تشهد سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد مرحلة معقّدة تتخلّلها صراعاتٌ داخلية وصعودٌ مُتجدّد لتنظيم “داعش”. وبين انسحابٍ أميركي مُرتقَب وتحدّياتٍ طائفية وأمنية، يبقى مستقبل البلاد على المحك.
كارولين روز وكولِن كلارك*
بعد تسعة أشهر على سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في هجومٍ شنّته قوات المعارضة، تُواجِهُ سوريا تحدّياتٍ جديدة ومُتعدِّدة. ففي ظلِّ سيطرةِ “هيئة تحرير الشام” على السلطة، يُعاني البلد من تصاعُدِ الصراعات الطائفية العنيفة، والاعتداءات الإسرائيلية المُتكرّرة على الأراضي السورية، بالإضافة إلى خلافاتٍ داخلية بين أفراد الحكومة الحالية. ويأتي كلُّ هذا في ظلِّ استمرارِ تحدٍ آخر يواجه سوريا، وهو عودة تنظيم “الدولة الإسلامية”، المعروف أيضًا ب”داعش”، إلى الواجهة.
منذ سقوط نظام الأسد في العام 2024، شنَّ تنظيم “داعش” حملةً إرهابية في جميع أنحاء سوريا، مُستهدِفًا الحكومة السورية الجديدة بالإضافة إلى الأقليات المسيحية والشيعية والكردية. في ذروة قوّته في العام 2014، كان التنظيمُ يسيطرُ على ما يقارب ثلث مساحة سوريا. ورُغمَ أنه لم يَعُد يسيطر على أيِّ منطقةٍ في سوريا، وانحصرَ عدد عناصره من حوالي 100 ألف مقاتل إلى 2500 مقاتل حاليًا، إلّا أنَّ التنظيم يستغلُّ حالة الفوضى التي تعيشها سوريا بعد سقوط الأسد لإعادةِ بناءِ نفسه وتشكيلِ كيانه من جديد، ما يُشَكّلُ تحدّياتٍ وعقباتٍ جديدة أمامَ تحقيق الاستقرار المنشود في البلاد.
قدراتُ التنظيم المتطرّف في الاستهداف باتت أكثر تكرارًا ودقّةً وتعقيدًا من ذي قبل، إذ يستهدفُ مواقع تتجاوز نطاقات عملياته التقليدية. ففي حزيران (يونيو) الفائت، على سبيل المثال، فجّرَ انتحاريٌّ تابع ل”داعش” نفسه في كنيسة أرثوذكسية يونانية في دمشق، ما أسفر عن مقتل 25 شخصًا وإصابة 63 آخرين. وبعد شهرين، شنّ التنظيم أكثر من عشرين هجومًا في شمال شرقي سوريا، مُستَخدمًا مزيجًا من تكتيكات حرب العصابات، بما في ذلك إطلاق النار بأسلحةٍ خفيفة، والكمائن، والاغتيالات، والعبوات الناسفة التي استهدفت نقاط تفتيش عسكرية ومركبات حكومية. في العام الماضي، تبنّى “داعش” 294 هجومًا في سوريا، مُقارنةً بـ121 هجومًا في العام 2023؛ فيما تشير تقديرات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان إلى أعدادٍ أكبر بكثير.
تُمثّلُ هذه الهجمات تحدّيًا صارخًا لجهود الحكومة السورية الجديدة الرامية إلى استقرار الوضع في البلاد. فالوضعُ الأمني السوري، الهَشّ أصلًا، يتّسمُ بتصاعد التوترات بين الجماعات السُنّية والعلوية والدروز. ومع تزايد وتيرة الهجمات الإرهابية، فإنَّ الحكومة السورية الجديدة تخاطر بخسارة شرعيتها السياسية لفشلها في حماية الأقليات. وفي الوقت نفسه، يواجه الشعب السوري احتمالًا حقيقيًا بعودة واسعة النطاق للإرهاب.
وسيزدادُ الوضعُ خطورةً في حال قيام إدارة دونالد ترامب بتنفيذ خطتها التي أعلنها الرئيس الأميركي في نيسان (أبريل) الماضي، والتي تتضمن سحب نحو 2,000 جندي أميركي مُتمركزين في البلاد. فمنذ العام 2014، كانت الولايات المتحدة الركيزة الأساسية ل”التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش””، وهو تحالفٌ دولي لمحاربة الإرهاب عملَ مع القوات الأمنية المحلية للقضاء على التنظيم. وبدون مشاركة واشنطن الفعّالة، سيجدُ الأعضاءُ الباقون في التحالف، وعددهم 88 دولة، صعوبةً في كبح جماح “داعش” أو دعم الفصائل المحلية، مثل قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، وهي ميليشيا كردية كانت قد توصّلت أخيرًا إلى اتفاقٍ (لم يُنَفَّذ بعد) للاندماج مع الدولة.
ومع تقلّصِ عدد القوات الأميركية وتصاعُد التوتّرات الطائفية، قد تجد القوات السورية الناشئة صعوبةً متزايدة في الحفاظ على سلطتها وسيطرتها على البلاد. ومن المرجح أنَّ القوى البشرية المشتركة بين الجيش السوري و”قسد” لن تكونَ كافية لمنع عودة “داعش”. لذلك، ولردع “داعش”، يجب على الولايات المتحدة الحفاظ على وجودها في سوريا بعد العام 2026. ستحتاج القوات الأمنية السورية الجديدة إلى دعمٍ أميركي يتضمّن موارد استخباراتية ورصد وتجسُّس، بالإضافة إلى بناء القدرات، وذلك من خلال نشر قوة أميركية من مئات الجنود. وإذا توقفت واشنطن عن دعم دمشق في مكافحة الإرهاب، فقد يفشل النظام السوري في توحيد البلاد ومنع عودة “داعش”. وإذا تمكن التنظيم الإسلامي المتطرف من استعادة نفوذه في سوريا، فسيقوم حتمًا بتنفيذ هجماتٍ في المنطقة وخارجها. لذا، من مصلحة واشنطن منع “داعش” من إعادة بناء نفسه وإعادة زعزعة استقرار منطقة المشرق العربي بأكملها مجدَّدًا.
عودة للثأر
يرى “داعش” في الوضع المُتردّي في سوريا المُنقَسِمة والهشّة فرصةً سانحة. يسعى قادةُ التنظيم إلى استغلال الانقسامات الطائفية والفكرية والإيديوليوجية في البلاد لتجنيد مقاتلين جُدد وإعادة بناء “الخلافة”. وبقيامه بهذه الهجمات، يأمل “داعش” في إثبات عجز الحكومة السورية الحالية أو بأنها غير راغبة في حماية السكان، وخصوصًا الأقليات. وأشارَ تقريرٌ حديث صادر عن فريق الرصد التابع للأمم المتحدة إلى أنَّ “”داعش” سيبقى يُشكّلُ تهديدًا خارجيًا طالما بقيت الانقسامات في البلاد، ما يُوفّرُ له مساحة للتحرُّك والتخطيط لهجماته”.
في الواقع، كان “داعش” نشطًا بشكلٍ ملحوظ خلال الربيع الماضي. ففي آذار (مارس)، عقب أحداث العنف بين السُنة والعلويين في مدينة اللاذقية الساحلية، شنَّ “داعش” سلسلة هجمات ضد قوات سوريا الديموقراطية. وفي أيار (مايو)، شنّ هجمات أخرى بعد اشتباكات جنوب دمشق بين قوات الأمن التابعة للحكومة السورية الجديدة والمجتمعات السنّية والدروز. وفي الشهر نفسه، بعد أسبوع من لقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، في الرياض، نفّذَ “داعش” سلسلةً من التفجيرات والكمائن في سوريا والعراق. كما ادّعى مسؤوليته عن تفجير عبوة ناسفة استهدفت “مركبة تابعة للنظام المُرتد” في جنوب سوريا، ما أسفر عن مقتل سبعة من عناصر الجيش السوري على الأقل، وهو أول هجوم يُسجل ضد قوات النظام السورية منذ سقوط الأسد. وبعد أسبوع، استهدفت عملية تفجيرية أخرى نفذها “داعش” في جنوب سوريا مقاتلين من الجيش السوري الحر، وهي ميليشيا مدعومة من الولايات المتحدة. والجدير بالذكر أنَّ جميع هذه الهجمات وقعت في مناطق تسيطر عليها الحكومة السورية.
رافقَ هذا التصاعد في أعمال العنف ارتفاعٌ في حملات الدعاية التي يشنّها “داعش” ضد الشرع و”هيئة تحرير الشام”. ففي نشرته الإلكترونية الأسبوعية، التي تصل إلى الجهاديين في جميع أنحاء العالم وتؤثّر فيهم، درج التنظيم على تشويه سمعة الشرع والحكومة الجديدة، والدعوة إلى انشقاق جنود الجيش السوري. ويَطلقُ دعاةُ “داعش” على الشرع لقب “الجولاني”، في إشارةٍ إلى ادّعاءاتٍ مفادها أنَّ الرئيس السوري، المعروف سابقًا باسم أبو محمد الجولاني، هو عميلٌ للموساد الإسرائيلي، تمَّ تنصيبه لإحداثِ تغييرٍ في النظام داخل سوريا لصالح إسرائيل. كما وصف “داعش” “هيئة تحرير الشام” بأنها “كافرة” واتّهَمها بأنها دُمية بيد الولايات المتحدة وإسرائيل. منذ وصول “هيئة تحرير الشام” والشرع إلى الحكم، شنّت إسرائيل غارات جوية وتوغّلات برية متكررة في سوريا، ما ساهم في إثارةِ حالة عدم الاستقرار التي يسعى “داعش” إلى استغلالها.
الأمرُ المُقلق في الوضع هو أنَّ تزايد قوة “داعش” تزامَن مع انسحابٍ تدريجي للقوات الأميركية من سوريا والعراق، ما يُثيرُ تساؤلاتٍ حول مستقبل التحالف الدولي. ففي أيلول (سبتمبر) 2024، أعلنت الولايات المتحدة والعراق معًا أنَّ التحالفَ سيُنهي مهمّته العسكرية في العراق بحلول نهاية أيلول (سبتمبر) 2025، وفي سوريا بحلول أيلول (سبتمبر) 2026. وفي نيسان (أبريل)، أعلنت القيادة المركزية الأميركية عن تخفيض وجودها العسكري في سوريا من 2000 جندي إلى 1400 بحلول نهاية هذا العام. وقد سلّمت الولايات المتحدة بالفعل السيطرة على ثلاثٍ من قواعدها الثماني في البلاد إلى قوات سوريا الديموقراطية، مع خططٍ للاكتفاء بقاعدة واحدة فقط. ورُغمَ أنَّ قادة البنتاغون حثّوا الإدارة على الإبقاء على ما لا يقل عن 500 جندي في سوريا، إلّا أنَّ الإدارة أشارت إلى احتمال إجراء تخفيضات إضافية. وفي العراق المجاور، يجري مسار موازٍ. فمع تحديد موعد الانسحاب لنهاية عام 2026، تعيد القوات الأميركية تمركزها من بغداد إلى أربيل، في كردستان العراق، وتخطط لتقليص وجودها بشكل كبير إلى عدد صغير، لم يُحدد بعد، من المستشارين العسكريين.
التمسّك بالنهج نفسه
عندما التقى ترامب بالشرع في أيار (مايو) في الرياض، كانت تلك المرة الأولى التي يلتقي فيها رئيسٌ أميركي برئيسٍ سوري منذ ربع قرن. ويعود الدافع الرئيس لإدارة ترامب لإعادة إنخراطها في سوريا إلى رغبتها في إتمامِ الانسحاب الكامل من العراق وسوريا، وهو هدفٌ لا يمكن تحقيقه إلّا إذا أثبتت الحكومة السورية الجديدة قدرتها على مكافحة تنظيم” داعش”. ولتحقيق هذا الهدف، أولت واشنطن أهمية قصوى لمكافحة الإرهاب، حيث قدمت دعمًا مباشرًا في العمليات ضد “داعش” وشاركت دمشق في معلومات استخباراتية ساهمت في إحباط ما لا يقل عن ثمانية هجمات لتنظيم “داعش”. كما ضغطت إدارة ترامب على الحكومة السورية الجديدة لتعزيز جهود إعادة الإعمار والوحدة الوطنية، مثل دمج قوات سوريا الديموقراطية في الجيش النظامي.
إنَّ تطوّرَ الوضع في سوريا، على الأقل جُزئيًا، سيتوقّف على مدى التزام واشنطن بمواصلة مكافحة “داعش”. بعد عقدٍ ونصف من العنف المُرَوّع الذي مارسته جهاتٌ عديدة، حكومية وغير حكومية، تواجه سوريا طريقًا طويلًا نحو الاستقرار حتى في أفضل الظروف. وأيُّ انسحابٍ أميركي سيؤدّي إلى تمكين داعش وغيرها من الجماعات الإرهابية من توسيع نطاق هجماتها، مما يزيد من زعزعة استقرار البلاد، ويقوّي الانقسامات بين الفصائل المتصارعة، بل ويفتح الباب أمام المتشدّدين الشيعة المدعومين من إيران، بما في ذلك “حزب الله”. وإذا سقطت الحكومة في دمشق، أو فشلت في توحيد مختلف مكوّنات المجتمع السوري، فسيعود الصراع والحرب الأهلية مجددًا إلى سوريا.
بدلًا من الانسحاب المبكر من سوريا المُنقَسمة والهشّة، ينبغي على الولايات المتحدة وشركائها في التحالف الدولي الاستثمار الطويل المدى في تعزيز أمن البلاد. لقد حققت العملية العسكرية التي تقودها واشنطن نجاحات كبيرة في مكافحة تنظيم “داعش” خلال العقد الماضي، وتعاونت القوات الأميركية بشكلٍ فعّال مع قوات سوريا الديموقراطية والجهات المحلية الأخرى في تدابير مكافحة الإرهاب. ورُغمَ أنَّ تنظيم “داعش” ما زال مهزومًا إلى حدٍّ كبير، إلّا أنَّ المرحلة الانتقالية في سوريا بعد سقوط النظام السابق خلقت بيئةً مواتية لعودة التنظيم. لذا، ينبغي على الولاديات المتحدة عدم الانسحاب من سوريا إلّا عندما تصبح القوات السورية قادرة على حماية البلاد من “داعش” وغيرها من الجماعات الإرهابية. وهذا لم يتحقق بعد.
إنَّ انسحابًا أميركيًا مُبكرًا في هذه اللحظة الهشّة في سوريا قد يُمكّنُ “داعش” ويُعزّز قوته، ويُقوّض المهمة ذاتها التي جاءت القوات الأميركية من أجلها في المقام الأول. لذلك، ينبغي على واشنطن ألّا تُقلّص وجودها العسكري وعدم المضي قدمًا في خطتها للانسحاب. بل يجب عليها أن تُواصلَ مشاركة المعلومات الاستخباراتية مع دمشق لإحباط هجمات “داعش”، وأن تكثّفَ تدريب القوات السورية على مكافحة الإرهاب، جنبًا إلى جنب مع قوات سوريا الديموقراطية وغيرها من الشركاء المحليين. وإلى جانب ذلك، ينبغي على إدارة ترامب أن تمنع حلفاء الولايات المتحدة من الإقدام على أفعالٍ وإجراءات—مثل الضربات الإسرائيلية على الأراضي السورية—التي قد تؤدي إلى استمرار الفوضى التي يسعى “داعش” إلى استغلالها.
وأخيرًا، بدلًا من إنهاء مشاركة الولايات المتحدة في التحالف الدولي، ينبغي على واشنطن توسيع هذا التحالف ليشمل سوريا نفسها—وهي خطوة من شأنها تمكين التدريب المشترك بشكل أفضل، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وتنفيذ عمليات مشتركة. ولهذا الغرض، يجب على الولايات المتحدة وشركائها في التحالف أن يحددوا الشروط التي ينبغي على “هيئة تحرير الشام” الالتزام بها للانضمام. وبلا شك، ستكون لدى الأعضاء الحاليين تحفظات على قبول جهاديين سابقين مثل الشرع. لكن إذا كان الهدف هو هزيمة “داعش” بشكلٍ نهائي، فيجب إشراك الحكومة السورية الجديدة وتمكينها من النجاح.
- كارولين روز هي مديرة “معهد نيو لاينز” وأستاذة مشاركة في جامعة جورج تاون في واشنطن.
- كولِن كلارك هو مدير الأبحاث في مجموعة صوفان، وهي شركة استشارات عالمية في مجال الاستخبارات والأمن.
- يصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِين أفِّيرز” الأميركية.