الدكتور فيكتور الزمتر*
أمّا وقد صمتت لُغَةُ البارود، فقد حانت ساعةُ المُساءلة، شرطَ أنْ تُستَتْبَعَ بالمُحاسبة العادلة، لا على طريقة نُزول الجماهير لتهتُف بالنَّصر المُزَيَّف.
في حمأة الهجمات الجويَّة والصاروخية، بعد دزينةٍ من أيّام الحرب الإسرائيلية المُحرَّض عليها طويلًا، ضدَّ إيران، فاجأ الرئيسُ الأميركيُّ دونالد ترامب العالمَ بالإتفاق على وقف إطلاق النار، تاركًا للرأي العام الغافل فكَّ طلاسم بُنوده. فمنهم من حصرَ الإتفاق بوقف إطلاق النار، على أن تتكفَّلَ المُفاوضاتُ المُفترَضةُ لاحقًا بتفصيلِ البنود، بينما جنحَ خيالُ البعض الآخر إلى البناء على زيارة وزير خارجية إيران عباس عراقجي إلى موسكو، غداةَ الضربة الأميركية للمفاعلات الإيرانية الثلاثة، مُرجِّحًا كفالةَ روسيا لسلمية البرنامج النووي الإيراني. إلّا أنَّ الإتفاق لم يخلُ من الطرافة اللّافتة، ليس فقط لجهة تضمينه توقيتين لوقف إطلاق النار، بل لجهة تكريمه المُعتدي بمنحه مهلةَ اثنتي عشرة ساعةً لوقف إطلاق النار، بينما غَرَّم المُعتدى عليه بوقف إطلاق النار بعد ستِّ ساعاتٍ!
على كلِّ حالٍ، لا بُدَّ للفريقَين من بعض الوقت، كي يدفنا ضحاياهما، ويَطَّلِعا على ما لحقَ بهما من خسائر ماديَّةٍ، بانتظار أن تتظهَّرَ معالمُ الإتفاق، الذي من خلاله، تتظهَّرُ هُويَّتي الرابح والخاسر، في صراعٍ تسابقَ فيه الفريقان إلى حجز الساحات للإحتفال بالنَّصر المُدَّعى، لا فرق إنْ كان نصرًا إلهيًّا أو نصرًا مؤزَّرًا. وغابت عن مشهد الإعلان الخشيةُ من أنْ يكونَ الإتفاقُ قد انطوى على اتفاقٍ أميركيٍّ-إسرائيليٍّ جانبيٍّ، مثلما حصل، أخّيرًا مع لبنان، يُخوِّلُ تل أبيب ضربَ إيران كلَّما وجدت حاجةً لذلك.
ولعلَّ أُولى الملاحظات على هذه الحرب، أنَّها كانت خاطفةً، إلى حدٍّ بعيدٍ، وبلا نشرٍ لفيالق الجنود، ما خلا حرص إسرائيل على نشر جيشٍ من الجواسيس والعُملاء في أرض العدو، الأمرُ الذي مكَّنَها من حصد أرواحٍ العديد من القيادات الرفيعة والأدمغة النابغة. فالحربُ اقتصرت على الآلة والتكنولوجيا، بقدر ما شكَّلت تنفيسًا للإحتقان الإسرائيلي، المُتراكم منذُ نجاح الثورة الإيرانية، في العام 1979، لحساسية تل أبيب المُفرِطة من ظهور قُوَّة إقليميةٍ، تُناصبُها العداء وتُنافسُها على التسلُّطَ على رقبة الشرق الأوسط.
إلى ذلك، تركَ الهجومُ الإسرائيليُّ على إيران نُدوبًا بين الكيانين، ستبقى راسخةً في الوجدان الفارسي، رُسوخَ مُبادرة الملك كورش الكبير الأخميني، في وجدان اليهود، يوم رعايته لعودتهم إلى ديارهم، بعد سبيهم من قبل البابليين.
ولَئِنْ كانَ التقييمُ الحرفي للمُجابهة العسكرية، مُجريات ونتائج، من صلاحية أهل الخبرة والإختصاص، فلا يفوتُ عابر السبيل غياب الطائرات الحربية الإيرانية عن سماء إيران، بينما كانَ الطيرانُ الحربيُّ الإسرائيليُّ سيّدَها، ينتهكُ عُذريتها طولًا وعرضًا، طيلة أيّام الحرب. كذلك الحالُ، بالنسبة إلى الدفاعات الجوية الإيرانية، مُنذ الساعات الأُولى للحرب، إذ كيف لخطرٍ أن يُواجَهَ ولحربٍ أن تُكسَبَ، والأجواءُ الوطنيةُ متروكة لعربدة عدوٍّ يفتقرُ قاموسُه للرفق وللرحمة؟
عاملٌ أخرٌ افتقرت إليه إيران في صراعها غير المتكافئ مع إسرائيل، وهو عدم الأخذ بالحسبان أنَّ الكيانَ الإسرائيليَّ إنَّما هو امتدادٌ غربيٌّ مغروسٌ عميقًا كالإسفين، شاطرًا العالم العربي بين جناحَيه الآسيويّ والأفريقيّ. وكان لسياسة إيران في إصرارها على تصدير ثورتها إلى جوارها العربي، من خلال تشكيل الأذرُع، أنْ بعثت الحياةَ في الخلاف التاريخيّ، على وَرَثَة النبي محمد، ذلك الخلافُ الحاضرُ الغائبُ، الذي فشلت في طيّ دفائنه قرونٌ من انقسام العائلة الإسلامية الواحدة.
وبالقدر ذاته، فشلت إيرانُ، موطنُ أعرق الحضارات العالمية الكُبرى، في كسب وِدِّ العديد من “دُوَل الإستكبار العالمي” النافذة، كما يحلو ل”إيران الثورة” تصنيفَها، من مُنطلق قناعة باعثها، الإمام روح الله الخُميني، بأنَّ الفكرَ الإستعماريَّ، الغربي تحديدًا، إنَّما هدفُه الهيمنةُ على ثروات العالم الإسلامي وعلى قراره السياسي، وهذا ليس هلوسةً ولا هذيانًا. وهذا ما فاقمَ التباعُدَ الدولي والإقليمي مع إيران، بسبب الفشل في اعتماد سياسة بناء جسور التواصُل والحوار، بقدر الفشل في جعل إيران ندًّا موثوقًا يُعيدُ التوازُنَ العربي والإسلامي مع إسرائيل. وهنا، لا غضاضةَ بالقول، بغير مواربةٍ، أنَّ المسؤوليةَ الإيرانيةَ-العربيةَ مُشتركةٌ في فشل توظيف الثورة الإيرانية لصالح القضايا العربية والإسلامية. واستطرادًا، لطالما نَفَذَت تل أبيب من الشقاق العربي-الفارسي، ونجحت في تسويق الكيانَ الإسرائيلي كعضدٍ للدول العربية في الكباش المُتَوَهَّمِ مع إيران.
وجاءت إفادةُ “الوكالة الدولية للطاقة الذريَّة” بأنَّ إيران نجحت بتخصيب ما يزيدُ على أربعمئةٍ كيلوغرام من الأورانيوم المخصَّب بنسبة 60%، لتُثيرَ المخاوفَ من المرامي الإيرانية، المُناقضة لادّعائها بسلميّة برنامجها النووي، الذي لا يحتاجُ إلى أكثر من 5% من التخصيب للأغراض السلمية.
ويبقى التبنّي الأميركي الصلبُ للكيان الإسرائيلي، ظالمًا كانَ أو مظلومًا، لا يُقيمُ وزنًا لتآكُل مصداقية الولايات المُتحدة في العالم، ولا يجرحُ كبرياءَها وهي تُستدرَجُ لخوض الحروب نيابةً عن إسرائيل، القُوَّةُ النووية الوحيدةُ في منطقة الشرق الأوسط.
يتفاخَرُ القادةُ الإسرائيليون بالقول أنَّهم، في حربهم على إيران، قد حقَّقوا أكثر مما توقَّعوه. ولم يكن بإمكانهم تحقيق ذلك الإنجاز لولا النجدة الأميركية الحاسمة بتدمير المفاعلات النووية الإيرانية. ومع ذلك، يقولون بأنَّ الأمرَ لم ينتهِ بعد، وفي جُعبة نهمهم البرنامجُ الباليستي وقَبعُ النظام، عبر تأليب الشعب على قادته، لإحلال نظامٍ يتماهى مع نظام الشاه السابق. إلّا أنَّ الرئيس ترامب، لتاريخه، غير مُتحمّسٍ لمُماشاة إسرائيل وُفق أهوائها النَهِمَة، خوفًا من شيوع الفوضى.
وفي هذا السياق، تندرجُ حملةُ التشويش، التي قادتها وسائلُ الإعلام الأميركية، المعروفةُ الهوى السياسي، حول تسريباتٍ استخباراتية تقولُ بفشل الضربة الأميركية في تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل، ما يجعلُ من الإتفاق على وقف إطلاق النار مُجرَّدَ وَقْفَةٍ مرحليةٍ مفتوحةٍ على إمكانية الخرق، إمعانًا في الدلع الإسرائيلي لدى واشنطن، وطلبًا لمزيدٍ من إبتزازها المعهود لاحقًا.
بكلِّ الأحوال، من حقِّ الرئيس ترامب أنْ يغترَّ بالنَّصر الشخصي، لتدميره البرنامج النووي الإيراني، ولإنقاذ بنيامين نتنياهو من ورطة إيران. كما يحقُّ لنتنياهو أنْ ينتشي بما اعتبره نصرًا مُبينًا، في سعيه إلى رسم الشرق الأوسط (الإسرائيلي) الجديد. أمّا إيران، فلم يعكسْ أداؤها العسكري ما رفعته من شعارات الإدِّعاء والتحدّي. فكان حريًّا بها أنْ تكونَ أكثرَ جاهزيةٍ لمُلاقاة إسرائيل المُتفوِّقة تصميمًا وتكنولوجيًا وتخطيطًا وتنفيذًا. يبقى العالمُ العربيُّ أحدَ الخاسرين الرئيسيين، لالتزامه الصمت المدوّي، مفتونًا بمُشاهدة الصواريخ والمقذوفات العابرة لأجوائه، وكأنَّها ألعابٌ ناريةٌ، غير مُبالٍ بهُويَّة الرابح الجديد!
والسؤالُ اليوم، دورُ مَنْ، بعد أنْ دانَ، أو يكادُ، العالمُ العربيُّ للعصر الإسرائيلي؟ لقد أضحت غزَّة والضفةُ الغربيةُ مُستفرَدَتَين من كلِّ نصيرٍ فاعلٍ، يُبقي على شُعلة الأمل بإحقاق الحقِّ الفلسطيني، وإن طالَت مُعاناته.
واستباقًا لتقارير الخبراء حول مُجريات هذه الحرب وما حِيكَ في خفاياها من خبايا، لا ضيرَ من إجراء تقييمٍ إيرانيٍّ ذاتيٍّ موضوعيٍّ لمآلاتها، لجهة ما شابَها من تقصيرٍ فاضحٍ في الإعداد والإستعداد، مع ضرورة إيلاء اهتمامٍ خاصٍّ للمسبِّبات التي هيَّأت البيئة الداخلية لتكونَ مرتعًا خصبًا للتعامل مع العدو ضدَّ مصالح الوطن العُليا.
لقد نجحَ نتنياهو بتأجيل مثوله أمام القضاء، بتُهَم خيانة الأمانة وتلقّي الرشوة والإحتيال. وها هو، بهروبه المُظفَّرِ إلى الأمام، بحروبٍه المُتزامنةِ على خمس جبهاتٍ، من غزَّة إلى إيران، مُرورًا بلبنان وسوريا واليمن، قد ينتهي به الأمر واحدًا من كبار رجالات إسرائيل، مُخلَّدًا، رُبَّما، بالنُصُب وأكاليل الغار.
وأيَّاً كان الموقفُ من نتنياهو، المفتونُ بالإرث العِبري، واللّاعبُ البارعُ على وتره، والعالِمُ الدقيق بخفايا صنع القرار الأميركي، فقد حقَّقَ للكيان العِبري الخلاصَ من جملة أعداءٍ، دفعةً واحدةً، باسطًا هيمنة وهيبة بلاده على بساط الشرق، بأدناه وأوسطه وأقصاه. وهذا ما قد يُوقِعُ الرَيبةَ والقلقَ في دائرة التجاوب الشعوري الإسلامي للعالم العربي، من إيران، مُرورًا بتركيا، وُصولًا إلى باكستان.
- الدكتور فيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.