كَيفَ نَتَجَنَّبُ حربًا أهليّة سوريّة أخرى: إِبدَؤوا بتَبَنّي الفيدرالية

بعد سقوطِ نظام بشار الأسد، وجدت سوريا نفسها أمامَ مرحلةٍ انتقالية مُعقّدة يقودها أحمد الشرع، زعيم “هيئة تحرير الشام” السابق. لكن بين طموحات الحكم المركزي، وتصاعد العنف الطائفي، وضغوط القوى الدولية، يبدو أنَّ البلادَ تتأرجح بين فرصة بناء دولة جديدة وخطر الانزلاق مجددًا إلى الحرب الأهلية.

السفير توم برّاك: بدَّلَ رأيه بالنسبة إلى الفيدرالية.

ستيفن سيمون وآدم وينشتاين*

في كانون الأول (ديسمبر) 2024، أحدثت مجموعةٌ من الفصائل المتمرّدة بقيادة “هيئة تحرير الشام” صدمةً عالمية عندما أطاحت الرئيس السوري بشار الأسد. بعدَ هذا التطوُّر، شكّلَ زعيمُ الهيئة أحمد الشرع حكومةً مؤقتة لإدارة المرحلة الانتقالية في البلاد. الشرعُ ليس شخصيةً جديدة على المشهد؛ فقد كان جهاديًا بارزًا وقاد سابقًا فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا. ومع ذلك، لم يتردّد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إعلان دعمه له، واصفًا إياه، بعد لقائهما في الرياض في أيار (مايو)، بأنه رجلٌ “قوي” و”كاريزمي”. ومنذ ذلك الحين، رفعت واشنطن العقوبات المفروضة على سوريا، وأصدرت بيانات رسمية تؤيّدُ حكومةَ الشرع المؤقتة.

منذ تولّيه الحكم، عمل الشرع على كَسبِ الدعم الخارجي عبر التخلّي عن خطابه الجهادي السابق، بل وألمح إلى إمكانية تطبيع العلاقات مع إسرائيل. هذا التوجُّه الجديد، مُضافًا إليه سجلّه في إدارة محافظة إدلب ذات الغالبية السنّية خلال السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية، أقنع العديد من المسؤولين الأميركيين –الحاليين والسابقين– بأنه الرجل المناسب للمرحلة الراهنة.

لكن سوريا اليوم تعيشُ موجةً جديدة من العنف، فيما يضمُّ تحالفُ الشرع عناصرَ جهادية لم تتخلَّ عن فكرها القديم. والمشكلة الحقيقية في سياسة واشنطن ليست مجرد دعمها لحليفٍ سابق لتنظيم “القاعدة”، بل في تبنّيها رؤية الشرع لنظامٍ مركزي قوي في بلد متنوِّع طائفيًا وإثنيًا يُعاني انعدامَ ثقةٍ عميق بين مكوّناته. ففي تموز (يوليو)، أعلن المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، السفير توم برّاك، أنَّ الولايات المتحدة لا تؤيّدُ أيَّ صيغةٍ فيدرالية، حتى تلك التي تسمح بإدارة محلية للشرطة.

أما الحكومة الانتقالية في دمشق فقد رفضت بشكلٍ قاطعٍ فكرة الفيدرالية، معتبرةً إياها مقدّمة للفوضى وتفكًّك الدولة، ولخسارة “هيئة تحرير الشام” سيطرتها على البلاد. وتشيرُ تجارب الجوار إلى صعوبة تطبيق النماذج التوافقية أو الفيدرالية بنجاح؛ فالنظام الطائفي في لبنان والنظام الفيدرالي في العراق يعانيان إخفاقات متكررة. بعض حلفاء الشرع يرى أنَّ الأغلبية السنّية في سوريا –بصفتها الأكثر عددًا– يجب أن تكون صاحبة الكلمة العليا في الحكم، لا الأقلّيات.

يفتقرُ الشرع ومستشاريه المقرَّبين إلى رؤيةٍ واضحة لمستقبل سوريا. خبرتهم تقتصرُ على إدارة إدلب، وهي مدينة صغيرة أشبه بملاذٍ للإسلاميين، وليست دولة واسعة متعددة الطوائف والأعراق. وفوق ذلك، الشرع ليس زعيمًا مطلق الصلاحيات؛ فهو يعتمد على دائرة ضيِّقة من المستشارين يتخذ معهم قراراته، وغالبًا ما يجنح هؤلاء إلى احتكار السلطة.

ولكي تتمكّن البلاد من التعافي بعد نصف قرن من الاستبداد وأكثر من عشر سنين من الحرب الأهلية، فإنَّ الحلَّ يمرُّ عبر مَنحِ الأقليات قدرًا من الحكم الذاتي. من المرجح أن تظلَّ سوريا تحت حُكمِ شخصية قوية، لكن من دون نظامٍ فيدرالي أو صيغةٍ لتقاسُم السلطة، سيبقى خطرُ العنف الطائفي قائمًا. وإذا شعرت الأقليات بتهديدٍ من سلطةٍ مركزية مُتحكِّمة، فسوف تقاوم، وربما تستعين بقوى خارجية لدعمها. العودة إلى أتون الحرب الأهلية احتمالٌ وارد. لذلك، على شركاء سوريا –وفي مقدمتهم الولايات المتحدة– الدفع نحو اتفاق يضمن مشاركة حقيقية في السلطة.

جيوشٌ صغيرة في كلِّ مكان

عقب سقوط الأسد، رأى كثيرٌ من الحكومات الأجنبية أنَّ الشرع هو الخيار الأنسب لقيادة سوريا. أما العرب السُنّة داخل البلاد فاعتبروا أنَّ حكم سوريا لم يعد ممكنًا عبر أقلية دينية أو إثنية كالعلويين الذين ينتمي إليهم الأسد، وأنَّ الإسلاميين الذين أسقطوا النظام يجب أن يكونوا جُزءًا من السلطة الجديدة. في المقابل، أدركت واشنطن أن نفوذها على المرحلة الانتقالية سيكون محدودًا، لكنها حافظت على بعض التأثير في شمال شرق سوريا بفضل وجودها العسكري هناك، الذي كان يستهدف منع عودة تنظيم “داعش” وقطع الطريق على إيران نحو لبنان. ومع تراجع خطر “داعش” وبروز حكومة مناهضة لإيران في دمشق، بدأ ترامب بسحب قواته من سبع قواعد من أصل ثمانٍ في سوريا.

بعد إطاحة الأسد، سادت أجواءُ ارتياح فتحت الباب أمام إمكانيّةِ إقامةِ نظامٍ مركزي قوي. حكومةُ الشرع تسيطر اليوم على شريط استراتيجي يمتدُّ من درعا جنوبًا إلى حلب شمالًا على طول الطريق السريع “M5″، إضافةً إلى إدلب والساحل العلوي شمال غرب البلاد. لكنها لا تفرض سيطرتها على السويداء جنوب غرب البلاد، ولا على مناطق الأكراد في الشمال الشرقي.

إلّا أنَّ فرصة المركزية ضاعت في آذار (مارس)، عندما ارتكب مقاتلون سنّة –بعضهم من قوات الحكومة الجديدة– مجزرة قُتل فيها ما لا يقل عن 1,500 علوي. ألقت حكومة الشرع باللوم على العلويين، معتبرةً أنَّ ما جرى انتقامٌ “طبيعي” من مجتمعٍ دَعَمَ الأسد. لكنَّ الواقع كان أعقد، إذ إنَّ كثيرين من السُنّة وقفوا مع النظام السابق أيضًا. كما إنَّ آل الأسد لم يبذلوا جهدًا لتحسين أوضاع العلويين، بل أبقوهم فقراء مُعتمِدين على الجيش والدولة. ومع ذلك، بدا أنَّ حكومة الشرع تتسامح مع هذا الانتقام الدموي، بل وتغضُّ الطرفَ عنه.

ثمَّ في تموز (يوليو)، تعرّضت أقلية أخرى للهجوم، هم الدروز القاطنون في السويداء. هؤلاء يعيشون في منطقةٍ فقيرة، ويدينون بدينٍ باطني لا يراه كثير من المسلمين جُزءًا من الإسلام. اتهمتهم الحكومة بمعارضة سلطتها، ومع الاستعانة بالآلاف من المقاتلين البدو، شنّت قوات الشرع هجمات على قرى درزية، ما أدى إلى مقتل المئات بينهم مدنيون. كما فرضت حصارًا على السويداء وقيّدت وصول المساعدات الإنسانية. ورُغمَ أنَّ الدروز والبدو تحالفوا سابقًا ضد الأسد، فإنَّ نزاعاتهم التاريخية على الموارد تجدّدت، وساهم دعاة التطرُّف على تطبيق “تيليغرام” في إذكاء الكراهية الطائفية والدعوة للعنف ضد الدروز.

تدخّلت إسرائيل –التي ترى نفسها حامية للدروز لوجود أقلية كبيرة منهم داخلها– عبر شنِّ غارات على المقاتلين البدو وقصف وزارة الدفاع السورية، ما أجبر قوات الشرع على وقف هجماتها. ولو لم يحصل هذا التدخُّل، لكانت أعداد الضحايا أكبر بكثير.

يميلُ الشرع إلى فرضِ سلطته بالقوة، ويعتمدُ بشكلٍ كبير على المقاتلين البدو. صحيح أنَّ نظامَ الأسد جنَّدَ بعض القبائل سابقًا، لكن حكومة الشرع نجحت في حشدهم على نطاقٍ أوسع بمساعدة دُعاةٍ جهاديين على الإنترنت. هذا التحالف الرقمي الجديد أثارَ ذعر الأقليات، خصوصًا بعد أن رفضت الحكومة تقديم ضمانات أمنية للدروز أو السماح بدخول مساعدات كافية. ويعتقد مسؤولوها أنَّ أيَّ تنازلات للدروز ستعني مكافأتهم على “تمرّدهم”.

لقد حفّزت نوبات العنف هذه أقليةً أخرى، أكراد سوريا، الذين يحتلون مساحةً واسعةً من الأراضي في شمال شرق البلاد. تحالفت قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، وهي ميليشيا كردية في معظمها وتضم ​​مقاتلين عربًا، مع القوات الأميركية لهزيمة “داعش” في سوريا. وفي سعيها إلى تحقيق حُكمٍ مركزي، ضغط الشرع على “قسد” لتسليم أسلحتها والاندماج مع جيش سوري جديد سيحل محل جيش الأسد. لكن بعد أن شهدوا هجمات النظام الداعمة على العلويين والدروز، فَقَدَ الأكراد أيَّ رغبةٍ لديهم في تسليم ترساناتهم والاندماج في جيش الشرع. في الواقع، وصف ممثلو “قسد” هذا التحوُّل في موقفهم تجاه الحكومة المؤقتة بأنه “ما قبل السويداء” و”ما بعد السويداء”.

كانَ من المقرّر أن تُجري الحكومة المؤقتة محادثاتٍ مع قادة قوات سوريا الديموقراطية في باريس هذا الصيف، لكنها انسحبت في آب (أغسطس)، قائلةً إنَّ وقتَ التفاوض قد ولّى، وأنَّ مسألة الاندماج الكردي ستُسوّى “على الأرض”، ربما بالقوة، مع احتمالية أن تكون دير الزور نقطة انطلاق. ومع ذلك، فإنَّ قوات الشرع ليست بالقوة الكافية لفرض إرادتها على الميليشيات الكردية. ورُغمَ ادعاء الحكومة أنها تملك 100 ألف جندي، بينهم 30 ألفًا من الجيش الوطني السابق، فإنَّ هذه الأرقام مشكوكٌ فيها. حتى مع جيش بهذا الحجم، فإنَّ المساحات الواسعة التي تقع تحت سيطرتها ستضعف فعاليتها أمام قوات سوريا الديمقراطية الأكثر تنظيمًا والمتمركزة في مناطق أصغر. وإلى جانب ذلك، أعاد الدروز تنظيم صفوفهم وشكّلوا “الحرس الوطني” لحماية أراضي السويداء من أي محاولة لضمّها بالقوة.

حكم الأغلبية؟

كُلَّما زادَ قمع الحكومة المركزية للأقليات، زادت مقاومة هذه الأقليات ضد مركزية الحكم، ما يؤدي إلى دوامة جديدة من العنف ويفتح الباب أمام تدخُّل دول مثل إسرائيل أو إيران أو تركيا. في الوقت نفسه، يزدادُ فقر السوريين ومعاناتهم. لذلك، من الضروري أن تتخلى الولايات المتحدة عن رفضها للفيدرالية، وأن تدعمَ منح بعض السلطات للحكومات المحلّية أو الإقليمية، مع الإبقاء على السياسات المالية والعلاقات الخارجية والدفاع بيد الدولة المركزية. مثل هذا النظام سيسمح للأقليات بإدارة مناطقها بفاعلية، من دون الوقوع في الجمود السياسي كما في لبنان، أو الفوضى الاقتصادية كما في العراق. ورُغمَ مشاكل هذين البلدين، فإنَّ أوضاعهما كانت ستصبح أسوأ لو احتكرت السلطة المركزية كل شيء. الرسالة التي يجب أن تفهمها دمشق هي أن السعي وراء المركزية المطلقة سيؤدي إلى نتائج عكسية: تعميق الانقسامات الطائفية، تصعيد العنف، إبطاء النمو الاقتصادي، وتقويض الشرعية الدولية.

يبدو أنَّ صانعي القرار الأميركيين بَدَؤوا يتبنّون تدريجًا فكرة فيدرالية جُزئية لسوريا. ورُغمَ أنَّ مكتب المبعوث الأميركي لا يزال يثق في كفاءة الشرع والتزامه بسوريا تعدُّدية، إلّا أنَّ هناكَ حذرًا متزايدًا من كلفة الحكم المركزي وصعوبته. ففي آب (أغسطس)، صرّح برّاك بأنه يؤيد “ما هو أقل من الفيدرالية الكاملة”.
في النهاية، فإن السوريين هم من سيُحدّدون شكلَ نظامهم السياسي. لكن على إدارة ترامب أن تُدرِكَ تأثير كلماتها، وأن تتجنّبَ تشجيعها –عن غير قصد– أسوأ نزعات وميول الحكومة المؤقتة، حتى لا تنزلقُ البلاد مجددًا نحو حربٍ أهلية جديدة.

Exit mobile version