جبران اليوم في إِيطاليا: نُصْبٌ على قمَّة (1 من 4)

كلمة فْرَنْشِسْكو ميديتْشي في الندوة قبل الاحتفال

هنري زغيب*

تتواصل ولادةُ جبران خليل جبران، يومًا بعد يوم، احتفالًا بعد احتفال، وفي بلادٍ بَعد أُخرى.

ها هو يطلُّ اليوم من جديد، في إِيطاليا هذه المرَّة، إِحياءً نشاطَه في نيويورك إِبَّان المجاعة الكبرى التي ناءَ بكارثتها لبنان في الحرب العالمية الأُولى.

تلَّة على قمَّة الوادي

كان ذلك نهار الجمعة (21 الجاري) في مدينة أَغْريجِنْتو السياحيّة الإِيطاليّة الشهيرة في صقْلية (أَكبر جزيرة في المتوسط). وهي شهيرةٌ بـ”وادي المعابد” الرابضِ وسْطَ واحةٍ أَثَريةٍ كانت منظمةُ اليونسكو اعتمدَتْها في كانون الأَول/ديسمبر 1997 إِلى “لائحة المواقع الأَثرية في العالم”. وفيها، عند تلَّتها العُليا، 7 معابد وهياكل إِغريقية قديمة تُحافظ عليها الدولة بشكل ممتاز، وهي مُطلَّةٌ عن بُعْدٍ (نحو 6 كلم) على شاطئ البحر المتوسط.

الحدَث: احتفالٌ بــ”أَبرار الإِنسانية”، نظَّمَتْهُ “أَكاديميا الدراسات المتوسطية” داخل “حديقة الأَبرار” في مدينة أَغْريجِنْتو، برعاية “الدائرة الإِقليمية للتراث الثقافي والهوية الصقليَّة”، تعاوُنًا مع بلدية أَغْريجِنْتُو.

“حديقة الأَبرار” نوع من “بانتيون الخير”. تم افتتاحُها قبل عشر سنوات قرب “الدرب المقدسة” الـمُوصِلة إِلى “وادي المعابد”. وهذه البادرة تهدف إِلى مساعدة الطلَّاب أَولًا، كما أَوصَت الكاتبةُ أَسُّونتا غالو أَفِّليتُو، الرئيسةُ المؤَسِّسةُ “أَكاديميا الدراسات المتوسطية”، وهي إِحدى أَبرز الشخصيات في أَوساط أَغريجِنْتو الثقافية (توفيت في 20 تشرين الأَول/أُكتوبر الماضي).

الهدف من هذا الاحتفال السنوي: استذكارُ أَفراد أَثبَتوا جدارتهم في الحفاظ على القيَم الإِنسانية في بلدانهم عند مفارق مفصلية عرفَت حوادثَ جماعيةً كارثيةً، أَو محاكماتٍ فرديةً أَو جماعيةً جائرة.

اللجنة العلْمية في “أَكاديميا الدراسات المتوسطية” اختارَت ثمانية أَعلامٍ جعلَتْ لهم أَنصابًا/شواهد في “الحديقة”، دخلوا التاريخ بظروف مختلفة، إِنما تصبُّ جميعُها في سبيل الخير العام، والسعيِ إِلى السلام والحرية والعدالة والتضامن. والثمانية هُم: جبران خليل جبران، الأُسقف الأَرمني سيريل زُهرابيان، الطالب دانيال كاريون (من البيرو)، القبطان روبرتو لوردي، وأَربعة عمال إِطفاء استشهدوا أَثناء المقاومة في بانيارا.

نُصْبُ جبران في مقدمة سائر الأَنصاب

الاحتفال المنبري

سبقَت رفعَ الستارةِ عن الأَنصاب ندوةٌ منبريةٌ في قاعة “سان فيليبو”. افتتحها الأُسقف إِنريكو دَل كوفولو (الرئيس السابق لجامعة لاتِران الحبرية في روما)، وتوالى على المنبر ترحيبًا: رئيس بلدية أَغريجنتو فرنشِسْكو ميشيكِّيه، والأُسقف أَلسندرو داميانو، ورئيس بلدية باليرمو روبرتو لاغالَّا (وهو عضو فخري في “الأَكاديميا”)، وأَلبرتو بيتيكس (مدير الإِدارة في بلدية أَغريجنتو)، مدير الحديقة روبرتو شاراتَّا، وأَدار الندوة الحوارية جيوزيبي باريلُّو.

القنصل بياترو كوشيوكيان تحدَّثَ عن الأُسقف الكبوشي الأَرمني سيريل زُهرابيان، الذي أَنقذ مئات الأَشخاص إِبَّان حرب إِبادة الأَرمن، وبعدها أَنشأَ مياتم ومدارس وكنائس.

فْرَنْشِسْكو ميديتْشي (عضو “الجمعية الدولية لدراسة حياة خليل جبران وأَعماله”) قرأَ نصوصًا غيرَ معروفةٍ لجبران، كان كتبَها إِبَّان المجاعة الكبرى في لبنان، وكان لكتاباته ونشاطه الاجتماعي تأْثيرٌ إِيجابيٌّ في المساعدة على التخفيف من كارثة تلك المجاعة الرهيبة.

الأَب أَلسَّاندرو أَندرِيـــيني (أُستاذ في جامعة غونذاكا – فلورنسا) تحدَّثَ عن القبطان روبرتو لوردي، من سلاح الطيران الحربي الإِيطالي، وهو كان انضمَّ إِلى المقاومة بعد 8 أَيلول/سبتمبر 1943. أَعدمَه النازيون مع 335 شخصًا في مجزرة 24 آذار/مارس 1944 ودفَنوهم جماعيًّا في حُفَر مدينة آرديا (35 كلم جنوبي روما).

كالوغيرو باربرا (القائد الإِقليمي لفوج رجال الإِطفاء في أَغريجِنتو) تحدَّث عن شهداء فوج الإِطفاء الأَربعة: دومينيكو أَغَدْزي، غويدو أَدْزالي، وأُدواردو تشيراني، ولويجي روزينِنْتي، وهم ساندوا المقاومة وسقطوا في مدينة بانيارا قرب كريمونا سنة 1945.

الكاتب ماركو رونكالِّي (العضو الفخري في “الأَكاديميا” وحفيد أَحد أَنسباء البابا يوحنا الثالث=أَنجلو جيوزيبي رونكالّي) تحدَّثَ عن وصية دانيال كارِّيون، بطل البيرو الوطني، وهو طالبُ طبٍّ تُوفي بعدما صارع ببطولةٍ فائقةٍ مَرضًا غريبًا في بلاده، رضيَ إِراديًّا أَن يُصابَ به كي يَدْرُسَه ويحلِّلَه، فتُوفي ضحية إِرادته على التضحية بحياته من أَجل دراسة المرض وتحليله.

بعد الاحتفال المنبري، انتقل الجميع إلى “حديقة الأَبرار” لرفع الستارة عن الأَنصاب.

فْرَنْشِسْكو ميديتْشي بعد رفع الستارة عن نُصْب جبران

نُصْب جبران

إِذا كانت لا تهمنا هنا النصوصُ المحفورة على الأَنصاب، فما يهمنا هنا هو نُصْب جبران. رفع عنه الستارةَ الباحثُ الجبرانيُّ المدقِّق فْرَنْشِسْكو ميديتْشي. والنص المحفور عليه هو: “خليل جبران (1883-1931). شاعر ورسَّام لبناني. هاجر إِلى الولايات المتحدة وهو في الثانية عشرة، واستقرَّ لاحقًا في نيويورك. خلال المجاعة الكبرى التي اجتاحت بلاده (1915-1918) في الحرب العالمية الأُولى أَيَّامَ كانت بلادُه تحت نير الباب العالي (السلطنة العثمانية)، انضمَّ إلى “لجنة غوث سورية وجبل لبنان”. وبصفته أَمين سرِّها، أَلـحَّ على وزارة الخارجية الأَميركية أَن تتدخَّل، وأَلَّا تُفَوِّتَ جهدًا في توعية الرأْي العامّ، وتعملَ على إِرسال المساعدات إِلى المنكوبين. وعلى الرغم من تَلَقِّيْهِ تهديداتٍ تركيةً بالموت، اتَّهم عاليًا السلطنة العثمانية بتعميقِ العذاب، وإِطالةِ أَزمة الجوع بين الأَهالي. وهو كان، في كتاباته وفنه ونشاطه السياسي والاجتماعي، صوتَ الضعفاء والمقهورين. دافع عن الكرامة الإِنسانية بمعزل عن العِرْق والدين، فكان جسرًا بين الشرق والغرب بِاسم الحب والأُخُوَّة الكونية الشاملة. ومن هنا قولُه الشهير: “الأَرض كلُّها بيتي، وجميعُ الناس مواطنيَّ فيها”…”.

المقال المقبل: جزءٌ أَوَّلُ من مداخلة فْرَنْشِسْكو ميديتْشي عن جبران والمجاعة في لبنان.

Exit mobile version