المُستَقبَلُ المُعَلَّق: مأزقُ إسرائيل وفلسطين

كابي طبراني*

لم يعرف الشرق الأوسط يومًا ندرةً في الخطط الكبرى أو المبادرات الديبلوماسية، من أوسلو إلى المبادرة العربية للسلام مرورًا بخطط “خريطة الطريق” والوساطات الأميركية والأوروبية. لكن قلّما بدا الوضعُ أكثرَ ضبابية وانعدامًا للوجهة كما هو اليوم. فإسرائيل من جهة تبدو غارقة في شعورٍ بالانتصار العسكري، لكنها عالقة في دوّامةِ حربٍ دائمة وعُزلةٍ مُتصاعدة. أمّا الفلسطينيون فمن جهتهم يُعانونَ من انهيارٍ مؤسّساتي وسياسي عميق جعلهم بلا تمثيلٍ فعلي وبلا أُفُقٍ سياسيٍّ واضح. النتيجةُ ليست مجرّدَ جمودٍ طويل الأمد، بل مأزقٌ استراتيجي حقيقي يُشبِهُ الطريقَ المسدود الذي لا يعرفُ أيُّ طرفٍ كيفَ يَخرُجُ منه.

ينقسم القادة الإسرائيليون اليوم بين مُعسكَرَين رئيسيين. الأول، وهو معسكرُ اليمين القومي–الديني، يتبنَى قناعةً راسخة بأنَّ القوة العسكرية يُمكِنُ أن تحلَّ محلَّ السياسة. هذا المُعسكَر المُنتَشي بقدرة الجيش الإسرائيلي على توجيهِ ضرباتٍ مُتزامنة إلى غزة ولبنان وسوريا وحتى إيران، يرى أنَّ إسرائيل قادرةٌ على إعادةِ تشكيلِ المنطقة وربما فَرضِ “سلامٍ إسرائيلي” بالقوة. لكن مثل هذا السلام المزعوم لن يكونَ سوى غطاءٍ لحالةٍ دائمة من الحرب. إذ إنَّ ربطَ الأمن الإسرائيلي بسلسلةٍ لا تنتهي من العمليات الأحادية والضربات الاستباقية يعني السَيرَ في مسارِ حربٍ لا نهاية لها، حربٌ قد تستنزفُ إسرائيل وتُفقِدُها حتى تعاطُفَ شركائها الإقليميين والدوليين.

أمّا المعسكر الثاني، الذي يضمُّ أصواتًا من الوسط وبعض خبراء الأمن السابقين، فيقدّمُ بديلًا يبدو أكثر اعتدالًا لكنه لا يقلّ قصورًا. هؤلاء يتحدّثون عن العودة إلى مسار أوسلو أو إحياء المبادرة العربية للسلام، لكن من دونِ أيِّ خطةٍ عملية تتناسب مع الواقع الحالي. أقصى ما يقترحونه هو نوعٌ من الحكم الذاتي المنقوص للفلسطينيين، أقل مما وُعِدوا به في التسعينيات. وبالنسبة إلى الفلسطينيين، يُنظَرُ إلى هذا الطرح على أنه ساذجٌ أو متعالٍ، إذ يُقدّمُ لهم فتاتًا في وقتٍ يعيشون أقسى ظروفهم.

بمعنى آخر، تتأرجحُ الإستراتيجية الإسرائيلية بين غرورِ القوّة العسكرية وحنينٍ إلى أوهام الماضي، لكن كلاهما يتجاهلُ حقيقةً أساسية: لا يُمكِنُ لأيِّ مشروعٍ مستقبلي أن ينجحَ من دونِ التعامُلِ مع الفلسطينيين كشعبٍ ذي حقوقٍ وطنية مشروعة، وليس كجماعاتٍ معزولة أو “مشكلات أمنية” يجب إدارتها بالقوة.

على الجانب الآخر، تبدو السياسة الفلسطينية في حالةِ انهيارٍ شبه كامل. فقد كانت هناك في مطلع الألفية بارقةُ أمل مع الحديث عن “الإصلاح الفلسطيني”—مكافحة الفساد، تعزيز الشفافية، بناء مؤسّسات قادرة على إدارةِ دولةٍ ناشئة. لكن ذلك المشروع وُئدَ سريعًا. فالانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة منذ العام 2007 دمّرَ أيَّ إمكانيةٍ لبناءِ مؤسّساتٍ وطنية جامعة. وتَحوّلَ الحديثُ عن “الإصلاح” إلى مجرّدِ شعاراتٍ مكرورة في المؤتمرات والتقارير الدولية بلا مضمونٍ فعلي ولا أثرٍ ملموسٍ في حياة الناس.

السلطة الفلسطينية اليوم تبدو جهازًا مُترَهِّلًا يقوده عددٌ قليل من الشخصيات المُسِنّة التي فقدت الاتصال بشعوبها. البرلمان مشلول، القضاء مُسَيَّس، ومنظمة التحرير الفلسطينية تحوَّلت إلى كيانٍ رمزي. الأجيالُ الشابة، التي لم تَعِش “أمجادَ” الماضي، ترى أنَّ قيادتها الحالية بلا رؤية ولا شرعية. وبالنسبة إليها، كلمة “إصلاح” صارت مرادفًا للخداع والوعود الجوفاء.

ثم جاءت حرب غزة الأخيرة لتقضي على ما تبقّى من أمل. فالمجتمع في القطاع يعيشُ مأساةً إنسانية غير مسبوقة: مدنٌ مُدَمَّرة، أحياءٌ محروقة، عائلاٌت مشرَّدة. أما في الضفة الغربية، فالوَضعُ ليس أفضل: انهيارٌ اقتصادي، تراجُعُ الخدمات الأساسية، وتصاعُدُ عنف المستوطنين تحت حماية الجيش الإسرائيلي. في ظلِّ هذا المشهد، يسودُ شعورٌ عام باليأس والخيانة: قادةٌ عاجزون، عالمٌ غير مُكترِث، واحتلالٌ يتعمَّقُ يومًا بعد يوم.

ورُغمَ هذا السواد، هناكَ محاولات جديدة لبعث السياسة الفلسطينية من رمادها. بعضُ المبادرات الدولية، مثل “إعلان نيويورك” برعايةٍ سعودية–فرنسية، تُحاولُ الدَفعَ بمسارٍ سياسيٍّ جديد. وهناكَ أيضًا مؤتمراتٌ وطنية فلسطينية مستقلّة تَعكُسُ رغبةَ قوى مدنية وأكاديمية في إعادةِ بناءِ مشروعٍ وطني جامع. هذه الجهودُ تُركّزُ على ما هو أبعد من إصلاحٍ إداري شكلي: فهي تدعو إلى مُساءلة حقيقية وتعدُّدية سياسية وإشراك الشباب والشتات وبناء مؤسّسات تُمثّل الشعبَ فعلًا لا مجرّد النُخَب الحاكمة.

لكنَّ العقبات جسيمة. القيادةُ الحالية تخشى أيَّ تغييرٍ قد يُهدِّدُ بقاءها. المجتمع الدولي يتردّدُ في دَعمِ انتخاباتٍ فلسطينية خوفًا من عودة “حماس”. وإسرائيل من جهتها تعملُ بشكلٍ منهجي على تقويضِ أيِّ محاولة لإعادةِ بناء المؤسّسات الفلسطينية، مُعتبرةً أنَّ أيَّ وحدةٍ فلسطينية تُشكّلُ خطرًا على مشروعها. ومع ذلك، يبقى إحياء السياسة الفلسطينية شرطًا لا غنى عنه، وإلّا فإنَّ الفلسطينيين سيبقون بلا عنوانٍ سياسيٍّ جامع، وسيظلُّ أيُّ حديثٍ عن سلامٍ مجرّدَ وَهم.

لعلَّ الخطوةَ الأولى هي أن يتوقّف المجتمع الدولي عن التمسُّك بالوَهم: لا الهيمنة العسكرية الإسرائيلية قادرةٌ على تحقيقِ الاستقرار، ولا الإصلاح التكنوقراطي الفلسطيني قادرٌ على صناعةِ دولة. كلا النهجَين ثبتَ فشله. الخطوة الثانية هي أن تتحرّكَ تحالفاتٌ إقليمية ودولية بخطواتٍ خلّاقة لا أن تظَّل أسيرةَ ردودِ الفعل. تجربةُ السبعينيات أثبتت أنَّ المبادرات الإقليمية الجريئة مثل زيارة الرئيس أنور السادات للقدس يُمكِنُ أن تفتحَ أبوابًا لم تَكُن واردة في الحسابات. الخطوة الثالثة هي دَعمُ عمليةٍ سياسية فلسطينية حقيقية: انتخاباتٌ شفافة، مؤسّسات خاضعة للمساءلة، مجتمعٌ مدني نشط، وقيادة جديدة تَعكُسُ تطلُّعات شعبها. مجرّدُ ترديدِ شعارات “حل الدولتين” من دونِ أدواتٍ حقيقية لتحقيقه لم يَعُد مُقنعًا.

يبقى السؤال الأهم: إلى متى ستُواصِلُ الولايات المتحدة حمايةَ الوضعِ القائم ودعمه ماليًا وسياسيًا رُغمَ أنه غير قابل للاستمرار ويضرُّ بمصالح الطرفَين؟ هذا السؤال طُرِحَ قبل نصفِ قرن على لسان المفكر الأميركي جورج دبليو بول، واليوم يبدو أكثر إلحاحًا. فالدعمُ الأميركي غير المشروط شَجَّعَ إسرائيل على سياساتٍ قد تكون مُدمّرة لمستقبلها ذاته. ربما لم يَعُد هناكَ بديلٌ عن نهجٍ مُتعدّد الأطراف يضمُّ الأوروبيين والعرب وقوى دولية أخرى لإعادة صياغة الحوافز وتغيير مسار اللعبة.

في المحصلة، يعيشُ الإسرائيليون والفلسطينيون في مأزقٍ مزدوج: طرفٌ يتأرجَحُ بين الغطرسة العسكرية والنوستالجيا السياسية، وآخرٌ غارقٌ في الجمود واليأس. لكنَّ التاريخَ يعلّمنا أنَّ التحوّلات قد تأتي فجأة: زيارة السادات، الانتفاضة الأولى، اتفاقيات أبراهام-كلها  كانت مفاجآت في وقتها. التحدّي اليوم هو ما إذا كان لدى الفاعلين الإقليميين والدوليين الشجاعة والخيال لصُنعِ مسارٍ جديد. فالسلامُ لن يُولَدَ من الهيمنة العسكرية التي تُسَوَّقُ كاستراتيجية، ولن يأتي من تكرارِ شعاراتٍ جوفاء عن أوسلو أو “الإصلاح”. إنما قد يُولَدُ، إن وُلِدَ، من إحياءِ السياسة على الجانبين: مواجهةُ الواقع كما هو، إعادةُ بناءِ مؤسّساتٍ ذات مصداقية، والاعترافُ بأنَّ التعايُشَ ليس حلمًا رومانسيًا بل ضرورة وجودية. الطريقُ ضيّقٌ ومليءٌ بالعقبات، لكنه وحده القادر على إخراج الإسرائيليين والفلسطينيين من هذا الطريق المسدود.

Exit mobile version