إيران بينَ شَبَحِ الجمود ورهاناتِ الشرق: مأزقُ خامنئي وخياراتُ بَزِشكيان

تقف إيران اليوم على مفترق طرق تاريخي، تتأرجّحُ بين استمرار سياسات التحدّي والانغلاق أو الانخراط في تحوُّل استراتيجي طال انتظاره. تتكاثر الأزمات الداخلية والخارجية، فيما يبقى القرار النهائي بيد المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي يوازن بين هواجس الإرث الثوري وضغوط الواقع.

الوزير عباس عراقجي: أُخِذت من وزارته صلاحيات لصالح مجلس الأمن القومي.

أليكس فاتانكا*

لسنواتٍ طويلة، دأبَ المرشد الأعلى علي خامنئي على طمأنة الإيرانيين بأنّ حربًا مع الولايات المتحدة أو إسرائيل أمرٌ مُستبعَد. غير أنّ هذه الطمأنينة تبدّدت مع اندلاع حرب حزيران (يونيو) الدامية التي استمرّت 12 يومًا وحصدت أكثر من ألف قتيل إيراني. اليوم، يُحذّرُ خامنئي من انزلاق البلاد إلى وضعية “لا حرب، لا سلام”. تَحذيرُهُ ليس في غير محلّه، لكنَّ عزوفهُ عن مواجهة القرارات الصعبة يكشفُ عن طبيعته الثابتة في التهرّب من الاستحقاقات.

بدلًا من صياغة مراجعة استراتيجية حقيقية، جاءت خطوات خامنئي الأخيرة لتغطية صراع الأجنحة داخل النظام. وبدلًا من الضغط بقوة لتحقيقِ اختراقٍ ديبلوماسي بينما لا تزال المحادثات متعثّرة، يفضّلُ بعضُ المسؤولين الإيرانيين التشبُّث بالرهان على أنَّ الصين وروسيا ستُنقِذان طهران من الضغوط الغربية. لكن ذلك لا يعدو كونه أمنية أكثر منه خطة واقعية، ويجعل مستقبل البلاد مرهونًا بقوى لم تُبدِ يومًا استعدادًا للتضحية أو المخاطرة كثيرًا في سبيل إيران أو نيابةً عنها.

كان من المفترض أن تكونَ حربُ الأيام الاثني عشر جرسَ إنذار مدوٍّ للنظام. فقد أظهرت الضربات الإسرائيلية ثم الأميركية هشاشة منظومة الدفاع الجوي الإيراني، وألحقت أضرارًا بالبنية التحتية النووية. لم يَبدُ النظام بهذا الضعف منذ العام 1979. ورُغم ذلك، لا تزال طهران تُصِرُّ على حقّها السيادي في تخصيب اليورانيوم؛ وترفضُ أيَّ تقييد لتخصيب اليورانيوم أو برنامجها الصاروخي، كما تواصل تدخلاتها عبر وكلائها وأذرعها في المنطقة. وفي خضمّ هذه التحديات والأزمة الداخلية، يستعدُّ الرئيس مسعود بزشكيان لإلقاء كلمة أمام الأمم المتحدة هذا الشهر، وسط دعوات لأن تكون زيارته أكثر من مجرد بروتوكول فارغ.

يُنظَرُ إلى بزشكيان على نطاقٍ واسع  على أنه أضعف رئيس في تاريخ الجمهورية الإسلامية، ويواجه هجمات المتشدّدين الذين يصفونه بالسذاجة لتبنّيه خطاب التسوية مع الغرب. ومع أنَّ الرغبة في التغيير حاضرة داخل المجتمع ولدى النخبة السياسية المحيطة برئيس الجمهورية، إلّا أنَّ خامنئي يفرض وصايته عليه، لتظل مبادراته الإصلاحية تصطدم بالجدران وتواجه عقبات. ومع ذلك، ليس بزشكيان وحيدًا؛ فشخصيات بارزة مثل حسن روحاني ومحمد جواد ظريف تدفع أيضًا باتجاه إعادة ضبط المسار.

رُغمَ استمرار الانفتاح الشكلي على الديبلوماسية، يعجز النظام الغارق في صراعاته الداخلية عن التوافق على خفض التصعيد. بعض التقدّم تحقق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، خصوصًا بعد لقاء القاهرة بين مديرها العام ووزير الخارجية عباس عراقجي. لكن هذه الخطوات الجُزئية لا تكفي لتحقيق اختراقٍ استراتيجي. فبدلًا من كسر الجمود مع واشنطن، يكتفي النظام بالاستعداد لمواجهات محدودة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وحتى لاحتمال عودة عقوبات الأمم المتحدة، ما يعكس رفضًا للتنازلات الجوهرية.

هناكَ عواملُ عدة تَدفَعُ هذا التردُّد وتُعثّرُ التغيير، أبرزها خامنئي نفسه. فهويته الثورية قائمة على عدم الانحناء للولايات المتحدة، ولن يتنازل عن هذا المبدَإِ إلّا مقابل مكاسب جليّة. وحتى الآن، لم يُقدّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب حوافز من هذا النوع، بل إنَّ السياسة الأميركية تبدو محصورة في الضغط لفرض التراجع على ثلاث قضايا: التخصيب، الصواريخ، وشبكة الحلفاء الإقليميين. وفي ظل عدم الوضوح، تفترض طهران أنَّ ملفّها بات عمليًا بيد إسرائيل، ما يجعل أي اتفاق تفاوضي أكثر خطورة من وجهة نظر خامنئي.

وفي الداخل، يكتفي المرشد بإجراء تغييرات في فريق الأمن القومي بدون الإقدام على تحوّلات جذرية. ويواصل التعويل على المنافسة بين واشنطن من جهة، وبكين وموسكو من جهة أخرى، باعتبارها صمام أمان. لكن كثيرين في طهران يحذّرون من وَهمِ قراءة الإستعراض الصيني الأخير في بكين كالتزامٍ دفاعي تجاه إيران.

ما يُعزّز ثقة الحرس الثوري بقدرته على الصمود ثلاثة عوامل رئيسة: أولًا، أن النظام لم يسقط رُغم حرب حزيران (يونيو) ولم ينهض الشعب بثورة ضده. ثانيًا، أنَّ الولايات المتحدة وإسرائيل لا تملكان خطة متكاملة لتغيير النظام، بل تكتفيان بضربات متقطعة. ثالثًا، يرى المتشدّدون في الصراع الأميركي-الصيني المُتصاعِد غطاءً سياسيًا في حال عودة عقوبات الأمم المتحدة. يعود هذا الأمل إلى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لكنه اكتسب زخمًا مع ظهور بزشكيان لأول مرة في الصين. واعتُبرت قمة منظمة شنغهاي للتعاون والاستعراض العسكري إشارةً إلى أن الصين (مع روسيا) لن تدع النظام الإسلامي يسقط.

هذا رهانٌ محفوفٌ بالمخاطر. وكما حذرت صحيفة “شرق”، إحدى أبرز الصحف الإيرانية، فإنَّ هذا النهج يُخاطر بتحويل إيران إلى ساحة اختبار لمنافسة القوى العظمى، وهو صدى شرق أوسطي لأوكرانيا. وكما أصبحت كييف ساحةً لاختبار عزم موسكو وواشنطن، فقد تجد طهران نفسها مُجرّد بيدق في صراعٍ بين “نادي الأقوياء” – الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى.

داخل طهران، اتخذ البراغماتيون موقفًا هجوميًا. وصف روحاني أخيرًا حرب الـ 12 يومًا بأنها “حرب عالمية ثالثة مصغّرة”، حيث اختبرت الكتلتان الغربية والشرقية معدات عسكرية. ويجادل هو وشخصيات بارزة أخرى بأنَّ الشفافية النووية التدخّلية لتخفيف القيود بشكل محدود هي المخرج الوحيد من دوامة العقوبات والأمن. بل إنَّ روحاني وضع ثمنًا لسنوات من التأخير – مُدَّعيًا أنَّ المعارضة المتشدّدة خلال رئاسة إبراهيم رئيسي (2021-2024) للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني في عهد الرئيس الأميركي جو بايدن كلفت إيران حوالي 500 مليار دولار وساعدت على تمهيد الطريق لأزمة آلية الزناد اليوم.

لا يقتصر هذا النوع من الاستجوابات القاسية على المعتدلين. فقد كشف وزير الخارجية السابق علي أكبر صالحي أخيرًا على التلفزيون الوطني أنَّ التوصل إلى اتفاق كان ممكنًا منذ العام 2009 لو لم يُفشِله الرئيس محمود أحمدي نجاد. هذه التصريحات العلنية ليست مصادفة؛ بل تعكس خوفًا خفيًا من جولة أخرى من الحرب.

ومع ذلك، بدلًا من تقبّل ضرورة إعادة تقييم السياسات، يتلاعب خامنئي والمؤسسة الأمنية بالدلالات. فالقاعدة التوجيهية للنظام هي إبقاء السلطة في أيدي “الخُدي” (أي “واحد منا”). منذ حزيران (يونيو)، كان أبرز تغيير في القيادة هو ترقية علي لاريجاني إلى رئاسة المجلس الأعلى للأمن القومي. لاريجاني، الخبير المخضرم ذو المسيرة المهنية المتقلبة في السنوات الأخيرة، يُصوَّر اليوم كترياق وسطي وعلاج للمنظّرين الذين يطالبون بالتحدّي. وقد حثّ واشنطن على احترام الخطوط الحمراء لطهران، مشيرًا إلى أن “طريق المفاوضات مع الولايات المتحدة لم يُغلق بعد”.

حتى الآن، كان التغيير الأكبر الذي أجراه لاريجاني في صفوفه هو تغييره. فقد عيّن علي باقري -الذي كان يُعتبر في السابق ظلًا متشددًا للمفاوض النووي سعيد جليلي- نائبًا له. كان باقري يسخر من الاتفاق النووي ويصفه بالإهانة الوطنية، لكن بعد قيادته للمحادثات في عهد رئيسي، تحوّل موقفه بشكل ملحوظ، مدافعًا عن المفاوضات كأداة لضمان المصالح الوطنية، بل ومشيرًا إلى الانفتاح على أوروبا. يعكس تعيينه حرص خامنئي على التوازن، وإدراكه أنَّ حتى المعارضين السابقين للاتفاق النووي قد أعادوا تقييم مواقفهم تحت وطأة الواقع الحاكم والحقائق.

يعكس الحديث عن نقل الملف النووي من وزارة الخارجية إلى مجلس الأمن القومي الإيراني حقائق هيكلية وإحباطًا متزايدًا. عمليًا، يُحدد مجلس الأمن القومي الإيراني الخطوط الحمراء بالفعل؛ بينما تُنفذ وزارة الخارجية -التي يقودها عراقجي اليوم- السياسة. إنّ تجريدها رسميًا من المسؤولية سيُغيّر الصورة، لا السلطة.

مع ذلك، أثار أداء عراقجي انتقادات لاذعة. فبعدما كان موضع ترحيب باعتباره رجلًا ذا ثبات، يُتَّهَمُ الآن بضعف التحليل القانوني، وخصوصًاً تفسيره “الساذج” لسياسة “آلية الزناد”، وخطابه العسكري غير المُناسب للديبلوماسية، وفشله في صياغة استراتيجية حتى متوسطة الأجل. يقول ديبلوماسيون مخضرمون إنه غالبًا ما يُخاطب الجمهور المحلي بدلًا من بناء الجسور في الخارج. يردّ المدافعون بأنه يواجه قيودًا استثنائية: عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، والتصعيد مع إسرائيل، وإضعاف شبكة وكلاء وأذرع إيران في المنطقة. لكن تبقى النقطة الأوسع: وزارة الخارجية الإيرانية هيكليًا مُتفاعلة، مُحاصَرة من قِبل السلطات العليا، ونادرًا ما تكون قادرة على وضع أجندتها الخاصة.

أصبح هذا النقاش مُلحًّا مع استعداد بزشكيان لإلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك هذا الشهر. فالصعوبات الاقتصادية المتصاعدة، والنظام الداخلي الهش، وعقوبات “آلية الزناد” الوشيكة، تتطلّب نتائج ديبلوماسية ملموسة. ويُؤمل أن تُسرّع عودة لاريجاني إلى المجلس الأعلى للأمن القومي عملية صنع القرار وتدعمها المؤسسة الأمنية بكامل ثقلها. ما لم تُحدد إيران موقفًا أوضح قبل وصول بزشكيان إلى نيويورك، فإنَّ الرحلة تُخاطر بتكرار دورة مألوفة: خطابات مُبالَغ فيها في الخارج، وشلل داخلي، وملف نووي مُشتّت بين المؤسسات – بينما تتمسك طهران بوعد الخلاص المُتلاشي من الشرق.

سلطت زيارة بزشكيان الأخيرة إلى الصين الضوء على ما تُطلق عليه طهران “الدعم الشرقي”: صفقات تجارية بالعملة المحلية، وتعهدات بالتعاون، وكلمات تضامن دافئة. لكن موسكو، في أحسن الأحوال، لا تستطيع كسب الوقت لإيران، بل ضمان أمنها، بينما تكمن قيمة بكين في التجارة، لا في الحماية.

ما لم تحدث تطورات كبيرة، فإنَّ الوضعَ قاتم: عقوبات “آلية الزناد” تبدأ في أواخر أيلول (سبتمبر) أو أوائل تشرين الأول (أكتوبر)؛ ترفض موسكو وبكين “الاعتراف” بها وتُضعفان من حدّتها؛ تميل إيران أكثر فأكثر إلى الشبكات الرمادية والقنوات غير الدولارية؛ يتفاقم التباطؤ الاقتصادي؛ ويبقى المسار الأمني ​​في تصعيد مُنظّم بدلًا من الانزلاق إلى حرب كبرى. هذا نمط مُعلّق.

يتطلب البديل شجاعة سياسية. سيحتاج خامنئي والحرس الثوري إلى السماح بعمليات تفتيش نووية تدخّلية الآن -قبل أن تدخل عقوبات “آلية الزناد” حيّز التنفيذ- بينما تختبر حكومة بزشكيان صفقة محدودة من تخفيف حقيقي للعقوبات مقابل حدود وتسلسل يُمكن التحقق منهما يُسفر عن فوائد ملموسة، لا وعودًا جوفاء. يمكن لروسيا والصين منح إيران وقتًا لمحاولة إبرام مثل هذا الاتفاق، لكنهما لا تستطيعان استبداله. في الوقت نفسه، يحتاج مفهوم الردع الإيراني إلى إعادة تقييم. فالصواريخ والجماعات الوكيلة التابعة لها لا تكفي لحماية الوطن الإيراني. في المقابل، يوفر الاستقرار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي حماية أقوى بتكلفة أقل. حتى بزشكيان أقرّ بذلك، محذرًا من أن الأسلحة لا قيمة لها بدون وحدة وطنية.

لا تزال إيران تملك خيارات. لكن الخيار الأهم ليس الشرق في مواجهة الغرب، بل هو بين الجمود والجرأة. مقايضة بعض النفوذ النووي مقابل عودة تدريجية إلى الاقتصاد العالمي قد تكون صفقة مكلفة وصعبة، لكنها تظل أفضل من البقاء رهينة عزلة قاتلة ورهانات على حروب محدودة قد لا تبقى محدودة.

Exit mobile version