أردوغان وحزب الشعب الجمهوري: معركةُ السُلطة التي تُحَدِّدُ مُستَقبَلَ تركيا

تركيا تواجه اختبارًا حاسمًا لديموقراطيتها، مع تصاعُد حملة الحكومة ضد حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة. تتشابكُ في هذا الصراع الضغوطُ القانونية والسياسية مع مساعي الرئيس رجب طيّب أردوغان إلى ضمان مستقبله السياسي، ما يضع البلاد على مفترق طرق.

المعارضة مستمرة في التظاهر رُغم قمع السلطة.

ألبير كوسكون*

إذا كانَ من الصعب هزيمة المعارضة بشكلٍ مباشر، فإنَّ الحلَّ البديل يكون بإضعافها. ويبدو أنَّ هذا هو المنطق الذي تتبعه حكومة أنقرة في حملتها المُكثفة ضد حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة في تركيا. وقد تصاعدت هذه الحملة بشكل ملحوظ في الأشهر الأخيرة، حيث استعانت الحكومة بقرارات المحاكم والإجراءات القانونية المختلفة لتقويض قدرة الحزب على العمل السياسي بفعالية، تمهيدًا لمرحلة ترشُّح الرئيس رجب طيب أردوغان لولاية جديدة.

من المتوقع أن تُجرى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في تركيا في العام 2028، وعندها سيكون عمر أردوغان 74 عامًا، أي خارج المدى القانوني المسموح به للترشُّح وفق الدستور الحالي لعدد الولايات. ومع ذلك، يُعتقد على نطاقٍ واسع أنَّ أردوغان يسعى إلى إيجادِ مسارٍ قانوني يسمح له بإعادة انتخابه، وهو ما قد يستلزم إما تعديل الدستور أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة. ورغم ذلك، لا تملك الغالبية البرلمانية الحاكمة في الوقت الحالي الأصوات اللازمة لتنفيذ أيٍّ من هذين الخيارين.

تواجه حكومة أردوغان تحديًا مزدوجًا: من جهة، تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية بعد أكثر من عقدين من الحكم المستمر؛ ومن جهة أخرى، ارتفاع شعبية حزب الشعب الجمهوري، الذي أصبح يمثل معارضة قوية رغم الضغوط القانونية والإجراءات الحكومية المستمرة. فالحزب الحاكم لم يعد قادرًا على تجديد صورته وجذب التأييد الشعبي كما في السابق، خصوصًا بعد سنواتٍ من الأزمات الاقتصادية المستمرة وارتفاع معدلات التضخم، إضافة إلى القيود السياسية التي فرضتها السلطات، مما أضعف قاعدة الدعم التقليدية للحزب وأجبره على تشكيل تحالفات مع أحزاب أصغر لتأمين أغلبية برلمانية. في المقابل، نجح حزب الشعب الجمهوري في توسيع قاعدته الشعبية، مستفيدًا من نشاطه السياسي المكثف والذي لاقى صدى واسعًا لدى مختلف فئات المجتمع، لا سيما الشباب.

وبالرغم من التحديات القانونية المستمرة، استمر حزب الشعب الجمهوري في الحفاظ على وجوده السياسي، مؤكدًا على أنه قادر على تقديم معارضة حقيقية وفعالة. ويبدو أن الحكومة تدرك أن الحفاظ على الشرعية الانتخابية يمثل ضرورة قصوى، حتى بعد تحويل تركيا إلى نظام رئاسي مركزي يعزز من سلطات الرئيس، إذ أن الإجراءات الأخيرة ضد حزب الشعب الجمهوري تهدف إلى تقليص قدرة قيادته على تقديم معارضة مؤثرة، مع الحفاظ على مظاهر التعددية السياسية، لا القضاء على الحزب بالكامل.

شهدت حملة الحكومة التركية ضد حزب الشعب الجمهوري خطوات ملموسة على صعيد القضاء والاعتقالات. ففي منتصف آذار (مارس)، أُوقِفَ إكرام إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول ومرشح الحزب الرئاسي المحتمل، بتُهمٍ تتعلّقُ بالفساد والإخلال المالي. ولم يقتصر الأمر على إمام أوغلو، بل ارتفع عدد رؤساء البلديات المعتقلين من الحزب إلى 14، إضافة إلى أكثر من 200 من مسؤولي الحزب والبلديات. في المقابل، لم تشهد البلديات التي يسيطر عليها حزب العدالة والتنمية النوع نفسه من التدقيق القانوني، حتى في حالات مماثلة، ما يعكس ازدواجية في تطبيق القانون بين الطرفين.

كما يواجه حزب الشعب الجمهوري احتمال إدخال تغييرات في قيادته الحالية بقرار من المحكمة، على خلفية اتهامات بارتكاب مخالفات في مؤتمرات الحزب. ففي وقت سابق من هذا الشهر، ألغت إحدى المحاكم مؤتمر فرع الحزب في إسطنبول بذريعة مخالفات مماثلة، وأطاحت بالمسؤولين المنتخبين، ليحل محلهم أوصياء تابعون للحزب لكنهم يعارضون القيادة الحالية. وقد سمح هذا الإجراء للوصاة بالدخول إلى مقر الحزب في إسطنبول تحت حماية أمنية مشددة، في حين منع أعضاء القيادة المنتخبين من الوصول إلى مقراتهم، ما فُسّر على نطاق واسع كمقدمة لإجراءات قد تستهدف القيادة العليا للحزب. ومن المقرر أن يُبت في هذه القضية في تشرين الأول (أكتوبر).

وفي الوقت ذاته، واصلت المعارضة تنظيم مسيرات جماهيرية واسعة، حيث شارك عشرات الآلاف من أنصارها في أحدث الفعاليات التي أقيمت في العاصمة أنقرة، مؤكدين قدرتهم على التعبير عن إرادتهم الجماهيرية رغم القيود القانونية والإدارية المفروضة عليهم.

يواجه النظام الديموقراطي في تركيا اختبارًا صعبًا، إذ يبدو أنَّ البلد يقف على حافةِ مرحلةٍ جديدة من ترسيخ السلطة وتقييد حرية المعارضة. فقد امتازت تركيا، منذ منتصف الأربعينيات، بنظامٍ تعدُّدي تنافسي مُتعدِّد الأحزاب، لكن الأساليب الحالية المستخدمة ضد حزب الشعب الجمهوري تشبه ما جرى في دولٍ مثل المجر، حيث استُخدِمت أجهزة القضاء وموارد الدولة لتقويض المعارضة السياسية. وأظهرَ بعضُ استطلاعات الرأي الأخيرة أنَّ حوالي 60% من السكان يعتقدون أنَّ الإجراءات القانونية ضد حزب الشعب الجمهوري ذات دوافع سياسية، بينما يشكُّ أكثر من 80% في نزاهة تطبيق العدالة. كما تشيرُ تقارير غير مؤكدة إلى قلقٍ داخل بعض أوساط حزب العدالة والتنمية من رد فعل شعبي محتمل تجاه هذه الإجراءات.

أما الرئيس أردوغان، أطول قادة تركيا خدمة في منصبه، فهو يخاطر ليس فقط بمستقبله السياسي، بل أيضًا بمكانته التاريخية. فقد اعتاد تجاوز القيود التعسفية التي فرضها عليه أفراد غير منتخبين في بداية مسيرته، لا سيما بعد سجنه لمدة أربعة أشهر في العام 1998 بتهمة التحريض على الكراهية خلال توليه منصب رئيس بلدية إسطنبول. ومن المفارقات أن بدايات مسيرته السياسية تشبه إلى حد كبير بدايات خصمه إكرام إمام أوغلو، الذي يمثل المعارضة الرئيسة اليوم.

في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، قاد أردوغان إصلاحاتٍ ديموقراطية واسعة مهّدت الطريق أمام قرار الاتحاد الأوروبي ببدء مفاوضاتِ انضمامِ تركيا إليه، وهو إرثٌ يعكسُ طموحه الإصلاحي آنذاك. لكن هذا الإرث يختلف تمامًا عن صورته الحالية كرئيس يتميّز بسلطوية متزايدة. وعلى الرُغم من عدم منطقية تضييق الخناق على المعارضة الرئيسة وانزلاق تركيا نحو ديموقراطية غير ليبرالية، فإنَّ هذا يبدو مسار أردوغان الحالي، مُبتعدًا عن بداياته الإصلاحية التي أعطت تركيا صورة إيجابية في الداخل والخارج.

وتشكل هذه الديناميات مؤشّرًا قويًا إلى أنَّ مستقبل تركيا السياسي ودورها الإقليمي والدولي مُرتبطٌ بشكلٍ مباشر بكيفية تعامل الحكومة مع المعارضة واحترام التقاليد الديموقراطية. والخيار الأمثل، كما يرى المراقبون والخبراء، هو استعادة التقاليد الديموقراطية وتعزيز سيادة القانون، بما يشمل احترام إرادة الناخبين بالكامل، وضمان حق الشعب في اختيار ممثليه بحرية. ويجب أن يكونَ الالتزامُ بهذه المبادئ هو الهدف المنشود، ليس فقط بالنسبة إلى الحكومة، بل لجميع الأطراف السياسية، بما في ذلك أردوغان، ليترك إرثًا ديموقراطيًا يحفظ مكتسبات الشعب ويضمن استقرار الدولة.

أما بالنسبة إلى قطاعٍ واسعٍ من الشعب التركي، فإنَّ هذا الالتزام بالقيم الديموقراطية والعدالة القانونية يمثّلُ الأملَ في مستقبل أكثر استقرارًا وشفافية، يمكن فيه للمؤسسات أن تعملَ بعيدًا من أيِّ ضغوط سياسية أو انتقائية، ليكون التعبير الشعبي عن الرأي خيارًا واقعيًا وفعّالًا.

وفي ظل هذه الظروف، يبقى الرهان على قدرة الشعب التركي ومعارضته السياسية على الصمود والتعبير عن إرادته، ومواجهة محاولات تضييق الخناق على الديموقراطية، لضمان أن تبقى تركيا دولة تعدّدية تحترم حقوق جميع مواطنيها، مهما كانت الضغوط السياسية والسلطوية.

Exit mobile version