إسرائيل تَقُودُ اقتصادَ الضفّة الغربيّة إلى الإنهيار

تفاقَمَت الأزمة الاقتصادية في الضفة الغربية منذ حرب تشرين الأول (أكتوبر) 2023، مع ارتفاعِ البطالة إلى مستوياتٍ قياسيّة وانسداد الأفق أمام العمّال الفلسطينيين. بين فقدان الوظائف، واحتجاز أموال الضرائب، وتشديد القيود المالية، يواجه الفلسطينيون خطر الانهيار الاقتصادي الكامل.

الرئيس محمود عبّاس: ليس بين يديه الكثير ليُنقِذ الإقتصاد الفلسطيني.

جيسيكا بوكسباوم*

منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة “حماس” في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تغيّرت حياة رؤوف، وهو عامل بناء فلسطيني من الضفة الغربية، بشكلٍ جذري. فبعد أن كان يتنقل يوميًا إلى إسرائيل لكسب رزقه، لم يتمكّن منذ بداية الحرب من العودة إلى عمله هناك سوى مرة واحدة فقط، في تموز (يوليو) 2024. يومها، خاطر بالتسلّل عبر الجدار الفاصل الذي أقامته إسرائيل بين الضفة الغربية وأراضيها، لكنه لم يهنأ بالعمل طويلًا؛ إذ داهمت الشرطة الإسرائيلية موقع البناء الذي كان يعمل فيه، واعتقلته بتهمة الدخول من دون تصريح. وبعد محاكمة سريعة، قضى رؤوف 38 يومًا في السجن قبل أن يُعاد إلى الضفة الغربية، مصحوبًا بقرارٍ يمنعه من دخول إسرائيل حتى العام 2027.

قصة رؤوف ليست استثناءً، بل جُزءٌ من واقعٍ يعيشه آلاف الفلسطينيين. فالعاملُ رؤوف –الذي فضّل عدم ذكر اسمه لأسبابٍ أمنية– خسرَ هو الآخر مصدر رزقه بعد أن ألغت السلطات الإسرائيلية تصريحَ عمله في أعقاب هجوم “حماس” على إسرائيل يوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وما حدث معه تكرّرَ مع نحو 115 ألف عامل فلسطيني آخرين من الضفة الغربية كانوا يمتلكون تصاريح عمل رسمية داخل إسرائيل. وبعد مرور قرابة عامَين على اندلاع الحرب، لم يُجَدَّد من تلك التصاريح سوى 8,000 تصريح فقط، الأمر الذي ترك الغالبية العظمى من العمال الفلسطينيين بلا موردٍ ثابت.

النتيجةُ المباشرة لذلك كانت كارثية على سوق العمل في الضفة الغربية؛ إذ ارتفع عدد العاطلين من العمل إلى مئات الآلاف، وقفز معدل البطالة إلى أكثر من 30%، وفق أحدث البيانات التي جُمِعَت في أيلول (سبتمبر) 2024. هذا المعدل هو الأعلى تاريخيًا، بعدما كان لا يتجاوز 12.9% في أيلول (سبتمبر) 2023، أي قبل اندلاع الحرب بشهرٍ واحد فقط.

على عكس وفرة الفُرَص التي كان يجدها العمّال الفلسطينيون في إسرائيل، لم يتمكّن رؤوف بعد عودته إلى الضفة الغربية من العثور على وظيفةٍ مستقرّة. وبدلًا من عمله الماهر في البناء، اضطرَّ إلى قبولِ أعمالٍ متقطِّعة ومؤقَّتة، من بينها تنظيف الشوارع لقاء أجرٍ يومي لا يتجاوز 50 شيكلًا إسرائيليًّا (نحو 15 دولارًا). لكن المشكلة لا تقتصر على ندرةِ فُرَص العمل، بل تتجاوزها إلى أزمةٍ اقتصادية خانقة تفاقمت بفعل القيود الإسرائيلية المستمرّة، مثل احتجاز أموال الضرائب الفلسطينية، وهو ما ساهم في تدهور سوق العمل في الضفة الغربية بشكلٍ غير مسبوق.

تقريرٌ لمنظمة العمل الدولية صدرَ في العام الأول للحرب كشف حجم التدهور: أكثر من نصف العاملين في الضفة الغربية تقلّصت ساعات عملهم، وأكثر من 60% انخفضت دخولهم، فيما اضطرت 65% من الشركات إلى تقليص أعداد موظفيها. هذه الأرقام تعكسُ واقعًا مأسويًا يدفع العديد من العمال إلى المجازفة بحياتهم من أجل العمل. ويقول رؤوف: “نخاطر بالعبور إلى إسرائيل والعمل بأيِّ وسيلة ممكنة لتأمين احتياجات عائلاتنا، لكن الكثيرين يدفعون ثمنًا باهظًا، سواء بالإصابة أو التعرّض لإطلاق النار أو السقوط عن السياج أثناء محاولة العبور.”

ومع تفاقم أزمة البطالة، ارتفعت معدلات الفقر بسرعة غير مسبوقة. ففي غضون عام واحد فقط من الحرب، تضاعفت نسبة الفقر في الضفة الغربية، بحسب ما يؤكّد الخبير الاقتصادي الفلسطيني ناصر عبد الكريم، الذي يشير إلى أنَّ ثُلثَ الأُسَر الفلسطينية باتت تعيش تحت خط الفقر. ويضيف عبد الكريم: “كانت رواتب العمال الفلسطينيين في إسرائيل المصدر الرئيس للسيولة في الاقتصاد الفلسطيني، وخصوصًا في الضفة الغربية.”

إلى جانب فقدان الوظائف، لعبت قيود إسرائيل على الأموال دورًا محوريًا في تفاقم الأزمة الاقتصادية. فحتى قبل اندلاع الحرب، كانت إسرائيل تحتجز عائدات الضرائب المستحقّة للسلطة الفلسطينية، بحجّة دفع التعويضات لأسر الأسرى والمقتولين على أيدي القوات الإسرائيلية. منذ العام 2019، تراكم ما يقارب 8 مليارات شيكل (حوالي 2.3 مليارَي دولار) من هذه الإيرادات، مما أضعف قدرة السلطة الفلسطينية على تمويل الرواتب والخدمات الأساسية في الضفة الغربية. (وفقًا لاتفاقيات أوسلو، وهي اتفاقية السلام المؤقتة التي وقّعتها إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في التسعينيات، تقوم وزارة المالية الإسرائيلية بجمع إيرادات الضرائب نيابة عن السلطة الفلسطينية وتحوّلها إليها شهريًا).

وبعد هجوم حماس في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، شدّدت إسرائيل القيود على تحويل الأموال إلى السلطة الفلسطينية، وخصوصًا تلك المُخَصَّصة لرواتب موظفي الوزارات في قطاع غزة، الذي تسيطر عليه “حماس”، حيث تتولى السلطة الفلسطينية هناك إدارة رواتب موظفي الشؤون الاجتماعية والصحة والتعليم. احتجاجًا على ذلك، رفضت السلطة الفلسطينية استلامَ أيٍّ من عائدات الضرائب المتبقّية، فتمَّ تحويلُ الأموال إلى صندوق استئماني في النروج، ليتمَّ صرفها بإذنٍ من وزير المالية الإسرائيلي تسالئيل سموتريتش. استمرَّ هذا الترتيب حتى أيار (مايو) 2024، عندما اعترفت النروج بدولة فلسطين، ما دفع إسرائيل لإنهاء الاتفاق، ولم يَعُد معظم الإيرادات يصل إلى السلطة حتى اليوم.

حتى عندما كان بعضُ الأموال يُصرَف ويصل، لم تتمكّن الحكومة الفلسطينية من دفع أكثر من 50 إلى 70% من رواتب موظفيها. ونتيجةً لذلك، اضطرّت السلطة إلى الاقتراض من البنوك المحلية لتغطية الالتزامات. ويؤكد عبد الكريم: “لهذا السبب ارتفع الدين العام إلى نحو 13 مليار دولار، أي أكثر من 130% من الناتج المحلي الإجمالي للفلسطينيين.”

تفاقمت الأزمة مع قرار وزير المالية الإسرائيلي تسالئيل سموتريتش في حزيران (يونيو) 2024 بإلغاء الضمانات التي كانت تحمي البنوك الإسرائيلية من أيِّ إجراءاتٍ قانونية عند التعامل مع المؤسّسات المالية الفلسطينية. وبدون هذه الضمانات، باتَ من المرجح أن تقطع البنوك الإسرائيلية علاقاتها مع البنوك الفلسطينية، ما قد يؤدي إلى ظهور اقتصاد نقدي غير رسمي وسوق سوداء، ويزيد من عزلة الضفة الغربية عن النظام المالي العالمي. ويؤكد الباحث إيهاب محارمة، من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، أنَّ هذا الإجراء سيؤثر مباشرة في قدرة الفلسطينيين على استيراد الطاقة والغذاء، ودفع ثمن الخدمات، وتغطية رواتب موظفي القطاع العام.

كما تلعب وفرة الشيكل الإسرائيلي في السوق الفلسطينية دورًا مضاعفًا في تعقيد الوضع المالي. فبموجب بروتوكول باريس الاقتصادي الموقع في العام 1994، يُنظّم تحويل الشيكل بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية بحدٍّ أقصى قدره 18 مليار شيكل سنويًا، إلّا أنَّ تراكم السيولة نتيجة النموِّ الاقتصادي وتدفّقات الأموال من العمال الفلسطينيين والمغتربين أدى إلى صعوبة تداول العملة، وعرقل عمليات الإيداع والتحويل، وأصبح من الصعب على البنوك تمويل الصادرات أو تسوية المدفوعات بشكل طبيعي.

مع اندلاع الحرب، كثّفَ الجيش الإسرائيلي غاراته على مراكز الصرافة في الضفة الغربية، بحجة منع تمويل الإرهاب، وصادر ملايين الشواكل منها منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023. ومع أنَّ إدارة جو بايدن أكدت التزام البنوك الفلسطينية بمعايير مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، يشير محارمة إلى أنَّ هذه المراكز ضرورية للغاية لتداول العملات الأجنبية، مثل الدولار الأميركي والدينار الأردني، لتسوية الشيكات والتحويلات واستقبال الأموال من الخارج. ويضيف: إغلاق هذه المحلات يعني خنق السيولة النقدية، ويحوّل حاجة أساسية للبقاء إلى أداة ضغط على الفلسطينيين، ما يفاقم صعوبة الحياة اليومية.”

في ظلِّ هذه الأزمة الاقتصادية المستمرّة، تبدو الخيارات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية محدودة للغاية. فحسب عبد الكريم، لا يمكن للسلطة سوى تقليص النفقات وزيادة الإيرادات، وهي إجراءات استُنفِدَت بالفعل من خلال خفض الرواتب أو لا يمكن تطبيقها بسبب زيادة الفقر بين السكان. ولذلك، يشدد الخبراء على أنَّ الحلَّ الوحيد المستدام يكمن في حلٍّ سياسي شامل، يضع حدًّا للاحتلال الإسرائيلي، ويُتيحُ للفلسطينيين إدارة مواردهم الاقتصادية والسياسية بشكلٍ مستقل.

أما على الصعيد الإنساني، فلا يملك العمال مثل رؤوف سوى القليل من الأمل. فالحكومة الإسرائيلية تمضي قدمًا في خططها لاستبدال العمال الفلسطينيين بمئات الآلاف من العمال الأجانب، ما يجعل عودة رؤوف وزملائه إلى وظائفهم السابقة في إسرائيل أمرًا بعيد المنال. ويقول رؤوف بصوت يكسوه الإحباط: “يبدو الوضع يائسًا ولا نهاية له، خصوصًا مع الحكومة الإسرائيلية الحالية… لا أعتقد أنهم سيسمحون للعمال الفلسطينيين بالعودة إلى إسرائيل.”

ويعكس هذا اليأس واقع عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين، الذين يجدون أنفسهم أمام خيارَين صعبَين: البقاء بلا عمل أو المخاطرة بحياتهم لعبور الجدار للعمل في إسرائيل بطريقةٍ غير شرعية، مُعرِّضين أنفسهم لإطلاق النار أو الاعتقال أو السقوط أثناء المحاولة. وبالنسبة إلى الكثيرين، أصبح كسب لقمة العيش مغامرة يومية محفوفة بالمخاطر.

في الوقت نفسه، يرى المحللون أنَّ أيَّ تحسُّنٍ اقتصادي أو استقرارٍ مالي في الضفة الغربية لا يمكن أن يتحقّق إلّا في إطار حلٍّ سياسي يضع حدًّا للحصار، ويُنهي الصراع طويل الأمد بين الفلسطينيين وإسرائيل. ويشير عبد الكريم إلى أنَّ ذلك يعني أوّلًا إنهاء الحرب في غزة والسماح بتدفق السلع إلى القطاع المحاصر، ثم التفاوض على تسويةٍ سلمية تحمي الحقوق الاقتصادية والسياسية للفلسطينيين.

بالنسبة إلى رؤوف، ولسواه من العمال الفلسطينيين، لا يبدو أيُّ حلٍّ في الأفق.

يقول رؤوف: “يبدو الوضع يائسًا ولا نهاية له، خصوصًا مع الحكومة الإسرائيلية الحالية… لا أعتقد أنهم سيسمحون للعمال الفلسطينيين بالعودة إلى إسرائيل”. وهذا القول صحيح، إذ تنفذ الحكومة الإسرائيلية الآن خططًا لاستبدال العمال الفلسطينيين بمئات الآلاف من العمال الأجانب. ويضيف رؤوف: “لن يتغيّرَ الوضع، بل سيزداد سوءًا”.

ويمكن أن يتجلّى هذا اليأس في محاولة عبور الجدار والتعرُّض للاعتقال، فقط لكسب لقمة العيش.

Exit mobile version