مآلاتُ العُنف السياسي على مُستقبل أميركا!

الدكتور ڤيكتور الزمتر*

شهدَ، هذا الأسبوع، مقتلَ ثلاثة ضباط شرطة وجرح اثنين، إضافةً إلى مقتل القاتل، على خلفية خلاف محليٍّ، في منطقةٍ زراعيةٍ من ولاية بنسلڤانيا الأميركية.

تأتي هذه الحادثةُ بعد أُسبوعٍ من مقتل الناشطُ الأميركي اليمينيُّ المُتشدِّدُ، “تشارلز كيرك”، أثناء تجمُّعٍ في ولاية “يوتا”. والناشطُ كيرك هو شابٌ في مطلع الثلاثينات، أسَّسَ مُنظَّمة “Turning Point”، (نُقطة تحوُّل)، وهي من أقوى وأفعل المُنظَّمات الشبابية في أميركا، الداعية إلى السياسات المُحافظة، في أوساط الطلاب.

يكادُ لا يمرُّ أسبوعٌ أو شهرٌ، دون حدوث عملية قتلٍ، لدرجة غدا الأمرُ مُقلقًا على وحدة الولايات المتحدة ومُستقبلها. حيالَ ذلك، تنادت أصوات حكيمة عدة إلى الدعوة إلى التسانُد والتضامن، تعبيرًا عن وحدة المجتمع.

وبانتظار ما ستكشفُه التحقيقاتُ عن دوافع الإغتيال، تركَ اغتيالُ “كيرك” خضَّةً كبيرةً في الأوساط السياسية والإعلامية، نظرًا لألمعيته بتحريك جيلٍ عريضٍ من المُحافظين المؤيِّدين للرئيس الأميركي دونالد ترامب. وهذا ما زاد الإحتقانُ العميقُ، بين الجمهوريين والديموقراطيين.

شكَّلت ردَّةُ فعل الرئيس ترامب، على مقتل “كيرك”، انتقادًا واسعًا من قبل خصومه بسبب دعوته لتصنيف حركة “Antifa” إرهابية، مُتوعِّدًا بأقصى ما تسمحُ به القوانين من عقوباتٍ. واسمُ الحركة ينحدرُ من كلمة “Anti- Fascist”، التي تجمعُ خليطًا من التوجهات اليسارية المُعارضة لإيديولوجيات اليمين المُتشدِّد.

خلال عامٍ واحدٍ، تصاعدَت مُعدَّلات العُنف السياسي، ضدّ شخصياتٍ سياسيةٍ، كان أبرزُها تعرُّضُ ترامب، الرئيس- المُرشَّح، نفسُه إلى محاولتي اغتيال، أخطرُها كانت يوم 13 حزيران (يوليو)، حيث نجا منها بأعجوبةٍ. وفي هذا السياق، لا يُمكنُ إغفالُ قائمة الرؤساء الأميركيين، الذين لاقوا حتفَهم غيلةً واغتيالًا، ابتداءً بأبراهام لينكولن، في العام 1865، وإنتهاءً بالرئيس جون كينيدي، في العام 1963.

ومع ازدياد أعمال العُنف السياسي، بدأ السياسيون يتحسَّسُون رؤوسَهم، بمن فيهم من هم في قمَّة الهرم السياسي، يقينًا منهم أنَّ لا أحدَ منهم عصيًّا على رصاص الغدر. لذلك، لم يعدْ الحديثُ على العُنف السياسي مُجرَّدَ زعمٍ أو وهمٍ، بل أضحى واقعًا مُقلقًا، يزيدُ من خطورته شيوعُ دفاع السياسيين والإعلاميين عن أبطاله! وهذا ما يرسمُ علامات استفهام حول مآلات هذا المنحى المُدمِّر على وحدة شعبٍ ومُستقبل وطنٍ، وُصفَ بأنَّه بلدُ المُهاجرين، ما جعلَه أكثرَ البُلدان تنوُّعًا عرقيًّا ودينيًّا وثقافيًّا.

إنٍّ دعمَ العُنف السياسي، من مُنطلقٍ حزبي، لا يُبشِّرُ بأمن المجتمع المُركَّب، والأحوجُ لمسار العدالة وللإفساح أمام عمل المؤسَّسات، دون محسوبياتٍ جمهوريةٍ أو ديموقراطيةٍ. فخروجُ التوجهات السياسية الأميركية على قواعد الإنتظام العام، يُفضي إلى صعوبة التنبُّؤ بمُستقبل البلاد، التي يبدو أنَّها دخلت مرحلةَ الترهُّل.

إنَّ أبرزَ دوافع العُنف المُسلَّح، هو تشريعُ حمل السلاح لدى الأميركيين. ولهذا التشريع قصَّةٌ طويلةٌ، تعودُ إلى التعديل الثاني من الدستور، عام 1789، الذي ينصُّ على  أنَّ “وُجودَ ميليشيا مُنظَّمة هو أمرٌ ضروريٌّ للحفاظ على أمن ولايةٍ حُرَّةٍ. لذلك، فإنَّ حقَّ الأشخاص باقتناء السلاح وحمله لا يجب انتهاكُه”. أمّا الجهة الدستورية، الذي لها الحق في هذا الموضوع الحسّاس، فهي المحكمة العليا، التي عجزت عن الفصل في الحقِّ المُطلق للأميركي باقتناء السلاح الحربي، رُبَّما بسبب حقّ الولايات بتحديد طُرُق حمله. إلّا أنَّ المحكمة العليا ارتأت دعمَ نظرية “الحقّ الفردي”، على حساب نظرية “الحقّ الجماعي” لاقتناء وحمل السلاح.

لقد نجحَ الأميركيون، على مدى عُقودٍ، في إرساء نظامٍ قائمٍ، ليس فقط على سيادة القانون، بل على تسييد المؤسَّسات، وإدارتها بالكفاءة والنزاهة والتجرُّد، دون مُحاباةٍ أو محسوبياتٍ، وإن شابت مراحلَ تطوُّر النظام السياسي بعضُ السقطات، لا سيَّما في مجال التمييز العرقي. ولطالما اعتُبرَ النظامُ السياسي الأميركي مُثالاً للديموقراطية ولدولة الإنسان والقانون، قبل أنْ تُحوِّلَه مراكزُ القوى، المُمسكةُ بمفاصل البلاد، إلى نظامٍ تُبيحُ مصالحُه استباحة المبادىء التي ادَّعى حملَ مشعلها. فقد أقدمت الإداراتُ الأميركيةُ المُتعاقبةُ، لا سيَّما بعد الحرب العالمية الثانية، على التخطيط للعديد من الإنقلابات والإجتياحات، حتى صحَّ القولُ بأنَّ الدولَ القليلةَ المُستقرَّةَ، هي تلك التي لا وُجود لسفارةٍ أميركية مُقيمةٍ فيها.

لم يسبقْ للذاكرة الحيَّة أن سجَّلت مصداقيةُ الولايات الأميركية هذا الحدّ من التهشيم بهالتها، ما جعلَ بعضَ مُفكِّريها وباحثيها يرتابون من أنْ تكونَ البلادُ قد دخلت فعلًا مرحلةَ الإنحلال. فالتخوُّفُ من نهاية العصر الأميركي، لا يبدو قريبَ الحصول، أقلُّه لتاريخه، والولاياتُ المُتحدةُ ما تزالُ في صدارة القوى العسكرية والتكنولوجية.

فعوارضُ الوهن لا تقتصرُ على الهجمة على منزلة الدولار الأميركي العالمية، ولا على صعود قوى مُنافسة، اقتصاديًا وعسكريًا ومِنعةً ديموغرافيةً، بل على مخاطر التفكُّك الداخلي، لأسبابٍ تبدأُ بما شابَ اللُّحمة العائلية من وهنٍ، مُرورًا بالتنشئة التربوية وانتهاءً بنمط الحياة، حيث تسود الأنانيةُ الفرديةُ.

إنَّ المُنافسةَ السياسيةَ مشروعةٌ، في حياة الشعوب والأُمم، بل هي ضرورةٌ تستوجبُها مصلحةُ الوطن. أما العُنفُ السياسيُّ، فهو انتحارٌ مرذولٌ، لكونه يجعلُ من المُنافسين أعداءً. من هنا، حاجةُ المُلك إلى الحكم الرشيد، وإلى الحاكم الحليم، للسهر على حُسن سير العدالة، مُتحرِّرًا من شهوة التسلُّط ومن لوثة النرجسية القاتلة.

لقد بلغت الخصومةُ بين الجمهوريين والديموقراطيين حدَّ العداوة القاتلة، بشكلٍ غير مسبوقٍ، وتحديدًا، مُنذ دخول الرئيس ترامب حلبةَ التنافُس السياسي على قيادة البلاد. وللإنصاف، أحدثت شخصيَّةُ الرئيس الجمهوري الحالي المُحافظة، انعطافةً كبيرةً في مُقاربة العمل السياسي. ولاقاه الحزبُ الديموقراطي اللِّيبرالي، إلى جانب غالبية وسائل الإعلام النافذة، بالمُعارضة الحادَّة. وبلغت المواجهةُ ذُروتها، باقتحام الكابيتول، يوم السادس من كانون الثاني (يناير) 2021، غداة إعلان فوز الرئيس السابق جو بايدن بالرئاسة، ما أضفى البُعدَ الشخصي على الكباش السياسي.

مسؤوليةُ المأزق السياسي الحالي تقعُ على الحزبين الرئيسيين، على حدَّ سواء. وللخروج منه، على الفريقين اعتبارُ اغتيال “تشارلز كيرك”، رئيس مُنظَّمة “نُقطة تحوُّل”، جرس إنذارٍ، من الوجاهة اتخاذُه نُقطةَ تحوُّلٍ، ليُعيدَ الأميركيون، قادةً وعامةً، النظر في مُعاطاتهم السياسية، قبل فوات الأوان.

فإنْ كانَ للمجتمع الأميركي أنْ ينعمَ بالمِنعة والسِعَة، يتوجَّبُ على نُخَبه السياسية والفكرية إعادةُ الإعتبار للقِيَم العائلية، واحترام بنى العقد الإجتماعي، الضابط للُّحمة الوطنية، بين مُكوِّناتٍ مُجتمعيةٍ غايةٍ في التنوُّع والتمايُز. ولبلوغ هذا الهدف السامي، لا بُدَّ من ترشيد الحُكم بالحُلم لا بالنزق، وبالعدل لا بالإنتقام.

Exit mobile version