جوهرُ الصفات بين السمْع والإِنصات

هنري زغيب*

مُنْصِتين كنَّا، في خَشْعة الرهابين، ونحن نُتابع محاضرةَ ميّ الريحاني في الجامعة الأَميركية قبل يومَين. كانت قاعةُ متحفِ الآثار التاريخي في الجامعة، تُردِّد ما تَشْرحُهُ ميّ في محاضرتها عن “الحوار بين الثقافات”، وعلى الأَخص: “مهارات النساء في المفاوضات”. ركَّزَت فيها على سبْع نقاطٍ رئيسَةٍ في أَيِّ حوارٍ أَو مفاوضات، هي: مفهومُ السوى، التعاطُفُ الانسجامي مع الآخرين، التسامُحُ، مهارة الإِنصات التام، بناءُ العلاقة السليمة مع الآخَر، قابليةُ الانفتاح على وجهات نظَرٍ جديدة، تَقَبُّلُ مفهوم التعلُّم المتواصل المستدام.

من هذه السبْع النقاط، وجميعُها حيويةٌ لمجتمعنا اللبناني، أَقتطف الرابعة: “مهارة الإِنصات التام”، لِما في مجتمعنا من شوائبَ ومثالبَ ومعايبَ تشكِّل عاداتٍ سيئةً بغياب دقَّةِ الإنصات، وحُسْنِ الاستماع، وأَخلاقيات التصرُّف في اجتماعٍ أَو نَدوة أَو مؤْتمر.

في قواعد هذه المهارة: تمييز واضح بين السمْع والإِنصات. فالسمْع قد لا يكون إِراديًّا. نكون في حديثٍ ما، في مكانٍ ما، في انشغالٍ ما فنسمع صوتًا خارج انهماكنا من دون أَن نتقصَّد سمعه. أَما الإِنصات فإِراديٌّ: نتعمَّد الإِنصات إِلى حديثٍ أَو صوت أَو محاضرة.

وفي قواعد هذه المهارة كذلك: أَهمُّ من سَماع كلامٍ يقولُه السوى، أَن نركِّز على تَفَهُّم ما يقوله السوى، لاستجلاءِ ما يعنيه من قوله، وأَن نكون حاضرين ذهْنيًا عند الإِنصات، ومتنبِّهين إِلى كلِّ ما يقوله، وأَن نُصغي لنَعِي لا لنُهَيّئِ مسْبقًا جوابًا يخطر لنا قد لا يكون من نسيج ما يقوله المتكلِّم، وأَن نتجنَّب الرأْيَ المسْبَق في رفض أَو في مناقشة ما يقولُه حتى قبل أَن يُنهي كلامه، وأَن نطرحَ، عند نهاية كلامه، أَسئلةً من ضمْن حديثه كي تأْتي أَجوبتُه شارحةً حديثَه.

هي هذه عناصرُ التهذيبِ وأَخلاقيةُ الإِصغاء. فالإِنصات مهارةٌ مثلَما التكلُّم مهارة. وحُسْن الإِنصات لا يقِلُّ أَهميةً عن حُسْن التكلُّم. هكذا يكون ممجوجًا: مَن يتكلَّم مع جاره فيما أَحدٌ آخرُ يتكلَّم، أَو مَن يلْهو بهاتفه الخلويّ في حينَ آخَرُ يتكلَّم، أَو مَن يُهاتف أَو يجيبُ عن اتِّصالٍ خلال ندوةٍ أَو محاضرة، أَو مَن يتلهَّى بأَيِّ حركةٍ جانبيةٍ ولا يُصغي إِلى المتكلِّم، حتى إِذا انتهى المتكلِّم من حديثه راح ذاك يسأَلُه عمَّا يكون سَهَا عن سماعه، أَو يناقشُه في موضوع غيرِ الذي يكون طرحَهُ المتكلِّم…

هي ذي عناصر سيِّئةٌ في المجتمع: مَن لا يُصغي كلِّيًّا ويريد أَن يناقش، أَو مَن يَنْشغلُ بهاتفه الخَلَوي في محاضرةٍ عامة، أَو نَدوة خاصة، أَو نقاشٍ في حلْقة ضيِّقة، أَو يقاطعُ المتكلِّمَ ليسأَلَه أَو ليناقشَه قبل أَن يُنهي المتكلِّمُ حديثَه تاركًا فسحةً للأَسئلة عند ختام كلامه.

في الجامعة الأَميركية، داخلَ قاعة متحف الآثار التاريخي، كانت بيني وبين الخارج نافذةٌ تطلُّ حدِّي على شارع بْلْس بعيدًا عني بضعة أَمتار. غير أَنني، وأَنا أُصغي إِلى ميّ الريحاني، كنت أَشعر بمسافةٍ بعيدةٍ شاسعةٍ بين ما تقوله ميّ، وما أَعرفه في مجتمعنا من مثالبَ ومعايبَ يلْزم أَن يتنبَّهَ لها معظمُ شعبِنا كي يُشفى من أَمراضٍ اجتماعيةٍ تتناسلُ عندنا من جيلٍ إِلى جيل.

محاضرة ميّ الريحاني – وهي اكتَسَبَتْها من جامعة هارفرد في سنةٍ أَكاديمية كاملة حول: “حُسْن القيادة” في كل قطاع – ودِدتُ لو تتعمَّم نقاطُها عندنا في المدارس، في الجامعات، في الأَندية الثقافية، في كل تَجَمُّع واعٍ يَنشُر في الحاضرين مبادئَ سلوكيةً أَساسيةً، بينها: ذَوقُ الإِصغاء، وأَخلاقُ الاستماع لاستيعاب الحديث قبل ارتجال الأَجوبة، وخصوصًا خصوصًا: وعيُ جوهرِ الصفات بين السمْع والإِنصات.

Exit mobile version