من طرابلس إلى بنغازي: واشنطن تَختَبِرُ فُرَصَها في إنهاءِ الانقسامِ الليبي

بعد تحقيقِ انتصارٍ ديبلوماسي في أفريقيا جنوب الصحراء، زارَ مسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ليبيا، في إشارةٍ إلى رغبة واشنطن في إعادةِ صياغة مُقاربتها تُجاهَ هذا البلد.

و…مع خليفة حفتر: محاولة أميركية لإبعاده عن روسيا.

وليد علي*

أثارت زيارةٌ هادئة لأحد كبار مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى ليبيا احتمالَ عودةِ واشنطن إلى الاهتمامِ بهذا البلد الشمال أفريقي، وفتحت البابَ أمام تساؤلاتٍ عمّا إذا كانَ هذا الانخراطُ قد يساهمُ أخيرًا في إنهاءِ حالة الجمودِ السياسي المُزمِن.

زار مسعد بولس، مستشار ترامب لشؤون الشرق الأوسط وأفريقيا، ليبيا في تموز (يوليو) الفائت، بعد أسابيع من اضطراباتٍ دامية شهدتها العاصمة طرابلس، حيث اندلعت مواجهاتٌ بين ميليشياتٍ مُتناحِرة تُغذّيها صراعاتٌ على السيطرةِ الميدانية والانتماءات العشائرية والمناطقية، فيما زادها اشتعالًا الغضبُ الشعبي من تعثّرِ المسار السياسي وتدهور الخدمات، ما أثارَ مخاوف متنامية من انزلاقِ البلاد نحو صراعٍ طويل الأمد.

وعلى الرُغمِ من اتقانِ القوى الليبية الراسخة فنون المُماطلة وتفادي تقديم أيِّ تنازُلاتٍ حقيقية، ولا سيّما للشعب الليبي، جاءت زيارة بولس في سياقِ تحوّلاتٍ إقليمية كبرى قد توحي بتغيُّرٍ في حساباتِ واشنطن تُجاهَ ليبيا.

فبعدَ سقوط الرئيس السوري بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، أعادت روسيا نشر قوّاتها البحرية من سوريا إلى شرق ليبيا، في خطوةٍ أجّجت المخاوف من توسُّعِ النفوذ الروسي على الضفّة الجنوبية للمتوسط. واللافت أنّ موسكو ما زالت تُحافظ على صلاتٍ وثيقة مع قوى استراتيجية في شرق ليبيا وكذلك مع خصومها في الغرب، وإن كانت تميلُ بوضوحٍ إلى تفضيل المعسكر الشرقي.

لطالما دعمت روسيا القائد العسكري في الشرق المشير خليفة حفتر ولما يُسمّى ب”الجيش الوطني الليبي” الذي يقوده، عبر مستشارين عسكريين وإسنادٍ لوجستي وتنسيقٍ سياسي. غير أنّ انفتاحها في الوقت نفسه على خصومه يُتيحُ لها تعزيزَ نفوذها في المشهد الليبي المُتشظّي، وترسيخَ حضورها على الضفة الجنوبية للمتوسّط والجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو).

وتوحي زيارة بولس، عقب نجاحه في التوصّلِ إلى اتفاق سلامٍ شامل بين جمهورية الكونغو الديموقراطية ورواندا، مهّدت له وساطة قطرية، بأنّ واشنطن باتت ترى أنّ الملفَّ الليبيي يستحقُّ اهتمامًا مُتجدّدًا. فقد التقى بولس والوفد المرافق له طيفًا واسعًا من القوى الليبية من الغرب والشرق. ففي طرابلس، اجتمع برئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، بينما أجرى محادثات مع حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح في بنغازي.

تعملُ هذه السلطات الاسمية في الشرق والغرب جنبًا إلى جنب مع الفصائل المسلّحة التي تُشكّلُ عماد قوّتها المحلّية. ففي طرابلس، يستمدّ الدبيبة نفوذه من ميليشياتٍ مثل قوة العمليات المشتركة، بينما يرتكزُ ثقلُ مجلس النواب في الشرق على القوة العسكرية التي يوفّرها “الجيش الوطني الليبي”. وهكذا يصبح كلُّ معسكرٍ سياسي وفصائله المسلّحة معسكرًا واحدًا، يجمع بين السلطة الرسمية والقوة القسرية في بُنيتَين حاكمتَين بحُكمِ الأمر الواقع.

وبدلًا من الانحيازِ إلى أحد المعسكرين، يبدو أنّ واشنطن تسعى إلى اختبارِ استعدادِ الطرفَين للانخراط في إطارٍ أكثر توازُنًا، رُبّما برعايةٍ أميركية، يهدفُ إلى استعادة النظام والحدّ من التدخّلات الخارجية، ولا سيّما الروسية.

في غربِ ليبيا، لا يزال الدبيبة يحظى باعترافٍ أميركي ضمني بوصفه رئيس الحكومة المُعترَف بها دوليًا. غير أنّ واشنطن تبدو اليوم أكثر ميلًا إلى مُقاربةٍ واقعية تعترفُ بالانقسامِ السياسي في البلاد، ما قد يُمهّدُ لمساراتٍ سياسية جديدة.

ويعكسُ هذا التوجّه تحوّلًا من السعي إلى إيجادِ حلِّ الانقسام إلى محاولةٍ لإدارته، في ظلّ غيابِ أدواتٍ ضاغطة واضحة تُجبرُ القوى الراسخة المتنافسة على تقديمِِ تنازلاتٍ جوهرية. ويبدو أنّ هذه المقاربة قد صُمّمت خصيصًا لتأمين المصالح الأميركية العاجلة، خصوصًا في مجالي الطاقة والأمن، عبر الحفاظ على توازُنٍ وظيفي بين السلطات المتناحرة. وفي هذا السياق، قد لا يشكّل إحياء المسار الدستوري في ليبيا مخرجًا سريعًا للأزمة، بل أداة لتأجيل الاستحقاق السياسي وكسب الوقت للقوى القائمة لإعادة ترتيب مواقعها. ويبقى على النخب الليبية أن تُحدّدَ ما إذا كانت هذه النافذة فرصةً لإعادة الاصطفاف أم تحذيرًا من مغبّة سوء التقدير.

نفوذ الطاقة وسياسات الاستثمار

إلى جانب البُعد الديبلوماسي، حملت الزيارةُ بُعدًا اقتصاديًا بارزًا، خصوصًا في قطاع الطاقة الذي يُشكّلُ الغالبية العظمى من الناتج المحلّي الإجمالي والإيرادات العامة في ليبيا. فقد أعلن مسعد بولس عن توقيعِ مذكّرةِ تفاهُمٍ مرتقبة بين المؤسّسة الوطنية للنفط وشركة “إكسون موبيل” (ExxonMobil) لبدء عمليات استكشاف الغاز البحري، وهي خطوةٌ قد تعزّز موقع ليبيا في أسواق الطاقة العالمية. كما يوشكُ اتفاقٌ آخر بين شركة الواحة للنفط وشريكتها الأميركية “كونوكو فيليبس” (ConocoPhillips) على الاكتمال، بهدف توسيع الإنتاج في حقل الواحة. وفي طرابلس، حضر بولس توقيع اتفاقية بقيمة 235 مليون دولار بين شركة مليتة للنفط والغاز وشركة “هِلّ إنترناشونال” (Hill International) الأميركية لدعم تطوير بنى تحتية كبرى لقطاع الغاز.

غير أنّ تنفيذ هذه الصفقات لا يزال غير مضمون. ويتوقّف نجاحها على قدرة ليبيا على توفير الحدّ الأدنى من التماسُك السياسي والضمانات الأمنية والتنسيق الإداري، وهي شروٌط تبدو صعبة في السياق الليبيي الراهن. ومن دونِ إحرازِ تقدّمٍ ملموس على هذه الصُعُد، قد يتردّد المستثمرون الأجانب في المضي قدمًا في تنفيذ التزاماتهم المُعلَنة.

غير أنّ هذه التحرّكات تُجسّدُ رغبةَ واشنطن في ترسيخ نفوذها الاقتصادي في ليبيا، عبر توظيف شركات الطاقة الأميركية كأدواتٍ للانخراط الإستراتيجي في ظلِّ منافسةٍ مُحتدمة من روسيا وإيطاليا وتركيا. ولا تقتصرُ أهمّية قطاع الطاقة على اعتباره مجرّد مصلحة اقتصادية، بل يمثّل أداةَ نفوذٍ سياسي، إذ يُوظَّفُ الاستثمار كوسيلةٍ لتحقيق الاستقرار، بحيث يكافئ ضمنيًا الأطراف القادرة على توفير بيئةٍ آمنة لرأس المال الأجنبي.

وفي هذا السياق، برز اللقاءُ الذي جمع بولس بصدّام حفتر، نجل القائد العسكري خليفة حفتر، كحدثٍ لافت. فعلى الرُغم من أنّه لا يزال يتحرّك تحت عباءة سلطة والده، بدأ صدّام يقدّم نفسه كوسيطٍ مُحتَمَل للتواصل مع الشركاء الأجانب المهتمّين بمستقبل شرق ليبيا الاقتصادي، من خلال زياراته إلى عدد من الدول المهمّة، من ضمنها تركيا.

ويطرحُ صدّام خطابًا يقومُ على معادلة “الأمن والاستثمار” في محاولةٍ لبلورةِ موقعٍ شخصي في المعادلة الاقتصادية لشرق ليبيا وأن يصبحَ واجهةً لها. وقد تجد هذه السردية صدًى في واشنطن إذا اقترنت بضماناتٍ توفّرُ بيئة أعمال مستقرّة وآمنة للشركات الأميركية. ويبدو أنّ الولايات المتّحدة تراهن على فكرة أنّ المشاريع الاستثمارية الكبرى يمكن أن تُساهمَ في تقييد سلوك المجموعات المسلّحة، أو على الأقل تحييد قدرتها على التصعيد. وبهذا المعنى، تعكسُ الإستراتيجية الأميركية براغماتية ترامب المعروفة بنزعتها التعاقدية المباشرة. فمن خلال تسهيل تدفّق الاستثمارات إلى الشرق والغرب على حدّ سواء، تسعى واشنطن إلى ترسيخِ توازنٍ هشّ يخدم مصالحها قصيرة الأجل في مجالي الاستقرار والوصول إلى الموارد، فيما تبقى المسائل السياسية الكبرى من دون حلّ.

في العموم، شكّلت زيارة بولس، (وللعلم نجله هو صهر ترامب)، إشارةً إلى عودةٍ محتملة للولايات المتّحدة إلى الساحة الليبية، ولكن بمقاربةٍ أكثر براغماتية ومبنية على المصالح. فبدلًا من دعم التحوّلات الديموقراطية كما في العقود السابقة، تُركّزُ الولايات المتّحدة اليوم على إعادة رسم ملامح موازين القوى المحلّية، وتأمين شراكات في مجال الطاقة واحتواء الخصوم الجيوسياسيين. وفيما قد يرحّب بعض القوى الليبية في هذا الانخراط باعتباره خطوة نحو الاعتراف الدولي، يبقى غيابُ إطارٍ واضحٍ لبناء السلام سؤالًا مفتوحًا: هل تستطيع هذه الديبلوماسية المتجدّدة أن تؤسّسَ لسلامٍ مُستدام في بلدٍ مُثخَن بانعدامِ الثقة وتنازُع الشرعيات؟

وبالنسبة إلى النُخَب السياسية الليبية، توفّرُ هذه الزيارة لحظةً للتفكير. فالانخراطُ الأميركي المتجدّد، على الرُغم من صياغته تحت شعار الاستقرار والأمن، يوحي بأنّ القوى الدولية تُعيد تقييم أدوارها في المشهد الليبي المُتَغيِّر. وستُساهمُ كيفية تفسير القوى الليبية لهذه التطوّرات واستجابتها لها، سواء كفرصةٍ لفتح مسارٍ سياسي أكثر شمولًا أو كتقاطع مصالح مؤقت، في تحديدِ ملامح المرحلة المقبلة من مسار البلاد. وإذا ما توافرت مساحةٌ لحوارٍ بشأن إطارٍ مشترك، فقد يشكّل ذلك مدخلًا لتخفيفِ حدّة الانقسامات وتمهيد الطريق لسلامٍ أكثر استدامةً.

Exit mobile version