
هنري زغيب*
في تاريخ الفن التشكيلي أَنَّ الدولة الفرنسية منعَت المساس بجبل “سيدة النصر” (Mont Sainte Victoire) لاستخدام صخره في الكسارات، كي لا تموت بذلك 87 لوحة وضَعَها عن هذا الجبل الرسام الفرنسي بول سيزان (1839-1906)، فأَمرَت الدولة بنخْره من الداخل كي لا يتشوَّه منظره الخارجي فيتغيَّر عما جاء في لوحات سيزان التي أَنقذت الجبل من التَشَوُّه.
هنا أَيضًا، في أُستراليا، لوحةٌ فنية أَنقذَت مَشْهدًا جبليًّا من التَشَوُّه.
لوحة تُعيدُ مجد الجبل
سنة 1864 وضع الرسام الروسي نيكولا شوفالييه (1828-1902) لوحةً لمشهد طبيعي واسع يتَوِّجُهُ في الخلفية جبل آبْرابْتْ (منطقة غرابْيانْزْ- ولاية فيكتوريا – أُستراليا).
عن مثَل إِغريقي سائد: “هنيئًا لِمن يزرع شجرًا وهو يعرف أَنْ لن يتفيَّأَها”. وهوذا الأُسترالي بيلّ ويذِرْلي، الرئيس السابق لجمعية “أصدقاء الغابات المنسيّة”، تمكَّن في السنوات العشر الأَخيرة، مع فريق من الجمعية، أَن يزرع نحو 50 أَلف شجرة في أَنحاء عدَّة من ولاية فيكتوريا الأسترالية، وبينها سهل غرابْيانْزْ الذي ينتهي بعيدًا بجبل آبْرابْتْ المهيب. من هنا تحويرُهُ ذاك المثَل الإِغريقي بقوله: “حين العجوز يزرع شتلات الشجر، يزرع معها بذور الأَمل”.
اللوحة دليل التشجير
لكي يضمن ويذِرْلي أَنه يعيد مشهد السهل والجبل كما كان، عاد إِلى لوحةٍ عمرُها 161 سنة رسمها الفنان الروسي الشهير نيكولا شوفالييه الذي كان جلس في مقدمة السهل، فرسم مخططات لخُضرته وتفاصيله وجبينه العالي عند ذاك الجبل الدهري الشامخ، وعاد إِلى محترفه يرسمه في ثلاث لوحات زيتية، أَشهرها التي في غالري هاملتون (ملبورن).
وعن مديرة الغالري الدكتورة سامانتا هابّيه أَنَّ شوفالييه، برسمه الانطباعي الواقعي، تكرَّسَ رائدًا بين فنانين في المستعمرات الأُسترالية كانوا يرسمون الطبيعة بالأُسلوب الأُوروبي كسائر الرسامين الروس والأَلمان الذين يُغدقون من عواطفهم على مشاهد الطبيعة، ثم يضيفون عليها لمساتهم الخاصة من وحي الطبيعة الأُسترالية. سوى أَن شوفالييه تفرَّد عنهم بمحاولته رسم الشجر الأُسترالي بملامحه المحلية المميزة، وبما في قلبه من رومانسية عاطفية تجاه تلك البيئة، فدقَّق في لون التربة وفي خصوصية أَوراق الشجر.
السهل والجبل كما كانا في اللوحة
ذاك التدقيق ساعد على إِعادة تشجير السهل والجبل كما رسمهما شوفالييه، بما في ذلك نوع الشجر حتى يعادَ كما كان قبل 161 سنة. فالمشهد الحالي تغيَّر كثيرًا عما كانه عبر تلك السنوات، خصوصًا أَنواع الشجر والنباتات التي، لولا لوحة شوفالييه، لَما أَمكنت استعادة ما كان كما كان.
أَعضاء جمعية “الغابات المنسية” بدأُوا قبل خمس سنوات في مشروع التشجير استنادًا إِلى لوحة شوفالييه. لذا زرعوا نحو 400 شجرة من أَنواع الأشجار كما ظهرَت في اللوحة، وجاؤُوا ببذورٍ خاصة لتلك النباتات والأَشجار، بمساعدة خبراء زراعيين.
ما أَحلى الرجوع إِليه
تعمَّد الأَعضاء الوقوف عند المكان ذاته الذي جلس فيه شوفالييه، كي يستعيدوا ترميم المشهد بجماله كما كان، وكما عاينه شوفالييه وأَحبه حين كان يعيش في تلك الناحية، حتى كأَنهم يكادون يسمعون تغريدَ الطيور في تلك الناحية، وخريرَ النهر الذي يجري عند طرف السهل وأَسفل الجبل.
ويكتب ويذرلي في مذكراته: “ما أَجمل هذا السهلَ وجبينَه الجبل! كم كان المشهد جميلًا قبل 200 سنة. إِننا مَدينون لنيكولا شوفالييه بجعْلنا نعيش نوستالجيًّا هذا المشهد الساحر ونستعيدُ جماله بفضل لوحته”.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).