هنري زغيب*
ظِلَّه.. بل فِلذةً منه.. أَكثَر؟ الفِلذةَ الأَغلى..
هكذا كانت، من يومِ نذَرَت أَن تُكرِّسَ له عُمْرها. يومها (1977) زارَتْه في مكتبه، شَهَرَتْ إِيمانَها به، وأَخذَت تَجهَدُ أَن تكونَ يُمناهُ وذاكرتَهُ ورفيقةَ كلِّ يوم.. ونجحَت أَن تكونَها طيلة 37 سنة، حتى انطفأَ بين يدَيها ليلةَ 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2014.
هو حَظْوتُها الحياتيةُ الوحيدة، وهي محظيَّتُه الأَدبيةُ الأَرقى والأَنقى والأَبقى.
رفيقةَ دربه الوفيةَ كانت، ورفيقةَ أَيامه المديدة. عرفَتْ كيف تَبقى في الظل حين شمسُه تُشْرق بسُطُوعها الفريد. لم تتقدَّمْهُ يومًا ولا تقدَّمَت دونَه. في جلساتنا إِليه، كانت تبقى مُنْصتَةً باستغراقٍ، كأَنها لم تسمع يومًا بما يقول، مع أَنها الوحيدةُ التي تعرف ما يقول قبل أَن يقولَه. مع ذلك، كانت تُجالسُه صامتة. تُصغي إِليه بعينيها، وترى إِليه بسَمْعها، حتى إِذا خانَتْهُ معلومة، أَو فاتَهُ رقْم، أَو نسيَ تاريخًا، أَو تَعَثَّر في تَذَكُّرِ بيت، أَلقَمَتْهُ في اتِّضاع القيِّمة على ذاكرته.
في بيتها هي حارستُه، مُوَقِّتةُ أَدويته، مروِّضَةُ تمارينه الجسدية. في المستشفى هي ممرِّضتُه الساهرة عليه نهارًا، والحاسبةُ نَفَسِه ليلًا. في الزيارات هي رفيقَةُ خطواته، ممسكةً يده في دُخولٍ ومغادرة.
“لَبْنَنَ” اسمَها عن الفرنسية. من ماري روز أَخرج “مريم ورديّة”. من”:آ-ميدي” أَخرج “عند الضهرية”. فسرى بيننا، نحن الحلقة المقرَّبة، لقبُها المحبَّب: “الوردية”.
تَكَرُّسُها له، بهذه الكُليَّانيَّة، يأْخذني إِلى مُتَكرِّسةٍ أُخرى لعبقريٍّ آخرَ من لبنان: باربرة يونغ في حياة جبران. عاشت معه في محترفه آخرَ ستّ سنوات من حياته بإِيقاعٍ شبهِ يوميّ، حتى إِذا غاب (عند الحادية عشْرة إِلَّا خمس دقائق من ليلة الجمعة 10 نيسان/أبريل 1931)، نسجَت حياتها معه في كتاب شاعريِّ الأُسلوب، هاجْيُوغْرافيِّ المضمون (الهاجْيُوغْرافيا=سيرة القديسين مكتوبةً بخُشوع وانحناء وتعظيم)، فإِذا كتابُها “هذا الرجُل من لبنان” (نيويورك 1945)، من أَهم المراجع عن حياة جبران في يومياته الخاصة، كَتَبَتْهُ وهي تُتابع أَنفاسه بانحناءَة المؤْمنة المتعبِّدة المأْخوذة بهالة العبقري أَمامها.
ما يفصل بينهما أَنَّ باربرة كتبَتْ سيرتها مع جبران ونشرَتْها. بينما ماري لم تكتُب، وأَخذَتْ معها اللحظاتِ الساطعةَ على حياته. وبعد غيابه، لملَمَتْ أَوراقه، هي الوحيدةُ الأَدرى بها، ورَتَّبَتْها ورقةً ورقة، نَفَسًا نَفَسًا. وبعد دُفعة أُولى على حياة الشاعر، وبحضوره وموافقته، دفعَت بها إِلى جامعة سيدة اللويزة – زوق مصبح، فاحتفظَت بها كنزًا فريدًا. وفي الأَسابيع الأَخيرة من حياتها، أَخذَتْ تدفع إِلى الجامعة بالدُفعات الباقية. ولعلَّ آخر ما مرَّ في عينَيها، قبل أَن تُسْدِلَهما على الإِغماضة الأَخيرة، رؤْيةُ إِرثه بهيًّا في عناية الجامعة النبيلة الوفيَّة، كما يَليق الصَونُ والحفْظُ والعَرضُ والنشْرُ بهذا التراث الفريد.
في 4 تموز/يوليو 1910 (بحسب سجلّ العماد: 15 آب/أغسطس 1910 في كنيسة مار يوسف – زحلة) وُلد سعيد عقل. وكنَّا كلَّ 4 تموز نتحلَّق حوله ببهجة المعايدة، وفرَح اللقاء بذكرياته يرويها لنا بنوستالجيا محبَّبة.
منذ غيابه قبل 10 سنوات، بتْنا نتحلَّق حول ماري روز كي نحتفلَ معها بذكرى مولده. وهذا العام، كنا نتهيَّأُ لزيارتها كي نحتفلَ معها كالعادة، فإِذا بنا يومها نتحلَّق حول النعش الذي آثرَتْ أَن تنام فيه كي يأْخذَها إِلى الحلم الأَسمى: أَن تذهَبَ هي، في يوم ذكرى مولده بالذات (4 تموز/يوليو) إِلى للقائه وحدَها في الـ”هُناك” الذي سيجعلُها معه إِلى الأَبد، بعدما كانت معه في الـ”هُنا” 37 سنة أَرضيَّة.
قبل 24 ساعة من رحلتها إِليه، وقَّعَت عقدًا، مع المخرجة هلا مراد، بموافقتها على تصوير فيلمٍ وثائقيٍّ عنه. وفي اليوم التالي، قبل أَن يجفَّ حبرُ توقيعها، حملَتْهُ إِليه “هدية العيد”، هي التي كانت هديَّـتَه الأَغلى في جميع مناسباته.
ماري روز أَميدي، في حياة سعيد عقل، ضَوءٌ نقيٌّ سيبقى في كل فاصلةٍ من حياة الشاعرِ الذي، طوبى له، وجَدَ مَن يُحافظ على إِرثه في حياته، ومَن يَحفظُه بعد غيابه، فلا ينقضي إِرثه مع انطفاء نَفَسِه الأَخير.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).