أعادت الضربةُ الإسرائيلية على الدوحة رَسمَ معادلات الأمن والسياسة في الخليج العربي، لتضع دول المنطقة أمامَ اختبارٍ صعب بين الحفاظ على الاستقرار الداخلي ومواجهة تهديد خارجي غير مسبوق. وفيما تؤكّدُ على التمسُّك بالمسارِ الديبلوماسي، تواصِلُ هذه الدول تعزيز دفاعاتها وإعادة حساباتها الاستراتيجية.
مينا العُرَيبي*
وصلت العلاقات بين إسرائيل ودول الخليج العربي إلى أدنى مستوياتها منذ عقود. وقد يُعَدُّ قرارُ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو استهداف الدوحة في 9 أيلول (سبتمبر)، أكثر القرارات حماقةً خلال سنوات حكمه المضطربة.
قُتِلَ ستةُ أشخاص، بينهم ضابط أمن قطري، في الغارات الإسرائيلية التي استهدفت الدوحة بعد ظهر الثلاثاء، بالإضافة إلى إصابةِ عددٍ آخر. وقد زادَ مقتلُ مواطنٍ قطري من خطورة هذا الهجوم، خصوصًا في دولةٍ ذات عدد سكان قليل وترابُط اجتماعي وثيق.
وباستهدافه لدولةٍ خليجية، تجاوز نتنياهو خطًا أحمر جيوسياسيًا لم تَكُن إسرائيل تجاوزته من قبل. ومن الناحية الاستراتيجية، وضع ذلك العالمَ العربي على مسارٍ مختلف. والآن، يخشى الجميع أن تُصبِحَ إسرائيل قادرةً على العملِ على هواها من دونِ قيود، فتضربُ حيثما ومتى تشاء.
سيكون لنتائج غارة الدوحة أثرها في أربعة مجالات: دور الدوحة كوسيط، وعلاقة إسرائيل مع قطر، وتصاعُد المخاوف الأمنية في دول الخليج، والديناميكيات الأوسع للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
تَوَقّفَ الدورُ المُتواصِل لقطر كوسيطٍ بين إسرائيل و”حماس”، مؤقتًا، في الوقت الحالي. وأعلنت الدوحة رسميًا أنها ستستمر في القيام بهذا الدور، بينما حثّتها كلٌّ من الولايات المتحدة وبريطانيا على الاستمرار في هذه المهمة. لكن هذا وحده لا يكفي؛ إذ إنَّ المحادثات قد توقفت فعليًّا منذ 9 أيلول (سبتمبر)، ولا حاجةَ للقول إنَّ الثقة بين إسرائيل ودول المنطقة وصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق.
أما على الصعيدِ الإقليمي، فالعواقب ستكونُ بالغة. فقد أدانت دول مجلس التعاون الخليجي سريعًا الضربة، واعتبرتها جميعًا هجومًا على الخليج بأسره. وهذا يتركُ تداعياتٍ كبيرة على إسرائيل، خصوصًا أنَّ كُلًا من الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين ترتبطان معها بعلاقاتٍ رسمية عبر اتفاقيات أبراهام. وبعد مرورِ خمس سنوات على تلك الاتفاقيات، تَجِدُ إسرائيل نفسها معزولةً بشكلٍ ملحوظ عن دول الخليج، حتى لو لم تُقطَع العلاقات رسميًا.
في السابق، لم تكن إسرائيل تُعتَبَرُ تهديدًا مباشرًا لأمن الخليج. بل على العكس، كان المسؤولون السياسيون والأمنيون الإسرائيليون يسعون منذ سنوات إلى إقناعِ دول الخليج بأنهم يقفون إلى جانبها في مواجهة التطرُّف. غير أنَّ المواقف المتطرّفة المتزايدة للحكومة الإسرائيلية نفسها أضعفت هذا الطرح. ومع الهجوم على الدوحة، باتت إسرائيل تُعتَبَرُ الآن تهديدًا مباشرًا من قبل دول الخليج.
إنَّ اعترافَ إسرائيل الصريح بالمسؤولية عن الهجوم على الدوحة، وإعلانها استعدادها لتكراره، رَسّخَ هذه القناعة لدى قادة الخليج. ولعلَّ ما قاله أنور قرقاش، المستشار الديبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، يُوضّحُ ذلك: “الحروبُ الإسرائيلية، ومغامرات الميليشيات، وأزمات المنطقة أعادت رسم الخريطة السياسية خلال العامين الماضيين”، مُضيفًا: “المعاناة الإنسانية وتداعيات الزلازل الجيوسياسية لا تزال تتكشَّف”. واليوم، تنظرُ دول الخليج إلى إسرائيل باعتبارها دولةً مُعتدية، وستأخذ هذا الأمر في الحسبان في تخطيطها الاستراتيجي بعيد المدى.
بعدَ تسعة أيام من الهجوم على الدوحة، اجتمعَ مجلس الدفاع لدول مجلس التعاون الخليجي. وكان البيانُ الصادر لاحقًا واضحًا في تأكيده على هذا التهديد الجديد. وقد كرّر البيان أنَّ “الهجوم على دولة قطر هو هجومٌ على جميع دول مجلس التعاون”، وأوضح أنَّه “في ضوء العدوان الإسرائيلي، سيقوم المجلس باتخاذ الإجراءات التنفيذية اللازمة لتفعيل آليات الدفاع المشترك وقدرات الردع الخليجية”.
وقد أخذت واشنطن علمًا بهذا الموقف الخليجي. فما زالت الولايات المتحدة تُعتَبَرُ الضامنَ الرئيس -وإن لم يكن الوحيد- للأمن في المنطقة. وقد بلغ مستوى الثقة في واشنطن ذروته بعد تحرير الكويت في العام 1991، لكنه بدأ بالتراجع تدريجًا في السنوات الأخيرة. وقد تسارع هذا التراجع نتيجةَ إخفاقها في التحرُّك السريع والفعال عقب هجمات الميليشيات المدعومة من إيران على السعودية في العام 2019، وعلى الإمارات في العام 2022.
ومع ذلك، شدد المسؤولون القطريون على أنَّ علاقاتهم الدفاعية مع الولايات المتحدة لا تزال قوية. أما الرئيس الأميركي دونالد ترامب فقد عبّر عن شعوره بـ”الأسف الشديد” إزاء الهجوم، قائلًا إنه عَلِمَ به في اللحظة الأخيرة فقط. لكنَّ الأهم من ذلك أنَّ واشنطن تبقى الفاعل الوحيد القادر في نهاية المطاف على كبح إسرائيل ومنعها من مواصلة ضرباتها في المنطقة.
خلال زيارته إلى الدوحة، أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أنَّ اتفاقيةَ دفاعٍ جديدة يجري وضعها في صيغتها النهائية. ولم تتضح بعد سوى تفاصيل قليلة حولها، لكن المتحدّث باسم وزارة الخارجية القطرية، ماجد الأنصاري، أوضح أنَّ الهجوم الإسرائيلي “يسرّع الحاجة إلى إبرامِ اتفاقٍ استراتيجي دفاعي جديد بيننا وبين الولايات المتحدة”.
وفي وقتٍ لاحق من ذلك الأسبوع، وقّعت السعودية اتفاقًا دفاعيًا مع باكستان، ما يُسلّطُ الضوء أيضًا على تغيُّرٍ في حسابات الأمن الخليجي. فقد أعلن وزير الدفاع السعودي، الأمير خالد بن سلمان، أنَّ البلدين يقفان جنبًا إلى جنب في مواجهة “المعتدي”، من دون أن يذكره بالاسم. وقال مسؤولٌ سعودي لوكالة “رويترز” إنَّ الاتفاقَ “شاملٌ في مجال الدفاع، ويُغطّي جميع الوسائل العسكرية”، بما في ذلك القدرات النووية الباكستانية. ورُغمَ العلاقات الوثيقة بين الرياض وإسلام آباد منذ سنوات، فإنَّ رفعَ مستوى الروابط الأمنية ليشمل الدفاع المشترك يوجّهُ رسالة واضحة.
كما إنَّ الهجومَ على الدوحة زاد من تفاقُم حالة عدم الاستقرار الإقليمي، التي ازدادت سوءًا منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فبعد قمّةٍ طارئة في الدوحة عُقدت بعد ستة أيام على الهجوم الإسرائيلي، أصدرت 57 دولة من منظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية بيانًا قالت فيه إنَّ “صمتَ المجتمع الدولي إزاء الانتهاكات الإسرائيلية المُتكرّرة شجّع إسرائيل على المضي في اعتداءاتها”. لكن مواجهة هذا التهديد لا تزال تحدّيًا سياسيًا مستمرًا، خصوصًا في ظلِّ ضعف الأمم المتحدة والثقة العسكرية المتزايدة لدى إسرائيل.
تتمتّعُ دولُ الخليج بمصادر نفوذ متنوّعة، لكنها تظلُّ حذرة في كيفية استخدامها، إذ تُعطي الأولوية للاستقرار على كلِّ شيءٍ آخر. ولا تزال كلٌّ من الإمارات والبحرين عضوَين في اتفاقيات أبراهام، بينما يراقب العالم عن كثب خطوات السعودية تجاه إسرائيل، خصوصًا مع تنسيقها مع فرنسا حول الاعتراف بدولة فلسطينية. وفي هذا السياق، أوضحت الإمارات أنَّ ضمَّ الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل سُيشكّلُ خرقاً لمبدَإِ اتفاقيات أبراهام.
وبذلك، ورُغمَ تشديد دول الخليج على استمرار اهتمامها بالمسار الديبلوماسي، فإنها تُعزّزُ في الوقت ذاته قدراتها الدفاعية، وتدعو الفاعلين الدوليين إلى ردع إسرائيل، وتُعيدُ تقييم استراتيجياتها في استخدام مصادر قوتها. وتبقى هذه الدول ملتزمة بالسعي نحو اتفاق سلام طويل الأمد مع إسرائيل، غير أنَّ الشعورَ يتزايد بأنَّ الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تُبدي أيَّ اهتمامٍ بالسلام.
قد لا تبدو التصريحاتُ العامة القوية مؤثّرة بحدِّ ذاتها، لكنها تعكس تحوُّلًا حقيقيًا في المواقف. ومع تكثيف المحادثات الديبلوماسية خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، تسعى دول الخليج إلى التأكيد والإثبات بأنَّ إسرائيل قد تجاوزت الخطوط الحمراء في هجومها على الدوحة. ووصف أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، إسرائيل في كلمته أمام الجمعية العامة بأنها “دولةٌ خارجة عن القانون”، ودعا المجتمع الدولي إلى اتخاذ موقف حازم إزاء تصرّفاتها. والآن، تتطلعُ دول الخليج إلى المجتمع الدولي لوَقفِ أيِّ تجاوزاتٍ إسرائيلية إضافية للخطوط الحمراء.
- مينا العُرِيبي هي رئيسة تحرير صحيفة “ذا ناشونال” الإماراتية وكاتبة رأي في مجلة فورين بوليسي الأميركية. يُمكن متابعتها عبر منصة “إكس” على: @AlOraibi