
هنري زغيب*
3,000 مقعد في مُدَرَّج زوق مكايل لم تكْفِهم. تَضاعفوا أَولًا، ثم تضاعفوا مرتين، ولم يتَّسع لهم الـمُدرَّج، فتابَعوا وُقُوفًا، ولم يُتْعبْ وُقُوفَهم البرنامج الجميل الذي أَعدَّتْه الأُخت مارانا سعد رئيسة جمعية ومعهد “فيلوكاليَّا” – عينطورة كسروان.
العنوان جاذب: “في حضرة عاصي ومنصور”. كان موعدُه الإِثنين 28 تموز/يوليو الماضي. لكنَّ الوسط الفني فُجِعَ بغياب زياد قبلها بيَومَين، ومأْتمه في اليوم ذاته (ذاك الإِثنين) حتَّم إِلغاء الاحتفال. وإِذ أَعادت “فيلوكاليَّا” بَرمجتَه للثلثاء (أَول من أَمس، 26 الجاري) كان طبيعيًّا أَن يقضي الوفاءُ بتحية إِلى الغالي زياد، فحمَل البرنامج اسمَهُ مع عاصي ومنصور، بتقديم اللوحة الافتتاحية من نتاجه: “كيرياليسُون”، “طُوبى للساعين إِلى السَلام”، ومقدِّمة “ميس الريم”.
تحقَّق البرنامج ثمرةَ تعاوُنٍ بين “فيلوكاليَّا” وبلدية زوق مكايل بهمّة رئيسها/رئيس اتحاد بلديات كسروان الفتوح الياس البعينو، ودعْم “التجمُّع الوطني للثقافة والبيئة والتراث” بهمِّة رئيسه أَنطوان أَبو جودة ومشارَكَة فِرَق فولكلورية من “التجَمُّع”: “فرقة الأَصايل”، “فرقة الأَنوار من نادي شحيم الثقافي”، “فرقة برجا للفنون الشعبية”، وفرقة “أَفراح غْروب”.
وتتالت اللوحات الرحبانية الأَربع مع جوقة “فيلوكاليَّا” (80 صوتًا) والفرقة الموسيقية (22 عازفًا) قادتْهُما الأُخت مارانا سعد. ولم تكْفِ منصَّة الـمُدَرَّج، فأُضيفَت أَمامها منصَّةُ مسرحٍ تَمَهْرَجَتْ برقص الدبكات الرحبانية.
وراح الجمهور، على كثافته الضخمة غير العادية وغير المتوقَّعة، متماوجًا غناءً مصاحبًا أَو تصفيقًا مبتهجًا، لأَداء رفقا فارس وجيلبير رحباني، متنقِّلًا من لوحة “بيَّاع الخواتم” (“يا بيَّاع الخواتم”، “يا حجل صنين”، “يا مرسال المراسيل”)، إِلى لوحة “فخر الدين” (“صَرِّخ يا ديب”، “يا قمَر مشغرة”، “خَطّة قدَمكُن”، “وعدي إِلَك”، “دبْكة لبنان”، “بيي راح مع العسكر”، “راجع بِصْوات البلابل”)، إِلى لوحة “أُغنيات في البال” (“فايق يا هوى”، “شوفو ضهر الشير”، “طاير بالشوق”، “دقُّوا المهابيج”، “طالل على بْواب الحلا”)، إِلى اللوحة الختامية لمنصور: “صيف 840” (“غريبَين ولَيْل”، “طَوَّلوا علينا”، “يا حيَّا الله”، “زيِّنو الساحة”، “لَمَعت أَبواق الثورة”).
وكان للكبير جهاد الأَطرش حضورٌ لافتٌ ساطعٌ في ربطه اللوحاتِ والمشاهدَ بتمهيداتٍ من الفضاء الرحباني جعلَت الأُمسية تَغْنَى بصوته العميق وأَدائه الرائع، ما جعل السهرة ذات متعة أَجمل.
تاجُ الاحتفال تَنَصَّع بكلمة الأُخت مارانا سعد ختامًا: “في حضرة عاصي منصور وزياد، لا نقف فقط أَمام عباقرةٍ من زمن جميل، بل أَمام ذاكرةٍ حيَّةٍ جعلَت من الفن هوية، ومن الأُغنية بيتًا، ومن المسرح وطنًا لا يغيب… ما أَقامه عاصي ومنصور لم يكن مجرد أَلحانٍ وشعر بل كان رؤْيةً وصرخةً وأَملًا وحُلمًا بصوتٍ مرتفع… عَلَّمانا بدون أَن يَفْرِضا، حرَّكا فينا الوطنية من دون أَن يُسمِّياها، وربَّيانا على العز والحب والكرامة من دون أَن يُلْقيا علينا محاضرات… وموسيقى زياد أَضافت إِلى هذا الإِرث نكهةً خاصة تحمل عُمق الموسيقى وتمتزج بالوجَع والفرَح، بالحُلم والتمرُّد… فيا عاصي ومنصور وزياد، مَن تربى في مدرستكُم لا يخشى الصمت بل يصنع منه أُغنية… هذا الاحتفال ليس مجرد تحية بل ولادة مستمرة، وهذا الجيل ليس مجرَّد جمهور بل ورثة الحلم الرحباني… شكرًا على النُور الذي زرعتموه فينا، على النَبْض الذي لا يتوقَّف، وعلى الصوت الذي لن يموت. وكونوا مُطْمئنِّين: فالنار التي أَوقدتموها في صوت فيروز كلمةً ونغمةً، ما زالت تنير، وسوف تَبقى تنير”.
أُمسية “فيلوكاليًّا”، ليلة الثلثاء على مُدَرَّج زوق مكايل، لم تكُن باقةَ أُغنيات وموسيقى من الإِرث الرحباني وحسْب، بل نجمةَ وفاء، ستبقى متَلأْلئةً في البال طويلًا، كما ستبقى في الذاكرة راهبةٌ مكرَّسةٌ لِـــ”حب الجمال”، نذَرَتْ حياتها للصلاة فنًّا عاليًا، كما يليق الابتهال إِلى الخالق الأَعظم.
راهبة خلَّاقة فكرًا وسُموًّا.
مارانا اسمُها.
مارانا سعد.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).