
هنري زغيب*
لاتساع شهرة الكتَّاب أَكثرُ من عامل، بينها كيف ينظرون إِلى الحياة والوجود. فكلٌّ منهم يراهما من نظرته الخاصة، متفرِّدةً كانت أَو سائدة. وهنا فرادتُه في أُسلوبه وكتاباته شكلًا ومضمونًا. تمامًا كما الرسامُ يخُطُّ على قماشته لوحةً وَفْقَ نظرته إِلى الوجه أَمامه أَو المنظر أَو المشهدن ما قد يراه آخرُ مغايرًا من وجهة نظره الأُخرى.
كيف الوصولُ إِلى هنا.
الخيال ابن الواقع
الـمُتَخَيَّل إِذًا ليس كلِّيًّا من الخيال. فيه غالبًا عناصر من الواقع، لأَن في القصص الخيالية نسيجًا من أَحداثٍ حقيقية أَو أَشخاص موجودين، وهي الطينة التي يتشكَّل منها النصُّ الـمُتَخَيَّل. كلُّ هذا من نظرة الكاتب إِلى إِطار ما يكتُبُه. وكلَّما قطف الكاتب نجاحًا أَو جائزةً أَو تهنئةً، يدرك في فكره أَن الخيال الذي يُهَنَّأُ عليه، نابعٌ مما شعر به فعليًّا، أَو عايَنَهُ حوله ذات يوم.
نأْخذ، مثلًا، الكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف (1899-1977) وروايته “لوليتا” (1955) بما كان لها من صدًى جدَلي ومناقشات رافضة أَو معترضة أَو قابلة. مهما يكن، لا يمكن نفيُ ما فيها من براعة كتابة وبراعة ملاحظة، ما يشي بكاتبها ذا نظرة خيالية خاصة إِلى ما يعالج في نصِّه، مستَمَدَّة من بعض الواقع. وكان، في محاضرة له (“القرَّاء الجيِّدون والكتَّاب الجيِّدون” – 1946) نصح أَهل القلم: “إِسحبوا الخيال من الواقع حولَكُم”. فهو يرى أَن النص الخيالي مجموع ملاحظات واقعية ينسُجُها الكاتب ببراعته التوليفية. والأَشخاص المتخيَّلون في الرواية ليسوا دائمًا متخيَّلين كليًّا أَو تَمامًا، بل فيهم ملامحُ من أَشخاص واقعيين حول الروائي أَو في محيطه.
سوزان سونتاغ
الكاتبة/الناقدة سوزان سونْتاغْ (1933-2004) قالت يومًا في خطاب لها سنة 1999: “الكاتب هو مَن يَنْتبه إِلى العالَم حوله”. كانت تقصد – وهي على ما يبدو عاشت ما تقوله – أَنَّ الكاتب الجيِّد هو مُراقبٌ (أَو مُلاحظٌ) جيِّدٌ تفاصيلَ دقيقةً أَو خصائصَ شخصٍ أَو عادةَ جماعة. وهذا ليس متاحًا لعُموم الناس: مشهدُ وصولِ شخصٍ يوميًّا إِلى المقهى في الوقت ذاته وطلَبِهِ القهوة ذاتها، المرأَةِ التي دخلَت مخزنًا مع زوجها وتفتِّش بين رفوف الثياب عن مطلبها، وعينَي طفل مفتوحتين تَلَمُّظًا أَمام خزانة الحلويات في واجهة محل الحلوى.
هكذا، ملاحظاتٌ بسيطةٌ صغيرةٌ تفصيلية يُصبح مجموعُها مشاهدَ تستقطب اهتمام الكاتب، وينقلها إِلى القارئ على أَنها من خياله كليًّا فيما هي جزئيًّا من الواقع.
الملاحظَة للقرَّاء أَيضًا
ليس للقارئ أَن يتحوَّل كاتبًا كي يكون دقيق الملاحظة. فهو غالبًا يتابع ما يلاحظه الكاتب، في انسيابه مع صفحات الكتاب، باحثًا بين الأَسطر عما هو خياليٌّ وما هو مستوحى من الواقع. من هنا أَن القراءة اليومية تريح الدماغ من ضواحي التشنُّج، لِما في القراءة من سياحة ذهنية مريحة.
هكذا يتضح أَن الملاحظة (أَو المراقبة) ليست مقتصرة على الكتَّاب وحدهم، بل هي نهجٌ يوميٌّ يساعد على المواصلة، وخصوصًا على تجنُّب أَيِّ خطر داهم، في الشارع أَو في البيت، فتكون الملاحظة دليلًا إِلى حُسن استخدام الوقت، وإِلى اعتماد التغيير في سلوكٍ أَو تصرُّف، وتاليًا ليس الكتَّاب وحدهم مَن يدْعون إِلى التنبُّه والملاحظة بل هي قناعة ذاتية.
القراءة طريق إِلى التركيز
هنا دور القراءة الواعية. قد يحدث أَن نقرأَ صفحاتٍ أَمامنا، ثم نكتشف أَننا لم نتابع تمامًا ما جاء فيها. لذا نعود إِلى الصفحات السابقة، وندعو دماغنا إِلى التنبُّه الواعي في إِعادة قراءَتها من جديد، مع التركيز الذهني الوافي. هكذا تكون القراءة طريقًا إِلى الانتباه والتركيز.
إذًا ليس ضروريًّا أَن نتلبَّس دور الكاتب كي “نلاحظ”، بل نسعى، كما الكاتب، أَن نلاحظ ما يدور حولنا كأَننا سنستمدُّ منه مادة واقعية للكتابة. من هنا عبارة القاصَّة الأَميركية ليديا ديفيس (م.1947): “حين ندوِّن يومياتنا باستمرار، نُقَوِّي دُربة الملاحظة عما يدور حولنا، كما نقوِّي دربتَنا على الكتابة الواعية كل يوم”.وطبعًا هي هنا لا تقصد الناس عمومًا بل الكتَّاب خصوصًا، لأَن امتشاق العادة اليومية في الكتابة، يساعد على تَوَقُّد الذهن في الملاحظة والتعبير، فتُصبح هذه العادة طبيعةً أُخرى فينا تضيف بُعدًا جديدًا خلَّاقًا إِلى إِيقاعاتنا اليومية.
هكذا، كلَّما قرأْنا أَكثر، عَوَّدنا انتباهنا إِلى الملاحظة أَكثر. فالدماغُ يتبلْوَرُ وينصقِلُ في التحدي الذاتي الدائم. هذه هي اللحظات التي تصقل فينا دقَّة الملاحظة سبيلًا إِلى دقة الوصف.
هذه الدقة هي التي تميِّز كاتبًا عن آخر.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).
