صفحات خالدة من إِرث شارل قرم

هنري زغيب*

مِن الشعراء مَن لا يتعدَّى إِرثُهم مجموعةَ قصائدهم، منشورةً أَو مخطوطة، فلا ذكْرَ لهم في إِطلاق نشاطٍ، أَو إِنشاءِ تَحرُّكٍ، أَو حضورٍ فاعلٍ ميدانيًّا في بيئتهم.

ومِن الشعراء مَن ينْشَطون، خارج شعرهم ونتاجهم، إِلى إِطلاق نشاطٍ، أَو تأْسيسِ حلقةٍ أَدبية، أَو نَشْر مطبوعةٍ تُعنى بأَهل الشعر والأَدب والفكر والعلْم، والثقافة بمعناها الأَوسع.

من هذه الفئة الناشطة: الشاعر اللبناني الفرنكوفوني شارل قرم (1894-1963). فهو صاحب رسالة فكرية سعى إِلى ترسيخها إِيمانًا بلبنان اللبناني، بدءًا من نتاجه شعرًا ونثرًا، متوَّجًا سنة 1934 برائعته الخالدة “الجبل الملهم”، وعليها نال سنة 1935 “جائزة إِدغار آلن بو الدولية للشعر الفرنسي”، وكان تبارى إِليها 128 مرشَّحًا من 14 بلدًا.

عدا نتاجه، أَطلَق شارل قرم “المجلة الفينيقية” سنة 1919، مُصْدرًا منها أَربعة أَعداد بين تموز وكانون الأَول 1919، حتى إِذا أَوقفَها، أَطلق سنة 1920 منشورات “المجلة الفينيقية” مُصْدرًا فيها كُتُبًا روائعَ من شعراء لبنان بالفرنسية.

ولم يكتفِ بل أَنشأَ، قبل تسعين سنة (1935)، حلْقةَ “صالون أَدبي أُسبوعيّ”، سمَّاها “الصداقات اللبنانية”، في التاسعة مساءَ كلِّ سبت، ضمَّ إِليها نخبةَ أُدباء لبنان وشعرائه ومفكِّريه، في ندوات، وقراءَات شعرية ونثرية حرَّكَت كل المجتمع الأَدبي اللبناني.

أَمامي الآن بضعُ بطاقاتِ الدعوة إِلى تلك الندوات: أَفتح بطاقة كانون الأَول/ديسمبر 1949، وفيها لأَربع أُمسيات السبت قراءات من الشعر الفرنسي يتلوها شارل قرم. وفي بطاقة آذار/مارس 1950 أَقرأُ بين أُمسيات السبت: محاضرة فلسفية للدكتور خليل الجر عن “ابن خلدون رائد السوسيولوجيا” (السبت 18 آذار/مارس)، والسبت 25 آذار/مارس محاضرة علْمية عن “عالَم النجوم في الفلَك” للأَب جاك پلاسَّار مدير “مرصد كسارة”. وبين أَربع أمسيات السبت لشهر أَيار/مايو 1950 أَقرأ: السبت 6 أَيار/مايو محاضرة فلسفية عن المانوية للدكتور خليل الجر، ومحاضرة أَدبية لشارل قرم عن “صورة العذراء في الشعر الفرنسي من القرون الوسطى حتى القرن العشرين”، السبت 13 أَيار/مايو محاضرة طبية للدكتور جوزف صالح “السرطان هذا المجهول”، السبت 20 أَيار/مايو محاضرة لرشدي معلوف عن الشاعر الإِنكليزي ت. إِس. إليوت (نوبل الأَدب 1949). السبت 27 أَيار/مايو محاضرة أَدبية لتوفيق يوسف عواد عن القصة والرواية في الأَدب اللبناني، ومحاضرة للمحامي جان ملحمة عن “إِرنست رينان في غزير”. وفي بطاقة حزيران/يونيو 1950 أَقرأُ بين الأَربع الأُمسيات: السبت 3 حزيران/يونيو “مفهوم الأُعجوبة في الديانات الإِبراهيمية التوحيدية الثلاث” للأُستاذ نجيب موصلي، السبت 13 حزيران/يونيو محاضرة علْمية للدكتور وليم نعمة عن “أَحدث اكتشافات الطب للجهاز الهضمي”، السبت 17 حزيران/يونيو محاضرة “كوميديا الأَوهام” للناقد فيكتور حكيم، السبت 24 حزيران/يونيو محاضرة المحامي فيليب صفا عن “الدعائم الهندسية في قصور دير القمر”.

أُقلِّبُ هذه البطاقات بشغَف اكتشاف هذه البادرة الرائدة قبل تسعين سنة (1935). ووَدِدْتُ، لولا ضيقُ الوقت، أَلَّا أَتوقَّف عن نشْر ما فيها. سوى أَنَّ ما ذكرتُ كافٍ ليعطي لمحة عن الصفحات الخالدة في إِرث شارل قرم. وبين ما قرأْتُهُ عن هذا العبقري اللبناني وتَرَسُّلِهِ في العمل من أَجل لبنان اللبناني، هذه العبارة من صديقه رشدي معلوف: “كان شارل قرم أَولَ مَن علَّمنا كيف نحب لبنان، وكيف يجب أَن نغنِّي لبنان، وكيف ندافع عن لبنان، وكيف نكون بنَّائين فنُعلي صَرح لبنان”.

Exit mobile version