فَرحَتُهم بالوطن وصَدْمَتُهم بالسُلطة

هنري زغيب*

في سهرةٍ جمعَتْني قبل ليلتَين بصديقٍ عزيز، أَخبرَني عن عودة ابنتِه هذا الصيف، وقيامِها مع زوجها الإِنكليزي برحلاتٍ سياحيةٍ داخليةٍ تُعَرِّفُهُ إِلى ما يتيسَّر لها من مناطقَ في لبنان، جبَلًا وساحلًا، ومعالِمَ رئيسىةً من طبيعة لبنان الفريدة. ولدى سؤَالي عن انطباع زوجِها، أَجابني صديقي بما كنتُ أَتوقَّعه من إِعجابه، ومن تعلُّقِ ابنتِه بلبنان، وحُبِّها العودةَ إِليه كلَّما سنَح لها وقتُ الْتزامها المهني في بريطانيا. ولم يُخْفِ ما يَصدُم ابنتَه وزوجَها من تعثُّرات لوجستية يوميَّة بسبب ما يعتَوِرُ بنيتَنا التحتية من شوائبَ مُزْمنة.

وفي مناسبة أُخرى لدى صديقٍ آخر، أَخبرَني أَنَّ ابنتَه الأَكاديمية في جامعة أَميركية كبرى، قرَّرت أَمس مرغَمَةً تقصيرَ إِقامتها في لبنان بسبب ما يَصدمُها من إِعاقات يومية تُفسِد عليها حبَّها لبنانَ والعودةَ إِليه ولو صيفًا فقط.

صحيحٌ، أَنَّ من أَجملِ ما نُعاينُه هذا الصيف، كما تقريبًا كلَّ صيف، عودةَ اللبنانيين في الخارج إِلى أَرضِهم الأُم في وطنِهم الأَب، وبهجَتَهم بهذه العودة محضونين بأَهلهم والأَصدقاء، ونوستالجيا مطارحَ كم يحلُمُون بها وهُم في بلدان البُعاد، ويحِنُّون لزيارتها فيعودون إِليها صيفًا. لكنهم يُصدَمون بما يُفسِد صيفَهم من سوءٍ في بعض المواقف والأَشخاص، ناجمٍ عن تفَلُّتٍ في مواقع ما زالت على حالها من سُوءٍ منذ سنواتٍ بدون معالجة. لذا أَقول دومًا إِنَّ اللبنانيين يهُجُّون لا من الوطن الحبيب بل من الرفاه السليب، بسببِ فساد السلطة التي تُدير الدولة. وحين هُم في بلدان الهجرة يحنُّون للعودة إِلى هناءة الوطن الحبيب لا إِلى فساد السلطة الرهيب.

هذا هو الفرق غيرُ الواعي في أَذهان الكثيرين. يُعبِّرون عن تذمُّرهم من الوطن فيما واقعًا يتذمَّرون من السلطة وتقصيرِها، ومن الدولة وتعتيرها. إِنهم يعشَقون الوطن ولا يعبِّرون صحيحًا عن ذلك  فيخلُطون بين الوطن والدولة والسُلطة.

أُكرر هنا ما أُردِّده دومًا: الوطنُ هو مجموع الثوابت السائرة في الزمان لا تتغيَّر، من طبيعة وتاريخ وآثار وحضارة وأَعلام خالدين، بينما السلطةُ زائلةٌ متغيِّرة، والدولةُ متوقِّفة على السلطة التي تُديرها. فالسُلطة الصالحة تُدير دولة صالحةً برفاه بَنِيها، والسُلطة الفاسدة تتحكَّم قبائليًّا وعشائريًّا بدولة قبائلية وعشائرية.

لذا يأْتي مهاجرونا صيفًا، لهيفين إِلى لبنان الوطن، وينصَدمون بفساد لبنان السُلطة في الدولة، فيرجِعون إِلى مَهاجرهم محتفظين عاطفيًّا بصورة الوطن، لا بصورة السلطة التي حين تُفْسِد الدولة تُشَوِّه صورةَ الوطن.

وستبقى خالدةً في الأَجيال، حاليِّها والآتي، صورةُ الوطنِ البهيةُ، ترافقُ كلَّ مَن يفِدُ صيفًا من مُهاجرينا، حتى إِذا عاد إِلى بعيدِهِ تنضَح في باله الذكريات، فترافقه الصورةُ النوستالجية: “احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي… يا نسيم اللّي مارق عَ الشَجر مقابيلي… عن أَهلي حكايِه، عن بَيتي حكايِه، عن جار الطُفولِة حكايِه طويلِه… خَبِّرني كيف حال الزَيتون، والصَبي والصَبيِّه بِفَيّ الطاحون، واللوزِه والأَرض وسمانا… هَو هنّي بلَدنا وهَوانا… زهْر الإِيّام البخيلِه… احكيلي احكيلي عن بلدي احكيلي”.

Exit mobile version