عُمان بين لَهيبِ المناخ وأُفُقِ الاستِدامَة

كابي طبراني*

تقفُ سلطنة عُمان، بجبالها الوَعِرة وصحاريها المُترامية وأنظمة الأفلاج العريقة وسواحلها المُمتدّة، عند مُفتَرَقٍ حسّاسٍ يَجمعُ بين الجغرافيا والمناخ والتنمية. فهذا البلد الخليجي الصغير ليس غريبًا عن الظروفِ البيئية القاسية: قلّةُ الأمطار، ودرجاتُ الحرارة المُرتفعة، وشحُّ المياه شكّلَت مُجتَمَعَه عبر قرونٍ طويلة. لكنَّ تَغَيُّرَ المناخِ اليوم يُضاعِفُ من حدّةِ هذه الظروف، ويُهدّدُ بتَقويضِ التوازُنِ الدقيق بين الإنسان والموارد والاقتصاد. بالنسبة إلى عُمان، أزمةُ المناخ ليست مجرّدَ قضيّةٍ بعيدة، بل تَحدٍّ مُباشِر لمستقبلها المُستَدام واختبارٌ لقدرتها على الحُكمِ والصمود والإبداع.

الحقائقُ صادمة. فغالبية أراضي السلطنة لا تتجاوز كمية الأمطار فيها 100 ملم سنويًا، وُتشيرُ النماذِجُ المناخية إلى ارتفاعٍ مُتَوَقَّعٍ في متوسّط درجات الحرارة يتراوَحُ بين درجتين وأربع درجات مئوية بحلول العام 2050. هذا التغيُّرُ سيُضاعِفُ موجاتَ الجفاف والحرّ، كما سيزيدُ من تكرارِ الأعاصير والفيضانات المُدمّرة. أما ارتفاعُ مستوى البحر فيُهدّدُ مدينتي مسقط وصلالة، حيث تتركّزُ البنية التحتية وكثافة السكان. ومع كونِ السلطنة من أكثر دول العالم شحًّا في المياه، واعتمادها الكبير على المخزون الجوفي المُتناقِص وأنظمة الأفلاج المُهَدَّدة بالاندثار، فإنَّ أمنها المائي بات هشًّا للغاية. أما الزراعة، التي تُسهِمُ بنحو 2  في المئة فقط من الناتج المحلي لكنها تشكل عصبًا لحياة الريف وأمن الغذاء، فتُواجِهُ ضغوطًا مُتزايدة بفعلِ الملوحة والتصحُّر وعدم انتظام الأمطار.

اقتصاديًا، تتضاعفُ هذه الهشاشة بسببِ الاعتماد على النفط والغاز. فعلى الرُغمِ من جهودِ التنويع في إطارِ “رؤية عُمان 2040″، ما زالَ اقتصادُ البلاد رهينًا لتقلُّبات أسواق الطاقة العالمية، ومُهدَّدًا في المدى الطويل بتراجع الطلب على الوقود الأحفوري. بهذا المعنى، لا يُعَدُّ تغيُّرُ المناخ مجرّدَ تهديدٍ بيئي، بل خطرًا وجوديًا على مسارِ التنمية الاقتصادية.

ومع ذلك، لم تقف عُمان مكتوفة الأيدي. فقد وضعت مجموعةً من السياسات والاستراتيجيات: مساهمتها الوطنية المُحَدَّدة في إطارِ اتفاق باريس، الاستراتيجية الوطنية للتكيُّفِ والتخفيف من تغيُّرِ المناخ، واستراتيجية الانتقال التدريجي نحو الحياد الكربوني عبر الطاقة المُتجدِّدة والهيدروجين الأخضر. تَعكسُ هذه الخطط إدراكًا بأنَّ تعزيزَ القدرة على الصمود يجب أن يشملَ المياه والطاقة والزراعة والبنية التحتية الحضرية. كما حاولت الحكومة دَمجَ اعتبارات المناخ في مسارِ التنمية الأشمل من خلالِ مراسيم وقرارات وزارية وآلياتٍ للتنسيق بين القطاعات.

لكنَّ الطموحَ شيءٌ والتنفيذَ شيءٌ آخر. صحيحٌ أنَّ السلطنة رفعت هدفها لخفض الانبعاثات إلى 21 في المئة بحلول 2030، لكن تحقيق ذلك يعتمد إلى حدٍّ كبير على التمويل الدولي ونقل التكنولوجيا وبناء القدرات. الوزارات المعنية مباشرة بقضايا المناخ ما زالت تعاني من ضعف التمويل، فيما تظلُّ الإعانات المُوَجَّهة للكهرباء والمياه أعلى بكثير. ورُغمَ أنَّ إنشاءَ صناديق للطوارئ حَسَّنَ الاستجابة للكوارث بعد الأعاصير الأخيرة، فإنَّ المشاريع طويلة الأمد للتكيُّف تفتقرُ إلى الموارد والتنسيق المؤسّسي الكافي.

إضافةً إلى ذلك، يكشفُ الإطارُ الحَوكَمي للمناخ عن فجواتٍ في المشاركة والمُساءلة. فرُغمَ وجودِ آلياتٍ للشفافية والرقابة، إلّا أنَّ القليلَ من الأدوات المؤسّسية يشملُ المجتمع المدني أو القطاع الخاص في صياغة السياسات. من دونِ مُشاركةٍ أوسع، قد تتحوّلُ الاستراتيجيات المناخية إلى مجرّدِ إجراءاتٍ بيروقراطية لا تُلامِسُ احتياجات المجتمعات، خصوصًا في المناطق الريفية والساحلية الأكثر تعرُّضًا للمخاطر. الشباب العُماني، الذين يشكلون نسبةً مُتزايدة من السكان ويواجهون تحدّيات البطالة، لا بُدَّ أن يكونَ لهم دورٌ محوري في رَسمِ ملامح التحوُّلِ الأخضر.

إنَّ الاستقرارَ السياسي والاجتماعي الذي عُرِفَت به السلطنة يمنحها ميزةً نسبية في التعامل مع هذه التحدّيات. فعُمان جَنّبَت نفسها الاضطرابات التي شهدتها المنطقة، وحافظت على سياسةٍ خارجية مُتوازِنة. لكنَّ هذا الاستقرار لا يُمكِنُ اعتباره مضمونًا في ظلِّ الضغوط المناخية المُتصاعدة. فشحُّ المياه والغذاء، مقرونًا بضعفِ النموِّ الاقتصادي وتزايُد التطلُّعات الاجتماعية، قد يضغطُ على العقد الاجتماعي القائم. وإن لم تُعالَج الفوارق بين الريف والمدينة، وبين الميسورين وذوي الدخل المحدود، فقد تتحوَّلُ أزمةُ المناخ إلى أزمةٍ سياسية.

فما الذي يتعيّنُ على عُمان فعله لتحويل الهشاشة إلى قدرةٍ على الصمود؟

أوّلًا، يجب أن يُنظَرَ إلى العمل المناخي ليس كملفٍّ بيئي ضيِّق، بل كأساسٍ للتنمية الوطنية. إدارةُ المياه، الزراعة المستدامة، وحمايةُ السواحل يجب أن تحظى بأولوية تُضاهي الإصلاح المالي وتوسيع البنية التحتية. وهذا يتطلّبُ استثمارًا أوسع في أنظمة الري الحديثة، وتقنيات تحلية المياه المقاومة لارتفاع البحر، والطاقة المتجدّدة التي تُخفّفُ الضغطَ عن محطات الوقود الأحفوري كثيفة الاستهلاك للمياه.

ثانيًا، لا بُدَّ من تعزيز المشاركة المجتمعية. ينبغي أن يكون للمزارعين والصيادين والشباب والمجتمعات المحلية صوتٌ أقوى في رَسمِ تدابير التكيُّف، بما يضمن توافقها مع الواقع الميداني لا أن تبقى مجرّدَ خططٍ فوقية. مشاركةُ المجتمع المدني ستُعزّزُ المساءلة وتفتحُ المجالَ للإبداع الضروري للتأقلم مع المتغيّرات.

ثالثًا، على السلطنة أن تستثمرَ في إطار “رؤية 2040” لدَمجِ الأهداف المناخية في استراتيجياتِ التنويع الاقتصادي. فالطاقةُ الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر ليست فقط أدوات لخفض الانبعاثات، بل أيضًا محرّكات لقطاعاتٍ جديدة قادرة على توفير وظائف للشباب وربط الاقتصاد بالأسواق العالمية.

وأخيرًا، يظلُّ التعاون الدولي عنصرًا محوريًا. اعتمادُ السلطنة على التمويل الخارجي لتنفيذ التزاماتها المناخية يَعكسُ الحاجة إلى شراكاتٍ أقوى مع المؤسّسات مُتعدِّدة الأطراف وصناديق المناخ. من خلال ذلك، يُمكنُ لعُمان تسريع انتقالها وتبادُل خبراتها مع دول أخرى تواجه تحدّياتٍ مُشابهة.

إنَّ قصة عُمان تكشفُ حقيقةً أوسع: أزمةُ المناخ لا تقتصرُ على ذوبان الجليد أو الغابات البعيدة، بل تُعيدُ تشكيلَ المجتمعات في أكثر بقاع الأرض عطشًا. قدرةُ السلطنة على الموازنة بين التقاليد والتحديث، وبين الاستقرار والإصلاح، تمنحها أساسًا لبناء المرونة. لكنَّ الوقتَ يضيق. وإذا لم تُتَّخَذ إجراءاتٌ حاسمة لدَمجِ التكيُّف المناخي في جميعِ أبعاد التنمية، فإنَّ الإنجازات التي تحققت بصعوبة قد تتلاشى أمام قسوة الطبيعة.

الخيارُ واضحٌ أمام عُمان: إما التكيُّف بجرأة، أو مواجهة طوفان التحدّيات.

Exit mobile version