مَأزَقُ “حزب الله” الإسرائيلي-الإيراني

مهنّد الحاج علي*

مع مرورِ كلِّ يوم منذ أن شنَّت إسرائيل حملتها العسكرية المُستمرّة ضد إيران في 13 حزيران (يونيو) الجاري، أصبح السؤال عمّا إذا كان “حزب الله” سيدخلُ الصراعَ -سواءً بناءً على طلب إيران أو من تلقاء نفسه- أكثر إلحاحًا. هل سينضمُّ الحزب الشيعي اللبناني إلى القتال، على الرُغمِ من هزيمته في حرب الشهرين العام الماضي (أيلول/سبتمبر-تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، حيثُ ألحقت إسرائيل الدمار بجنوب لبنان ووادي البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت؟ أم سيتنحّى جانبًا ويسمح للمواجهة بأن تبقى بين إسرائيل وإيران؟

هذا ليس قرارًا سهلًا بالنسبة إلى جماعةٍ مُتحالفةٍ إيديولوجيًا مع إيران وتعتمدُ عليها هيكليًا. يتلقّى “حزب الله” تمويلًا ودعمًا عسكريًا مباشرًا من طهران، ويَلتَزِمُ بمبدَإِ ولاية الفقيه، الذي يمنح المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي حاليًا، سلطةً إلهيةً على توجيه الحزب اللبناني. إضافةً إلى ذلك، كشفت الحرب التي استمرّت شهرين مع إسرائيل عن الدورِ المُتأصِّل للجنرالات الإيرانيين داخل “حزب الله”، سواءً ضمن مجلس شورى الحزب المُكَوَّن من سبعة أعضاء أو مراكز قيادته المشتركة. ومن المُرَجّحِ أنَّ يكونَ نفوذهم ازدادَ بعد انتهاء الحرب، نظرًا للفراغ الذي لحق بقيادة “حزب الله” العُليا عقب مقتل الأمين العام السيد حسن نصر الله وخليفته السيد هاشم صفي الدين وعددٍ كبير من كبار القادة العسكريين في العام الفائت.

حتى الآن، اختارَ “حزب الله” ضبطَ النفس. وكما كان مُتَوَقَّعًا، أصدرَ الحزبُ بياناتَ تضامُنٍ مع إيران وأدانَ الهجماتَ الإسرائيلية. ومع ذلك، فقد أكّدَ مسؤولوه والشخصيات الإعلامية التي تدورُ في فلكه للسلطات اللبنانية والرأي العام أنه ما دام الصراعُ شأنًا إسرائيليًا-إيرانيًا، فلن يتدخّلَ “حزب الله”. وقد يتغيّرُ هذا الوضع إذا اتخذت الولايات المتحدة دورًا أكثر فاعلية في الهجوم الإسرائيلي. وصرّحَ مسؤولٌ إيراني لم يُكشَف عن هويته ل”قناة الجزيرة” الفضائية القطرية بأنَّ “حزب الله” سينضمُّ إلى الحرب إذا تدخّلَ الجيش الأميركي. وحذَّرَ المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، السفير توم برّاك، الحزبَ لاحقًا من أنَّ هذا سيكونُ “قرارًا سيِّئًا للغاية”.

موقفُ “حزب الله” الحَذِر حتى الآن مفهوم. ففي النهاية، خرج الحزب مُتضرِّرًا بشدّة من حرب العام 2024. فقد خَسِرَ جُزءًا كبيرًا من ترسانته الصاروخية والعديد من كبار قادته. إضافةً إلى ذلك، فقد وَجَّهَت عملية تفجير أجهزة النداء واللاسلكي التي يملكها أعضاءُ “حزب الله” أو تابعون له، وهي عملية مُخطّطة منذ فترة طويلة بتدبيرٍ من أجهزة المخابرات الإسرائيلية، ضربةً قاصمة للحزب.

علاوةً على ذلك، فإنَّ قبضة “حزب الله” على الدولة اللبنانية قد ضعفت سياسيًا. أدّى انتخابُ قائد الجيش العماد جوزيف عون، المدعوم من الولايات المتحدة، رئيسًا للجمهورية، وتشكيل حكومة رئيس الوزراء نواف سلام، إلى تغييرِ ميزان القوى ضد الحزب.

أصبحَ نزعُ السلاح الآن أولوية وطنية عُليا، وهو أمرٌ يُذكَرُ بانتظامٍ في تصريحات رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء. وقد أكّدَ كلاهما أنَّ ذلك سيحدُثُ من خلال الحوار وليس الإكراه – مع أنَّ هذا أمرٌ قد يتغيّر في حالِ نشوبِ حربٍ أخرى. وتماشيًا مع اتفاق وقف إطلاق النار المُبرَم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2024 بين إسرائيل ولبنان، أفادت التقارير أنَّ الجيش اللبناني فكّك أكثر من 90% من البنية التحتية العسكرية ل”حزب الله” في المناطق الواقعة جنوب نهر الليطاني.

مع ذلك، وبغضِّ النظر عن إيران، فإنَّ الوضعَ الراهن غيرُ قابلٍ للاستمرار. فرُغمَ وَقفِ إطلاق النار المُعلَن في تشرين الثاني (نوفمبر)، واصلت إسرائيل غاراتها الجوية وهجماتها بالطائرات المُسيّرة، مستهدفةً عناصر “حزب الله” ومُدمِّرةً مبانٍ سكنية يُزعَمُ أنَّ الحزب يستخدمها. وقد أثّرت هذه الهجمات في قدرة “حزب الله” على إعادة تنظيم صفوفه، وفي الوقت نفسه غذّت المطالب المحلية والدولية بنزع سلاحه بالكامل. وهكذا، تحوّل وقف إطلاق النار إلى أداةِ ضغطٍ على “حزب الله”: عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا.

ومما زاد الطين بلّة هو أنَّ إسرائيل منعت المدنيين اللبنانيين النازحين من العودة إلى قراهم الحدودية، في حين تسمح لليهود الإسرائيليين المُتَدَيِّنين بالوصول إلى مواقع داخل لبنان يعتبرونها ذات أهمّية دينية. وقد أثارَ هذا الأمرُ مخاوفَ من استراتيجيةٍ استيطانية تدريجية مُماثلة لما قد يحدث في غزة. بالنسبة إلى “حزب الله”، الوَضعُ مُقلقٌ للغاية. ويُجادِلُ بعض الأصوات داخل قاعدة دعم الحزب سرًّا الآن لصالح استخدام قدراته الرادعة – ليس لإثارة حرب، بل لمنع إسرائيل من الاستيلاء على أراضٍ أخرى.

حتى هذا الرد المحدود بغرض حماية لبنان نفسه، بدلًا من دعم إيران، ينطوي على مخاطر. إن النظامَ الإيراني، الداعم الرئيس ل”حزب الله”، ليس عالقًا في حربٍ وجودية فحسب، بل إنَّ مواردَ الحزب نفسه قد استُنفِدَت، وقيادته مُهتَزّة، ومساحته السياسية تضاءلت. قد ينضبُ الدعمُ المالي الإيراني -الذي يُعاني أصلًا من ضغوط العقوبات والحرب- لا سيما مع ارتفاع تكاليف إعادة إعمار “حزب الله” وعملياته. إنَّ الدخولَ في مواجهةٍ عسكرية مع إسرائيل، مهما كانت دفاعية، سيكونُ له على الأرجح ثمنٌ باهظ.

وإذا كانَ الأمرُ كذلك، فإنَّ أيَّ تدخُّلٍ عسكري أكثر صرامةً مع الدولة اليهودية، بهدفِ الانتقام من إيران، سيكونُ أكثر تكلفةً بالتأكيد. لقد تخلّى جُزءٌ كبيرٌ من العالم إلى حدٍّ كبيرٍ عن مبادئ القانون الدولي والمُساءلة، كما يتّضِحُ من العقاب الجماعي والتطهير العرقي وأساليب التجويع التي استخدمتها إسرائيل من دون عقاب في قطاع غزّة. وبالتالي، فإنَّ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، المتهوّر وغير المُقَيَّد، قد يردُّ على أيِّ عمليةٍ ل”حزب الله” بسحقِ لبنان. في ظلِّ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تعاني منها بلادهم، ينتظر العديد من اللبنانيين بقلق ليروا ما إذا كان “حزب الله” سيختارُ خوضَ حربٍ أخرى أم سيتّخذُ أخيرًا الخيارَ الصعب المتمثّل في إعطاء الأولوية لبقائه السياسي ومستقبل الطائفة الشيعية في لبنان.

Exit mobile version