
هنري زغيب*
في السائد أَنَّ جبران، عدا رسومه الخاصة لمؤَلَّفاته بالإِنكليزية، ورسومٍ أَحيانًا لغلافٍ أَو للداخل في مجلة “السائح”، وكتابٍ لباربرة يونغ، نادرًا ما وضع رسومًا لكُتُب. وإِذ… وصلني هذا الأُسبوع من الباحث الإِيطالي الجبراني المدقِّق فرنْشِسْكو ميديتشيFrancesco Medici كتيِّبٌ أَميركيٌّ من 32 صفحة عنوانه “رفاق”، فيه 22 قصيدة لمجموعة شعراء، مع زخرفات من جبران خليل جبران.
في القسم الأَول من هذا المقال، سرَدتُ نبذةً عن ناشر هذا الكتيِّب صموئيل جاكوبْسْ.
هنا في هذا القسم الآخر تتمةُ الحديث عنه.
“براءَةُ اختراع”
في 9 كانون الأَول/ديسمبر 1919، قدَّمَ جاكوبْسْ طلبًا لتسجيل “براءَة اختراع” عمَّا توصَّل إِليه من تصميم “حرف سريانيّ عصريّ” و”طريقة فنية لتنضيد الأَحرف مع تشكيل الحركات فوق الحروف وتحتها”. وحين جاءَتْه الموافقة من المراجع الرسمية الحكومية، (9 أَيار/مايو 1920) حوَّل “براءَة الاختراع” من اسمه إِلى “شركة مارْغِنْثَالِر للِّينوتايب”، وكانت يومها أَكبر شركة في الولايات المتحدة لصبِّ الأَحرف. وانتسبَ إِلى تلك الشركة، يعمل في الطباعة والإِخراج الطباعي والزخرفات الفنية في الكتُب. وبرزَت مهارته في صف الأَحرف بأَكثرَ من لغة، فكان ذلك تمهيدًا لإِقبال آخرين على النشْر لديه بالحرف الأَشوري. وفي تلك السنة تزوَّج من “هيلدا” التي كانت مصحِّحة طباعية تعمل معه. رُزِقا من هذا الزواج ولدٌ دَعَوَاه “سام (صموئيل) جونيور”.
إِلى “غرينيتش” حيث جبران
سنة 1922 انتقل صموئيل إِلى حي غرينتيش (في أَسفل مانهاتن)، وأَسَّس فيه “دار بوليتايب للنشر”. وكان كتاب “رفاق” (موضُوعُ هذا المقال) أَول كتاب أَدبي أَصدره في تلك الدار.
كان “غرينيتش” معروفًا بـ”حي الفنانين”. وفيه كان يعيش جبران (محترفُه في الطبقة الثالثة من المبنى 51 في الشارع العاشر غربًا). وقد يكون هناك الْتقى صموئيل بمسعى من صديقهما المشترك في ذاك الحي الشاعر الإِنكليزي ريتشارد لو غاليان (1866-1947)، وله قصيدة في مجموعة “رفاق”، وكان جبران وضع رسمًا له سنة 1911 في مجموعة “هيكل الفن”.
آليسْتِر ينتقد “المجنون”
كان صموئيل على صداقة في نيويورك مع الشاعر الإِنكليزي آليسْتِر كراولي (1875-1947) الذي، سنة 1919، نشَر في مجلة “إِكينوكس” (السنة الثالثة، العدد الأَول، صفحة 181) نقدًا صارمًا عن كتاب جبران “المجنون” (نيويورك 1918)، جاء فيه: “لم أُحبَّ أَبدًا تلك الرسوم في الكتاب. فهي خليطٌ متداخلٌ، ذو ملامح تقليدية مأْلوفة. لكنني أَحببتُ بعض نصوص الكتاب. وليس عدلًا أَن نقارن جبران بوليام بلايك الذي هو عبقريٌّ لا يُجارى. وأَرى أَنَّ مناخ مستر جبران الأُسلوبي فرنسيٌّ أَكثر منه إِنكليزيًّا. وبين مقطوعات الكتاب، أَختار اثنتَين:
1) الفزَّاع
قلت يومًا لفزاَّعٍ: “إِخالكَ متعبًا من انزوائك وحيدًا هكذا في طرف الحقل”. فأَجابَني: “فرحُ الإِيخاف عميقٌ وطويل، ولا أَتعب منه”. قلت له بعد دقيقة تفكير: “صحيح. أَنا أَيضًا عرفتُ هذا النوع من الفرح”. فأَجاب: “لا. ليس يعرفه إِلَّا المحشُوُّ بالقش مثلي”.
غادرتُهُ، ولم أَفهم إِنْ كان جوابُهُ مدحًا أَو تذمُّرًا.
بعد عام، أَصبح الفزَّاع فيلسوفًا. وحين مررتُ به ثانيةً رأَيتُ غرابَين يشَكِّلان عشًّا تحت قبَّعته”.
وهنا المقطوعة الأخرى:
2) اللذة الجديدة
ليلة أَمس اخترعتُ لذة جديدة. وإِذ كنتُ أُحاول تذَوُّقَها، هرع إِلى بيتي ملاك وشيطان. التقيا عند بابي وتعاركا كي يستوعبا لذتي الجديدة. قال الملاك: “هذه خطيئة”، وقال الآخر “هذه فضيلة”.
منشورات النسْر الذهبي
بعد “رفاق”، أَصدر صوموئيل عددًا من الكتب، صفًّا على اللينوتابيب وإِخراجًا وزخرفات. سنة 1934 انتَقل بشركته من غرينيتش إِلى مونت فيرنون (نيويورك) وغيَّرَ اسمها إِلى “منشورات النسر الذهبي”، وأَصدر فيها عددًا كبيرًا من الكتُب، إِلى أَن تقاعد سنة 1966. وبعد وفاة زوجته، انعزل إِلى بيت المرضى في يونكرز (نيويورك) حتى وفاته يوم 16 أَيلول/سبتمبر 1971 في مستشفى فيرنون عن 80 سنة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).
