ مصداقيةَ الدولة. الاختيارُ بين هذه المسارات لن يُحسَمَ على الورق، بل بقدرةِ الدولة على خَلقِ تلازُمٍ بين الأمن والامتثال الاجتماعي، وبمدى استعداد القوى الإقليمية لتحويل التزاماتها إلى خطواتٍ عملية.
ما يجري اليوم في المخيّمات الفلسطينية ليس مجرّدَ عمليةٍ أمنية، بل مشروعٌ سياسي وطني لاختبارِ قدرةِ الدولة على استعادةِ زمامِ المُبادرة. إذا نجحت الحكومة في تجاوز العقبات الثلاث، وهي القرار السياسي المُوَحَّد، الخطة الاجتماعية الملموسة، والمظلّة الإقليمية الفاعلة، فإنها ستتمكّن من تحويل تجربة أيلول (سبتمبر) 2025 إلى بدايةِ مسارٍ سيادي طويل الأمد. عندها لن يُنظَرَ إلى السلاح الفلسطيني كملفٍّ ظرفي، بل كمحطّةٍ تأسيسية تضعُ الدولة اللبنانية على سكة استعادة مؤسّساتها، وتفتحُ المجالَ أمامَ مُقاربةٍ شاملة لملفّاتٍ أكثر تعقيدًا. النجاحُ هنا يعني أنّ لبنان لم يَعُد رهينةَ ردودِ الفعل، بل بات قادرًا على صياغةِ سياسةٍ سيادية قابلة للتعميم، تُخرِجُ البلادَ من حلقة الأزمات وتمنحها فرصةً فعلية للانتقال نحو مرحلةٍ جديدة من الاستقرار والسيادة.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: gabarielgtabarani.com أو عبر منصة “إكس” على: @GabyTabarani